My Syria, Awake Again After 40 Years / محمد على الأتاسي – سورية المنسية

Article  •  Publié sur Souria Houria le 28 juin 2011

سورية المنسية

محمد على الأتاسي

في نوفمبر من العام 2009 نشرت مجلة ناشيونال جيوغرافي، مقالة لموفدها الخاص إلى سورية دون بيلت الذي حظي بلقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد، ونقل عنه حادثة تصلح لتكون عبرة عن حال سورية على مدى 41 عاما من حكم عائلة الأسد. روى الرئيس للصحافي كيف أنه حتى تاريخ توريثه السلطة دخل مرتين فقط إلى مكتب والده الرئيس الراحل حافظ الأسد. المرة الأولى كانت وله من العمر سبع سنوات، حيث جاء راكضاً من شدة فرحه ليخبر والده عن درسه الأول في اللغة الفرنسية، ولفت انتباهه يومها زجاجة كولونيا كبيرة موضوعة على الخزانة بجانب المكتب. أما المرة الثانية التي دخل فيها المكتب فكانت في أعقاب وفاة والده في العام 2000، ليفاجأ بذات زجاجة الكولونيا الكبيرة لا تزال تقبع في مكانها على الخزانة، بعد 35 عاماً.

وإذا كان الرئيس السوري، يروي هذه الحادثة لدلالة على تقشف والده، وحرصه على عدم الانجرار وراء التغيرات المتسرعة، فإن هذه القصة تصلح في ذات الوقت للدلالة على حال « سورية أخرى » تم وضعها على الرف وتم تناسيها على مدى عقود طويلة تحت مسميات الاستقرار والممانعة بوجه إسرائيل، وهاهي اليوم تطل علينا من جديد لتذكرنا أن سورية الحقيقية ليست زجاجة كولونيا وأن أبنائها ليسوا من أهل الكهف! ولكنهم كبقية شعوب الأرض، شعب حيً يطمح للعيش بحرية وكرامة في وطن عادي كبقية الأوطان.

في كل مرة أتذكر هذه القصة، تصيبني غصة وأتذكر والدي الرئيس السوري السابق نور الدين الأتاسي الذي أمضى 22 عاما في زنزانة ضيقة في سجن المزه من دون أن يحاكم أو توجه له أي تهمة. 22 عاما وزجاجة الكولونيا لا تتحرك من مكانها على الرف ووالدي لا يتحرك من مكانه في السجن، ومأساتنا ومآسي آلاف السورين تزداد أتساعا. 22 عاما من القهر والعجز عن فعل أي شيء. 22 عاما والأيام تمضي هاربة من عمرنا على إيقاع زياراتنا له في السجن مرة واحدة كل أسبوعين ولمدة ساعة واحدة في كل مرة. 22 عاما غادرت فيها أنا وأختي طفولتنا وغادر والدي الحياة بعد أن أصيب بالسرطان ومنع عنه العلاج وأطلق سراحه في النهاية ليموت في باريس في كانون الأول 1992 بعد أسبوع من وصوله إليها محمولا على نقالة. 22 عاما هي عمرنا المسروق وهي زجاجة الكولونيا المهملة على الرف وهي سوريتنا المنسية.

أما سورية المنسية بالنسبة لمعظم الشعب فمعناها، الدولة البوليسية والبلد الممسوك بقبضه من حديد. سورية المنسية معناها سنوات الثمانينات المشرعة كغطاء دم على الذاكرة السورية. سورية المنسية معناها، بلد ملّزم دوليا بقضه وقضيضه إلى سلطة مستبدة، حرصا على الاستقرار الإقليمي. سورية المنسية معناها أمن إسرائيل المستتب على حدود هضبة الجولان المأمنة والباردة كبرودة ثلوج جبل الشيخ. سورية المنسية معناها ألوف المعتقلين السياسيين الذين زجوا لعشرات السنيين في غياهب السجون والمعتقلات. سورية المنسية معناها، ألوف المفقودين الذي لا يعرف أهاليهم عنهم شيئا إلى يومنا هذا ولا يملكون من أثرهم ولا حتى شهادة وفاة. سورية المنسية معناها، آلام ودموع آلاف الأمهات والزوجات اللواتي ينتظرن منذ الثمانيات وإلى اليوم عودة أبنائهم المختفين ولو في أكفان. سورية المنسية معناها إذلال يومي وكرامات مستباحة وعصا غليظة وعبادة فرد وصمت مطبق وخوف مستشري. سورية المنسية معناها قرارات مؤجلة وخطوات ناقصة وشبكات فساد ومحسوبية وبيروقراطية مترهله وأجهزة أمن مطلقة اليدين من دون حسيب ولا رقيب. سورية المنسية معناها إقصاء السياسة عن المجتمع و تدجين القضاء وخنق المجتمع المدني وسحق المعارضة. سورية المنسية معناها هذا الشعار المخيف في دلالاته  » قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد »، الذي ظل يزين مداخل المدن وواجهات الأبنية الرسمية ليقول للشعب السوري أن التاريخ مات على حدود بلدهم.

