سنة «المعارضة» السورية: جلال الرزء عن وصف يشق -صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 8 janvier 2016

Subhi Hadidi

دموع الرئيس الأمريكي باراك أوباما ليست سخية، أو مدرارة غزيرة، إلى درجة تجعله يذرف بعضها حزناً على تلاميذ أمريكا الذين قُتلوا في مدارسهم بسبب قوانين أمريكا التي تسهّل شراء الأسلحة النارية؛ ثمّ يذرف بعضها الآخر، ضمن وصلة بكاء مماثلة، أسىً على عذابات العالم ما وراء المحيط (أطفال داريا ودير الزور المحاصرين، الذين يقضون جوعاً، مثلاً). المرء يتفهم خطاب ملامة كهذا، سارع إليه بعض السوريين إذْ أبصروا رئيس القوّة الكونية الأعظم وهو يمسح دموعه، وكانوا في الآن ذاته يتداولون الصور المفزعة لضحايا التجويع في المدن والبلدات السورية المحاصرة
بيد أنّ الطور، العقلي، الذي يعقب ذلك التفهم، العاطفي؛ هو الإقرار بأنّ أوباما ليس ملاك سوريا الحارس، ويُفترض أنه، منطقياً، ليس بالملاك الحارس لأية أمّة خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية. هذا الافتراض يتيح، أولاً، استذكار الانحطاط الذي ينحدر إليه زاعمو تمثيل الشعب السوري، من صنوف «المعارضات» الاستعراضية الكاذبة الزائفة كافة؛ الذين واصلوا مساخرهم هنا وهناك، بهذه الصيغة أو تلك (هذا يتشاطر على ستيفان دي ميستورا خلف الميكروفونات، ولكنه يخفض له جناح الذلّ في القاعات المغلقة؛ وذاك يستقيل بصخب، بعد انضواء مهين، وكأنّ أي سورية أو سوري محضه الثقة أصلاً؛ وثالث يحسب وزنه في قبّان التفاوض، قياساً على 16% من الأرض السورية التي يسيطر عليها سادته…)؛ ومضايا تتضوّر جوعاً، ودير الزور يخنقها مزيج مترابط من همجية النظام وتوحّش «داعش»
والحال أنه في الوسع اقتباس الانحطاط ذاته، في معدّلات تزيد أو تنقص، إزاء جميع المنعطفات الفاصلة التي شهدتها سوريا خلال العام 2015: ابتداءً من التدخل الروسي الصريح، والسافر، في أواخر أيلول (سبتمبر) الماضي؛ وانتهاءً باغتيال زهران علوش، قائد «جيش الإسلام»، أواخر العام؛ مروراً بالتصديق على الاتفاق النووي بين الغرب وإيران، واجتماعات فيينا وجنيف 3، وقرار مجلس الأمن الدولي 2254. ثمة تخبط وهزال وضحالة، في السمة العامة؛ تقترن بتبعية هذا الفريق أو ذاك، إلى تلك القوّة العظمى الإقليمية أو تلك؛ لا تنفصل عن انتهازية الإمعات وعُقَد المرضى وصراعات الديكة؛ فضلاً، بالطبع، عن قلب المعاطف وجهاً وقفا، ونقل البندقية من كتف إلى أخرى، والعجيج والضجيج والجعجعة من شاشات الفضائيات
ففي الموقف من التدخل العسكري الروسي، على سبيل المثال الأوّل، أصدر «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية» بياناً طالب فيه جامعة الدول العربية بعقد جلسة طارئة على مستوى وزراء الخارجية لبحث «العدوان العسكري الروسي» على الشعب السوري؛ معتبراً أنّ «التصعيد» الروسي «قد» يشكّل «نقطة اللاعودة» في العلاقة بين الشعب السوري وروسيا! قبل أسابيع قليلة، في المقابل، كان رئيس الائتلاف خالد خوجة، بعد لقاء مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في موسكو؛ قد صرّح بالتالي: «نقدّر الدور الذي تلعبه روسيا كصديقة للشعب السوري على مدى التاريخ»! إشارة التعجب الثالثة تذهب إلى هيثم المالح، رئيس اللجنة القانونية في الائتلاف؛ الذي قادته بصيرته الثاقبة إلى هذه الخلاصة: «تدخل روسيا هو لمساندة إيران، وليس لمساندة النظام (…) إيران بوضعها الحالي، ورغم أنها رمت بكل ثقلها، تتراجع مع النظام وحزب الله على الأرض؛ لذا جاء تدخل الروس للحفاظ مبدئياً على منطقة نفوذ الساحل، أو ما يسمى منطقة العلويين، وإفساح المجال أمام إيران للمزيد من الضغط في دمشق وضواحيها»
