أضحوكة لا تُضحك أهلها: ‘مجلس شعب’ النظام السوري – صبحي حديدي
لأن النظام السوري لم يعد يخجل من اتخاذ أي إجراء، زائف أو مضحك أو فاضح وفضاح، ربما لأن طراز الاستبداد الوحشي الذي يواصل اعتماده ضد الشعب السوري لم يعد قابلاً لإنتاج أي صنف من الحياء؛ فإن ما أسمته السلطة ‘انتخابات مجلس الشعب’ كان أحدث جولات استغفال الذات ـ ذات النظام، وذوات حفنة من رجالاته، وليس غالبيتهم العظمى والحقّ يُقال ـ ولكنه كان بين أشدّ تلك الجولات إثارة لضحك المواطنين، علانية أو في العبّ، بدل الضحك على لحاهم، كما استهدف بشار الأسد والعباقرة من مستشاريه.
كان طريفاً، في المقابل، أن تكشف قوائم بعض المحافظات مقدار تفكك خطط النظام وتخطيطاته الأمنية، ليس بصدد الحراك الشعبي والنشطاء والمتظاهرين والمعارضين، بل في القدرة على حشد الموالين والانتهازيين والمطبلين ضمن نسق، أو أنساق، متجانسة في صفة الخداع والدجل. شذّ بعض هؤلاء عن الترتيبات المسبقة التي أعدّتها الأجهزة لبعض القوائم، أو اتخذت قوائم أخرى مسارات ‘انشقاقية’، إذا جاز هذا الوصف هنا، أثارت البلبلة أو الحيرة أو التيه لدى الخاسرين: إخفاقات مرشحي قدري جميل (ولكن ليس الرجل نفسه!)، واختراقات مرشحي رجل الأعمال وشريك النظام محمد حمشو، وحصيلة مرشحي ‘الأحزاب’ الجديدة التي رأت النور بموجب ما يُسمّى ‘قانون الأحزاب’، هي أمثلة معبّرة في هذا المضمار.
وحين ألقى الأسد خطابه الأوّل، أواخر آذار (مارس) 2011، أي بعد أيام قليلة أعقبت انطلاقة الانتفاضة، توفّرت شرائح شعبية سورية، وكذلك لدى قطاعات واسعة في الرأي العام العربي والدولي،
علّقت الآمال على ما سيقوله؛ قبل أن يخيّب الأسد الآمال، واحدة تلو الأخرى، تباعاً، دون خجل أو حدّ أدنى في اللباقة، بكثير من الاستغفال، والتضليل، والضلال. لا مفردة، واحدة، أوحت أنّ الأسد استمع إلى رسالة الشعب، أو ينوي الاستماع إليها في أجل قريب؛ ولا كلمة عزاء، واحدة، لأهالي الشهداء الذين سقطوا، وكانوا يسقطون حتى أثناء إلقاء الخطاب. والذين كانوا قد تفاءلوا بعهده، منذ أن تمّ توريثه في حزيران (يونيو) 2000، بعد ساعات من وفاة أبيه، وراهنوا على شبابه وانفتاحه ومزاجه المعلوماتي وسنوات إقامته في بريطانيا… خاب فألهم أكثر ممّا خاب طيلة 11 سنة من عهده.
ولم يكن محزناً أن لا يمحض المرء المراهنين أولئك فضيلة اكتشاف لا يبدو متأخراً، فحسب؛ بل كانت الحال تلك تقتضي أن يشرع أهل الرهان في تقديم نقد ذاتي شجاع، وانخراط في معسكر التفاؤل الآخر، الصحيح والمشروع والتاريخي: صفّ الشعب، حيث كانت الانتفاضة تتعاظم، وطرائقها النضالية ترتقي، وقاعدتها الجماهيرية تتسع وتتنوّع. ذلك لأنّ خطاب الأسد، أمام ما يسمّيه النظام ‘مجلس الشعب’، الذي يستعد جهابذته ‘المنتخبون’ مجدداً لشغل منابره الببغائية، كان أبعد أثراً من حكاية الآمال الخائبة والتفاؤل المنكسر، فانطوى على سلسلة أضاليل سيقت عن عمد وتصميم، وعن استخفاف بجراح الشعب وأحزانه. ولعلّ التضليل الأوّل كان إصرار الأسد على مخادعة نفسه بنفسه، والالتفاف على تصريحات كان قد أدلى بها قبل أسابيع قليلة لصحيفة ‘وول ستريت جورنال’، حول أولويات الإصلاح، وجداوله الزمنية التي قد لا يقطف ثمارها إلا أبناء جيل لاحق؛ فضلاً، بالطبع، عن حصانة نظامه ضدّ ايّ تحرّك شعبي، هو ‘المقاوِم’ و’الممانِع’.