وإذا كان صحيحا أن التاريخ لم يمت، بل كان يطل برأسه بين الفينة والأخرى على الواقع السوري مذكرا ومحذرا بأن هذا البلد لا يمكن أن يكون خارج التاريخ، فإن السلطة كانت تسارع في كل مرة إلى دفن رأسها بالرمال متوهمة أنه باستخدام الأساليب الفظة ستتمكن من إيقاف مجرى التاريخ على عتبات السجن السوري الكبير. حدث هذا الأمر خلال أحداث الثمانيات الدموية التي انتهت بمجزرة حماه. وحدث في بداية التسعينات مع انهيار الكتلة السوفيتية وسقوط نموذج الحزب الواحد في العالم والإصرار على استمرار تطبيقه في سورية. وحدث مع وفاة الرئيس حافظ الأسد في العام 2000 وابتداع سيناريو التوريث في محاولة للهروب إلى الأمام في مواجهة استحقاق الموت والحياة. وحدث مع وأد « ربيع دمشق » وسجن أبرز ناشطيه كجواب على مطالبتهم بطي صفحة الماضي والبدء في عملية التحول الديمقراطي.

لقد عاندت السلطة على مدى الأربعة عقود الماضية، وتمنعت عن إدخال أي تعديلات جدية على بنيتها السياسية والأمنية، وأتى سيناريو التوريث من الأب إلى الابن ليبين بما لا يدع مجالا للشك، إصرار الدوائر الضيقة في السلطة على أبقاء التوازنات السلطوية وآلية صنع القرار وهالة القداسة على حالهم من حول أعلى هرم السلطة. في مقابل هذا الجمود السياسي، حدثت تغيرات هائلة في البنى الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع السوري ، وتضاعف عدد السكان عدة مرات وتوسعت الفئة الشبابية على حساب بقية الشرائح العمرية، إلى الحد الذي وصل فيه عدد شباب سورية ما دون العشرين عاماً إلى حدود 60 % من إجمالي عدد السكان. وترافق هذا مع هجرة ريفية واسعة وانفجار سكاني في ضواحي المدن الكبرى كدمشق وحلب وتفشي كبير للبطالة، وخلل واسع في توزيع الثورات من جهة وتمركز الجزء الأكبر منها في يد فئة قليلة من رجالات السلطة وحاشيتهم.

لقد اعتادت بعض الأوساط الدبلوماسية الغربية وبعض الأقلام الإستشراقية، أن تشكك على الدوام في إمكانية أن يثور الشعب السوري للمطالبة بحريته وحقوقه، وكأن هذا الشعب لا ينتمي إلى الإنسانية بل إلى فصيلة غريبة من الكائنات الفضائية، وبالتالي لا يحق له ما يحق لغيره من شعوب الأرض. وعمدت هذه الدوائر إلى التقليل من شأن مظاهر المقاومة الخفية والانشقاق السياسي التي لم ينفك المجتمع السوري يظهرها بشكل متقطع على مدى العقود الماضية. لكن كون سورية لا تقع على كوكب المريخ، وأبنائها كما بقية البشر العاديين يطمحون أن يعيشوا بكرامة وحرية في بلد ديمقراطي، فكان طبيعيا عندما أتت ساعة الحقيقة أن يفتحوا قلوبهم وعقولهم لرياح الربيع العربي التي هبت مع تداعي حائط برلين العربي الذي شيًد بالقمع والخوف ليفصل بين الشعوب العربية وبين الديمقراطية، بخيارات واهية من مثل الاستقرار أو الفوضى، الاستبداد أو الإسلاميين.

إن سورية الأخرى التي تناستها السلطة، لم ينسها التاريخ! وهاهي تعود اليوم لتطالب بحقوقها المستلبة ويعود التاريخ معها ليطالب بفواتيره المستحقة. وإذا كانت الثورة السورية هي الأقسى من بين الثورات العربية لجهة وحشية السلطة واستعدادها لارتكاب الفظائع بحق أبناء شعبها وتهديدها له بالحرب الأهلية ، فمما لا شك فيه أن إصرار الشعب السوري على الطابع السلمي لتحركه وعلى وحدة مكوناته الوطنية سيكون كفيلا في النهاية بتمكينه من استعادة حريته وبناء تجربته الديمقراطية. إن شعبا لا يزال يواجه بشجاعة نادرة وصدور عارية رصاص القناصة الذي ينهمر عليه من كل حدب وصوب كلما خرج ينادي بالحرية، هو أول من يعرف معنى هذه الحرية لأنه دفع غاليا ثمنها من أرواح أبنائه، وهو قادر ان يمارس هذه الحرية بمسؤولية ورشد من دون أي أستذة أو وصاية من أحد.

عندما سجن والدي في العام 1970 في أعقاب الانقلاب الأبيض الذي نفذه الجنرال حافظ الأسد على رفاقه في حزب البعث، كان لي من العمر ثلاث سنوات. كطفل أستغرقني الأمر فترة قبل أن استوعب أن السجن ليس للمجرمين فقط ولكن أيضا لسجناء الرأي والضمير. لم أرث من والدي الذي حكم أربع سنوات لا سلطة ولا جاه، كان كل ما ورثته منه كان عبارة عن حقيبة ثياب صغيرة أعيدت لنا من السجن بعد وفاته، وكانت هذه الحقيبة هي كل ما يملك حرفيا بعد 22 عاما قضاها في ذات الزنزانة وذات السجن. كل ما أتذكره من هذه الحقيبة اليوم هو رائحة رطوبة السجن التي تغلغلت في نسيج ثيابه وحوائجه.