«هيئة التنسيق الوطنية»، أو «معارضة الداخل» كما يحلو لها توصيف موقعها؛ قالت، على لسان منسّقها العام حسن عبد العظيم، إنّ «الضربات الجوية الروسية يجب أن تترافق مع الحل السياسي على أساس بيان جنيف وخطة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا وإطلاق سراح المعتقلين، لا أن تكون المقدمة محاربة الإرهاب بما يؤثر على الحل السياسي لاحقاً». وأعرب الرجل عن «الأمل» في «أن يكون التدخل الروسي لصالح الحل السياسي الذي ينقل سوريا إلى مستقبل جديد، وإلى دولة مدنية ديمقراطية تتمتع بالحرية ويتمتع شعبها بالمشاركة في القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وقرار السلم والحرب»… ليس أقلّ
آمال مشابهة علّقها عبد العظيم على قرار مجلس الأمن الدولي 2254، على سبيل المثال الثاني، بل رأى أنّ القرار «رائع»، ويتكامل مع بيانَيْ فيينا، ويؤمّن التنفيذ الكامل (نعم: الكامل!) لبيان جنيف، بشأن الأزمة، كما يضع آليات وإجراءات بناء الثقة، مثل وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح المعتقلين والأسرى، وإيصال الإغاثة إلى جميع المناطق المحاصرة. مضايا تشهد عليه، اليوم، بالطبع
في مقابل «الرائع» عند هيئة التنسيق، رأى الائتلاف، بلسان جورج صبرة، أنّ القرار «أعور»؛ لأنه «لم يضع لاهتمامات وطموحات الشعب السوري أي تقدير، وقد جاء ببصمة روسية». أمّا خوجة، فقد غرّد هكذا: «قرار مجلس الأمن 2254 بمثابة تقويض لمخرجات اجتماعات قوى الثورة في الرياض وتمييع للقرارات الأممية السابقة المتعلقة بالحل السياسي في سوريا». بيد أنّ الائتلاف، على يد رئيسه الجديد غير المتوّج، رياض حجاب، وهيئته التفاوضية العتيدة؛ لا يسلك مع دي ميستورا مثلاً، على نحو يختلف حقاً عن سلوك هيئة التنسيق، حتى إذا كان لفظ الأوّل أعلى صخباً وأشدّ تمنعاً
حال البؤس ذاتها تتكرر مع كلّ كبيرة وصغيرة في الشأن السوري، على صعيد مؤسسات «المعارضة» الرسمية. المعارضون الأفراد، في المقابل، توزعوا على ثلاثة نماذج، بين أخرى أقلّ امتلاكاً لسمة التعبير عن نمط متجانس ذي قواسم مشتركة كافية. النموذج الأوّل هو ذاك الذي كان، قبل الانتفاضة أو حتى خلال أسابيعها الأولى، متذبذباً بين موشور عريض من الصداقات: النظام، والمعارضة، وخصوم النظام، وخصوم المعارضة؛ وكان يتحدث تارة عن بشار الأسد، بوصفه «الرئيس الشاب» الطامح إلى التغيير والإصلاح؛ وطوراً عن مشكلات المعارضة السورية، وعجزها عن تطوير «خطاب» معارض ملائم. هو في المنزلة ذاتها، مقيم ما أقامت ميسلون
النموذج الثاني كان، قبل الانتفاضة، معارضاً بالفعل، على نحو أو آخر؛ عمل في صفوف المعارضة، حتى وإنْ اقتصر دوره على التنظير أو الكتابة أو المهامّ الإعلامية، فلوحق، أو اعتُقل، أو نُفي، أو نفى نفسه بنفسه. لكنه، بعد الانتفاضة، امتهن وظيفة «المعارض» الذي يبدّل مواقفه بصفة يومية، تقريباً؛ فهو «علماني» اليوم، ومتيّم بـ»جبهة النصرة» غداً؛ تباكى يوماً على الانتفاضة من أمراض «العسكرة» التي طرأت عليها، ثمّ تدلّه في عشق «الجيش الحرّ» بعدئذ. هو، بدوره، حاضر… على قدم وساق
النموذج الثالث هو الذي يترفع عن الانخراط، علانية، في أيّ من مؤسسات المعارضة الرسمية؛ ولكنه لا يفلح كثيراً في تمويه مواقفه إزاء تطورات فاصلة (مثل الطرب التدخل الروسي، والصمت عن تجويع المدن، والسكوت عن قتال إيران و»حزب الله» إلى جانب النظام…)؛ فتتبدى هذه فاقعة حتى حين تتخفى، وطائفية حتى حين تتستر بالعلمانية أو الماركسية أو التفسير السوسيولوجي لفاشية النظام. إنه، للمفارقة، أشدّ افتضاحاً من أن يستره قناع!
وهكذا فإنّ جلال الرزء، الذي عاشته سوريا في العام المنصرم مع هذه التكوينات الشائهة، عن وصف يشقّ، كما يُقال. ولعلّ دموع أوباما أولى أن تحتبس إزاء بؤس هكذا «معارضة»، هو الذي سخر منها مراراً، للحقّ؛ وسيغادر البيت الأبيض غير آسف على أنه سخّف وجودها، مراراً في الواقع