نون الرقة – الياس خوري

Article  •  Publié sur Souria Houria le 18 novembre 2014

نون الرقة – الياس خوري

أمس رأيت فيما يرى النائم امرأة كهلة، انحنى الزمن على شعرها ببياض العمر، تقف أمام منزلها وتقرأ في كتاب بصوت متردد، وفي مواجهتها رجل ملتحٍ يصوّب اليها بندقيته، يصرخ بها كأنه لا يستمع الى ما تقول، ويأمرها بأن تُغطّي وجهها بالنقاب.
لا أدري ما الذي أخذني الى هناك، فأنا لم أزر الرقة ولم أرها، بلى، رأيت ساحتها في أحد التحقيقات التلفزيونية، ورأيت طيفها في فيلم «بلدنا الرهيب» لعلي أتاسي وزياد حمصي، وهما يلتقطان بالكاميرا كلمات ياسين الحاج صالح، ويرسمان رحلة الألم السوري.
أخذني المنام الى الرقة، وهناك رأيت تلك المرأة وهي تموت. عندما أفقت من المنام اختفت ملامحها من ذاكرتي، ولم يبق سوى بياض شعرها وارتجافة صوتها.
كانت تقرأ في كتاب قديم مشلّع الصفحات. انتزع الرجل الكتاب من يد المرأة ورماه أرضاً فتناثرت صفحاته وسقط رذاذ خفيف أذاب الكلمات وغرسها في التراب. وعندما داس الرجل مِزق الصفحات بقدميه، رأيت المرأة تسقط ميتة وصوتها يلتفّ على جسدها كأنه كفن وسمعتها تقول:
«قال وهب بن منبه: خرج عيسى بن مريم عليه السلام مع جماعة من أصحابه. فلما ارتفع النهار مروا بزرع قد أمكن من الفرك فقالوا: يا نبي الله إنّا جياع. فأوحى الله اليه أن ائذن لهم في أقواتهم، فأذن لهم، فتفرقوا في الزرع يفركون ويأكلون. فبينما هم كذلك إذ جاء صاحب الزرع وهو يقول: زرعي وأرضي ورثته عن آبائي! بإذن من تأكلون يا هؤلاء! قال: فدعا عيسى ربه فبعث الله تعالى جميع من ملك تلك الأرض من لدن آدم الى ساعته، فإذا عند كل سنبلة أو ما شاء الله رجل أو امرأة كلهم ينادون: زرعي وأرضي ورثته عن آبائي! ففزع الرجل منهم وكان قد بلغه أمر عيسى عليه السلام وهو لا يعرفه فلما عرفه قال: معذرة يا رسول الله اني لم أعرفك، زرعي ومالي لك حلال. فبكى عيسى عليه السلام وقال: ويحك هؤلاء كلهم قد ورثوا هذه الأرض وعمّروها ثم ارتحلوا عنها وأنت مرتحل عنها وبهم لاحق ليس لك أرضٌ ولا مال».
وسمعتها تقول أيضاً:
«روي في الاسرائيليات أن عيسى بن مريم عليه السلام بينما هو في بعض سياحته اذ مرّ بجمجة نخرة فأمرها أن تتكلم فقالت: يا روح الله أنا بلوام بن فحص ملك اليمن عشت ألف سنة ووُلد لي ألف ذكر وافتضضت ألف بكر وقتلت ألف جبّار وافتتحت ألف مدينة، فمن رآني فلا يغترّ بالدنيا كما غرتني فما هي الا كحلم نائم. فبكى عيسى عليه السلام».
نهضتُ من النوم وصوت المرأة لا يفارقني، ركضت الى مكتبتي وبحثت عن كتاب الأب ميشال الحايك: «المسيح في الاسلام» الصادر في بيروت عام 1960، فوجدت أن ما قالته يطابق حرفيا حكايتين من التراث الإسلامي من ضمن عشرات الحكايات التي جمعها هذا الكاهن الذي افتتن بدموع إسماعيل. وتساءلت ماذا أتى بتلك المرأة إلى منامي، وماذا عليّ أن أفعل اليوم أمام هول حكايتها وحكايات أهل الرقة؟