في مقابلته مع المجلة الأميركية فات الرئيس السوري أن يخبر ما الذي فعله بزجاجة الكولونيا المنسية على الرف في مكتب والده! والحقيقة أن الجواب لم يعد يعني الكثير بعد اندلاع الثورة السورية. من جهتي سأخبر والدي في المرة القادمة التي أزور قبره فيها أن الحرية انبعثت من جديد في الشعب السوري، وهي أكبر بكثير من القبور التي حاولوا دفنه فيها. وسأطمئنه أن هذا الشعب تمكن أخيرا من كسر زجاجة الكولونيا، فإذا بعطر الحرية الذي فاح منها، أقوى بكثير من روائح الدم الذي يحالوا إغراقه فيه.

 

(*) النص العربي، الأصلي وغير المختصر، لمقالة الكاتب المنشورة في جريدة « نيويورك تايمز » الأمريكية.
http://www.nytimes.com/2011/06/27/opinion/27Atassi.html?_r=1&ref=opinion

 

My Syria, Awake Again After 40 Years

IN 2009, National Geographic published an article on Syria by a special correspondent, Don Belt, who had interviewed President Bashar al-Assad. In 2000, shortly after the funeral of his father, President Hafez al-Assad, the son entered his father’s office for only the second time in his life. His first visit had been at age 7, “running excitedly to tell his father about his first French lesson.” The president “remembers seeing a big bottle of cologne on a cabinet next to his father’s desk,” Mr. Belt wrote. “He was amazed to find it still there 27 years later, practically untouched.”

The bottle can be seen as an allegory for Syria itself — the Syria that has been out of sight for the 40 years of the Assads’ rule, a country and its aspirations placed on a shelf and forgotten for decades in the name of stability.

Now this other Syria is appearing before our eyes to remind us that it cannot be forever set aside, that its people did not spend the decades of the Assads’ rule asleep, and that they aspire, like all people, to live with freedom and dignity.

I remember my father, Nureddin al-Atassi, who himself had been president of Syria before he was imprisoned in 1970 as a result of Gen. Hafez al-Assad’s coup against his comrades in the Baath Party. I was 3 years old then, and it took me a while to understand that prison was not only for criminals, but also for prisoners of conscience. My father would spend 22 years in a small cell in Al Mazza prison, without any charge or trial. We counted the days by the rhythm of our visits to him: one hour every two weeks. At the end of a struggle with cancer, for which he had been denied medical treatment, he was finally released. He died in Paris in December 1992, a week after arriving there on a stretcher.

For the great majority of Syrians, the forgotten Syria meant a police state, a country governed with an iron fist. It meant a concerted international effort to keep a dictatorial regime in power in the name of regional stability — preserving the security of Israel and maintaining a cold peace on the Golan Heights, like the snow that covers Mount Hermon.

The forgotten Syria meant thousands of political prisoners packed for decades inside the darkness of prisons and detention centers. It meant disappearances that left families without even a death certificate. It meant the tears of mothers and wives waiting since the 1980s for their sons and husbands to return, even if wrapped in a shroud. It meant daily humiliation, absolute silence and the ubiquity of fear. It meant networks of corruption and nepotism, a decaying bureaucracy and a security apparatus operating without control or accountability. It meant the marginalization of politics, the taming of the judiciary, the suffocation of civil society and the crushing of any opposition.

A terrifying slogan, “Our Leader Forever Is President Hafez al-Assad,” emblazoned at the entrance to every city, and on public buildings, told Syrians that history ended at their country’s frontiers.

History did not end, of course, and occasionally it peeked in on Syrian life. But the regime buried its head in the sand, living the delusion that it could keep history out — if only it abused its people enough. This happened in the 1980s, with the bloody massacres in Hama. It happened in the early 1990s, after the Soviet bloc collapsed while the Syrian regime kept its one-party state. It happened in 2000, with the death of Hafez al-Assad and the transfer of power through inheritance — as if the regime could defeat even the certainty of death. And it happened in the year that followed, when the Damascus Spring was buried alive, its most prominent activists arrested after they called for Syria and its new president to turn the page and proceed toward democracy.

All through the past four decades, the regime refused to introduce any serious political reform. But meanwhile Syria witnessed great demographic, economic and social transformation. The population became larger and younger; today, more than half of all Syrians are not yet 20 years old. Enormous rural migration to the cities fueled a population explosion at the outskirts of Damascus and Aleppo. With unemployment widespread, wealth became concentrated more tightly in the hands of a small class of regime members and their cronies.

  

 

Source : NY Times
Date : 27/6/2011
http://www.nytimes.com/2011/06/27/opinion/27Atassi.html?_r=1&ref=opinion