في شأن التطرف والتطرف الإسلامي والاعتدال ياسين الحاج صالح

Article  •  Publié sur Souria Houria le 19 septembre 2014

هل ينبع التطرف السياسي الإسلامي من اعتلال أصاب دين المسلمين في العصر الحديث، أم أن التطرف طبع الإسلام وميله التلقائي؟ وهل إن الاعتدال الإسلامي المرغوب عودة إلى طبع معتدل في الإسلام، أم هو روح جديدة يتعين استحداثها فيه؟
لكن ما المقصود أصلا بالتطرف والاعتدال؟ 
نرى أن التطرف (ومثله الاعتدال) علاقة بين الناس، تقوم على الإقصاء (أو التقارب)، وتعكس نفسها في صيغ للعلاقة بين أصحاب العقائد وعقائدهــــم، بما يثبِّت أو يضفي الشرعية على موقف الإقصــــاء أو التقارب. يلغي المتطرفون أطرافا أخرى، مع إضفاء شرعية عامة على الإلغاء تحجب أن القائم به طرف خاص. 
لا معنى وفقا لها التصور لوصف مذهب ما بأنه متطرف أو معتدل، إلا من باب المواضعات اللغوية، من يمكن أن يكون متطرفا أو معتدلا هم البشر في شروطهم العينية، وهم يُسوِّغون تطرفهم واعتدالهم بعقائدهم، لكنهم لا يكفون عن تشكيل هذه بصورة تسوغ لهم إلغاء غيرهم أو التسلط على غيرهم. 
في هذا الشأن هناك ما يشبه مفهوم التشيؤ الماركسي: بينما لا يكف الناس عن إعادة تشكيل عقائدهم بصورة تلبي حاجاتهم الاعتقادية والسياسية، فإن هؤلاء قبل غيرهم يتصورون عقائدهم شيئا مستقلا عنهم، يتشكلون هم بالصورة التي تطيع أوامره ونواهيه. سيبدو أن الفاعل هو النص الساكن، فيما البشر اللجوجون الذين لا يكفون عن تحريف كل ما يقع تحت أيديهم مواضيع سلبية للنص النشيط. سيبدو أيضا أن ما أنتجه البشر هو مُنتِج البشر، وأن هؤلاء ليسوا إلا عبيدا سلبيين لما خلقوه بأنفسهم. 
فإذا كان البشر هم الفاعلين في كل حال، فإن السؤال هو في أي شروط يشكل الناس عقائدهم بصورة تسوغ لهم إلغاء غيرهم أو جعل أنفسهم الأطراف كلها؟
الواقع أن التطرف استعداد قوي عند الجماعات البشرية كلها نابع من أنانية البشر وتفضيلهم لأنفسهم على غيرهم. لا يكون الناس معتدلين فيتطرفون في شروط بعينها، بل هم ميالون إلى التطرف، إلى إغفال غيرهم وإلغاء غيرهم، لكن يجنحون إلى الاعتدال في شروط بعينها. ويبدو أن روح الاعتدال تترسخ في الوعي العام نتيجة صراعات اجتماعية عنيفة، يستخلص منها الناس أن إلغاء طرف يقود إلى صراعات تهدد بإلغاء الأطراف كلها. استيعاب هذه الخبرة ينعكس في المذاهب المتاحة، فيتطور لها بعد تعاقدي، بدون تغير في مضمون هذه العقائد نفسها. ما كان ممكنا لنظريات العقد الاجتماعي أن تظهر في العقد السابع عشر والثامن عشر الأوروبي لولا هذا التطور. 
ولأن التطرف استعداد أصلي، إن جاز التعبير، تجد أن المعتدل على مستوى، في بلده مثلا، متطرف خارجه. هذا ينطبق على الحكومات الغربية عموما خارج بلدانها في عصر الاستعمار، واليوم أيضا بقدر لا بأس به. فإذا حاكينا صيغة لغاستون باشلار، يمكن أن نقول إنه ليس هناك اعتدال أول، الاعتدال دوما ثان، الأول هو التطرف؛ وكذلك إن كل اعتدال هو مراجعة لتطرف سابق أو تعديل له. 
هذه عمليات اجتماعية وسياسية وفكرية وسايكولوجية لم تحدث في عالم الإسلام.