يبدو أن منامي جاء لأني قرأت خبراً يقول إن نون النصارى انتقلت اليوم من الموصل الى الرقة، فالمطلوب من فقراء النصارى الذين بقوا في المدينة، دفع الجزية أو الرحيل أو الدخول في الإسلام.
لست متأكداً من الخبر ولا أعلم تفاصيله، فنحن نعيش في زمن اللايقين والخوف، بحيث تحوّل الإعلام الى إحدى وسائل القتل.
لكنني لا أستطيع أن أنسى كيف تظاهر شباب وصبايا الرقة المسلمين بعدما قامت داعش في 26 ايلول/ سبتمبر 2013 بإحراق كنيسة سيدة البشارة للروم الكاثوليك وكنيسة الشهداء للأرمن الكاثوليك. هذه المظاهرة يجب أن تنحفر في ذاكرتنا. فتيات محجبات وشبان حملوا الصليب وتظاهروا في شوارع الرقة، بل إن بعضهم حاول إعادة الصليب إلى مكانه على ركام الكنيسة المحترقة، وهم يهتفون للثورة والحرية مطالبين برحيل داعش عن مدينتهم. كانت هذه المظاهرة واحدة من مواقف لا تحصى أثبت فيها الشعب السوري تمسكه بقيم المواطنة والمساواة، ورفضه للجنون الطائفي.
وكما تعامل نظام الاستبداد مع الشعب السوري بالقهر والقمع كذلك فعلت داعش. وصارت أول مدينة سورية تتحرر من قبضة الاستبداد الأسدي هي المدينة الأولى التي تسقط في يد الاستبداد الداعشي.
لا أعرف بماذا يفكّر أهل الرقة وهم يشهدون الفصل الأخير من مأساة مدينتهم.
أهل الرقة يعانقون مأساتهم ويشعرون بأنهم صاروا الأقرب الى الناصريّ الذي وُلد غريباً وعاش غريباً وارتفع غريباً على الصليب.
يعيش أهل المدينة غربتهم ولا يريدون شفقة من أحد، بل الأرجح انهم يشفقون علينا نحن عرب هذه النهايات الوحشية، وينظرون بأسى الى الكيفية التي يكرر فيها هولاكو جريمته في بغداد، وينقض تيمورلنك على مدن الشام، جاعلاً من رؤوس الرجال المقطوعة تلالاً للرعب والتسلط والهمجية.
نصارى الرقة كمسلميها صاروا اليوم في ذمة الوحش. كل العرب صاروا أهل ذمة لمن لا ذمة له، ينتقلون من تحت براميل الأسد وأسلحته الكيماوية الى تحت الرجم الداعشي.
تاريخ أرعن نكرره لأننا لم نتعلم كيف نصنعه، فنعيش اليوم مأساتنا في كتاب مآسيه.
لا يحتاج نصارى الرقة الى شفقة من أحد، يعانقون ذلّهم وموتهم مشفقين على السفّاح، الذي التجأ الى الدين كي يدمّر به الأخلاق، وكي يترك لغريزة الوحش ان تنتصر على إنسانية الإنسان.
فحين تُضطهد نون الرقة وتُذلّ، تُضطهد نون فلسطين ويُذلّ العرب ويموت الانسان.
أهل الرقة من نصارى ومسلمين لا يطلبون منكم شيئاً أيها العرب، ينظرون اليكم بعيون مشفقة ويسيرون في طريق غربتهم في بلادهم.
هل رأيتم أيها العرب عيون الموتى وهي تنظر بشفقة الى الأحياء؟
امرأة الرقة أنقذها كتاب يروي حكاية جمجمة كانت ملكاً جباراً، وقصة أرض اعتقد من ورثها أنه امتلكها الى الأبد، فتغطت بالكلمات وماتت.
أما نحن فمن ينقــــذنا بعدما أذابت دماء الضحايا حبر كلماتنا؟