بالعكس، حرضت التطورات التاريخية الحديثة والمعاصرة حدوث نقيضها. السمة الغالبة لهذه التطورات هي وضع متوتر لعالم المسلمين، لا تتحكم فيه فئات واسعة منهم بشروط حياتها، وتطور بالنتيجة مواقف غاضبة أو موتورة من عالم تجد نفسها غريبة فيه. ليس كل المسلمين متضايقين موتورين، لكن الذين يجعلون من الضيق التاريخي تجربة المسلمين الأساسية اليوم يجدون بتصرفهم مواد من تاريخ الإسلام وذاكرته ومخيلته تسوغ لهم معاداة العالم أكثر مما يجد من يميلون إلى الاختلاط بالعالم ومشابهته والتشبه به، بل يستطيع الأولون محاصرة الأخيرين وإثارة شعور بالذنب عندهم أو عند من قد يفكرون بمحاكاتهم من عموم المسلمين. 
مرجع الأمر أن أولئك يصنعون الإسلام الذي يستخلصون أنفسهم منه، فيما أخفق الأخيرون، «المعتدلون»، في صنع سوابق أو نماذج يمكن الاستناد إليها لتوليد مسالك جديدة وتشريعها، ولذلك لا يزال الاعتدال الإسلامي اعتدالا ذاتيا، مفتقرا إلى مرجع شرعي يخصه، بحيث ينافس على الشرعية الإسلامية. لم يتح للمسلمين «جيل ذهبي» شجاع، يحقق الانعطاف التاريخي ويؤسس لرموز ومخيلة وذاكرة جديدة، ونماذج نفسية وسلوكية جديدة، وصيغ جديدة للتفاعل مع العالم. 
ولكن ما المقصود بأن السوابق والذاكرة والمخيلة تحالف المتشددين أو المتطرفين؟ معناه أنه لا زمن يفصلنا عن الأزمنة التأسيسية، أو أننا حيال زمن متجانس تتكرر خلاله الأشياء نفسها، بما يسوغ القول إنه زمن فارغ يمكن طيه والقفز فوقه إلى الوراء دونما إشكال. هذا ما يبدو أن السلفيين يفعلونه بيسر بالغ. وعلى افتراض أن الجماعة نجحوا فعلا في مطابقة السلف تماما، وهذا تام الاستحالة، فإنهم يسقطون مصلحة كبرى لا صلاح من دونها: تغير الأزمنة وتغير الناس. 
وهم ينكرون على الإسلام المرونة التي تمكنه من عيش زمان مغاير، محافظا على روحه. محصلة مشروعهم ليس أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، كما لا يكفون عن الصراخ، بل انه صالح لزمــــان واحد، وينبـــغي إكراه الناس على الرجعة إليه، كما يفعـــلون حـــقا. التطرف يتناسب طردا مع نفي تغير الأزمنة، أو إنكار ذاتية التاريخ، واعتباره مجرد عرض يسيل على صفحة جوهرنا كما يسيل الماء على الزجاج. 
أما منبع ذلك فهو الأنانية الطبيعية في أكثر أشكالها فظاظة. فرفض التغير هو رفض للغيرية أيضا، للتعاون مع الغير وفعل الخير للغير، وقبل ذلك لاكتساب إحساس مغاير ونفس جديدة. التطرف أنانية معممة تعمل على فرض نفسها بالقوة. 
ويبدو أننا اليوم في قلب صراع إن لم نخرج منهم بـ»اعتدال»، لا يعدو كونه القبول بتعددية الأطراف ومساواتها الجوهرية، لن تنفتح أبوابه إلا على فناء عام. هذا احتمال وارد اليوم. بالمقابل، من شأن العمل على توليد نماذج وأدوار وخيال وذاكرة جديدة أن يكون الانعطاف التاريخي الكبير، الذي يحول الزمن إلى مجلى لتطورنا، صديق نثق به ونتعاون معه، بعد أن كان طول كل زمننا تقريبا عدوا نلتف عليه، ونلغيه. 
لا اعتدال ممكنا مع إلغاء الزمان، ولا إجماع ممكنا عليه. يغير الزمان حياة الناس وخيرهم العام، وإلغاؤه اعتداء أناني على العموم، مشروع موت عام. الموتى وحدهم لا يمر عليهم زمان. 
والخلاصة أن شروط الحاضر تشجع مسالك متشددة، لا تقاومها أجيال أنانية من المسلمين، متواضعة الشجاعة والفكر، وجدت في التشدد سياسة رخيصة. التطرف نتاج مشترك لأوضاع حاضرة واستعدادات موروثة وجيل خرع. ولا اعتدال بدون اعتراف بتغير الأزمنة كخير عام. الاعتدال استحداث لجديد، وليس عودة لقديم. 
إنه بالضبط عودة عن قديم.