فهو، في ذلك الحوار كما في خطابه الأوّل بعد انطلاقة الانتفاضة، اعتبر أنك إذا لم تكن قد بدأتَ بالإصلاحات منذ زمن سابق على انتفاضات العرب، فإنك قد تأخرتَ الآن، وستبدو إصلاحاتك بمثابة خضوع للضغط الشعبي؛ والدولة التي تخضع لضغوط الداخل، يمكن أن تخضع أيضاً لضغوط الخارج. الأسد اعترف في خطابه أنّ الدولة قد تأخرت، ولكن الشعب يقول اليوم إنها لم تتأخر عن عام 2005، حين أوصى المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم، بسلسلة إجراءات، فحسب؛ بل تأخرت عن سنة 2000، حين تولى الوريث السلطة من أبيه؛ وعن 41 سنة من حكم ‘الحركة التصحيحية’، بالنظر إلى أنّ حكم الابن ليس سوى مواصلة لحكم الأب. ثمّ ما الذي يعيب نظام حكم، لا يكفّ عن ادعاء الانفتاح على الشعب والتمتع بحبّ الجماهير، إذا خضع لضغط شعبي يدور حول حاجات ومطالب وحقوق مشروعة شتى؟ بيد أنّ الزمن لن يطول حتى ‘يخضع’ الأسد بالفعل، ولكن على طريقته في اعتماد ‘خضوع’ فارغ من المحتوى، مراوغ، مناور، متأخر وقليل وزائف… على غرار رفع قوانين الطوارىء، وسنّ قوانين الأحزاب والإعلام، والتصويت على ‘دستور’ جديد، و’انتخابات’ جديدة لـ’مجلس الشعب’…
المستوى الآخر من التضليل كان تغنّي الأسد بعلاقة النظام مع الشعب: ‘في الوضع الداخلي بُنيت سياستنا على التطوير وعلى الانفتاح، على التواصل المباشر بيني وبين الشعب والمواطنين، وبغض النظر عما إذا كان هناك من سلبيات وإيجابيات’، قال الأسد. ولكن، أيّ انفتاح ذاك الذي لم يقبل ‘الضغط’ من شارع شعبي عريض، غرضه إصلاح البلد؛ فقارنه بضغوط خارجية، ومؤامرات تستهدف تركيع البلد؟ وكيف يصحّ الحديث عن انفتاح على الشعب، إذا كان الأسد اعترف بنفسه أنه ‘ينقصنا دائماً التواصل’، و’الدولة طرحت وعوداً بالإصلاح ولم تنفّذها’، و’لدينا دائما مشكلة في التواصل’؟ ثمّ كيف توجّب أن يفهم الشارع السوري، والعالم قاطبة في الواقع، تأخّر الأسد في الحديث إلى الشعب، وإنابة أمثال فاروق الشرع وبثينة شعبان ورستم غزالي… للنطق بالنيابة عنه؟ وهل هذا عذر، أم ذنب أقبح، أن يقول: ‘هذه الكلمة ينتظرها الشعب السوري منذ الأسبوع الماضي، وأنا تأخرت بإلقائها بشكل مقصود ريثما تكتمل الصورة في ذهني’؟ وأيّ خلاصات عجاف تلك التي اكتملت، في نهاية المطاف!
ليست أقلّ تضليلاً، حتى إذا بدت الأشدّ افتضاحاً في الأذهان، وعلى امتداد أربعة عقود، تلك الأكذوبة التي تزعم محاسبة المسؤولين: ‘من الضروري أن نبحث عن الأسباب والمسببين، ونحقق ونحاسب’؛ يزعم الأسد، فلا يبصر المرء طفلاً سورياً، فكيف بنساء ورجال وشيوخ هذا البلد العظيم المنتفض، ينتظر من الزاعم أن يحاسب أهل بيته، أوّلاً… أو حتى أخيراً! متى حاسب الأسد، أو سيحاسب، العميد عاطف نجيب، ابن خالته، رئيس فرع الأمن السياسي في محافظة درعا ساعة انطلاقة الانتفاضة هناك، وصاحب الأمر باستخدام الذخيرة الحيّة ضدّ المتظاهرين، وقبله الأمر باعتقال 16 طفلاً والإبقاء عليهم قيد الاحتجاز طيلة شهر ونيف؟ ولو لم يكن هذا العميد على صلة قرابة مباشرة برأس النظام، هل كان سيتجاسر على فتح النار دون الرجوع إلى آمريه وداعميه وسادته؟ أم يصحّ، أيضاً، الافتراض بأنه لم يتجاسر على اتخاذ قرار خطير كهذا، وأنّ الإذن بـ’وأد الفتنة’ جاء من الأعلى بالفعل؟
ورغم ما قيل مراراً، وما أشاعته الأجهزة وأبواق النظام، من أنّ نجيب (ومحافظ درعا آنذاك، فيصل كلثوم، وآخرين) أحيلوا إلى القضاء، وسوف تتمّ محاكمتهم؛ فإنّ محاسبات مثل هذه ممتنعة وجوباً في ناظر رأس النظام، لأنها لا تفقد ضباطه المخلصين حسّ الحصانة القصوى فحسب، وهذا ما يحتاجون على امتلاكه دائماً؛ بل تُضعف في نفوسهم حسّ المبادرة إلى البطش دون احتساب العوائق، والقمع بلا رادع أو رقيب أو حسيب. وليست عشرات الأسماء التي فازت بثقة النظام وعادت إلى منابر الببغاءات في ‘مجلس الشعب’، وكانت مباذلها في الفساد والإفساد والنهب والتشبيح قد تكشفت وافتُضحت طيلة أشهر الانتفاضة، إلا المعيار المقارن الأحدث على أنّ النظام لم يتعلّم أيّ درس، ولا يريد أصلاً أن يتعلّم، وليس في وسعه أن يتعلّم! وإلى جانب هذا الصفّ/ النصير العضوي للنظام، ثمة ما تبقى من كاريكاتورات ‘الجبهة الوطنية التقدمية’ من المخضرمين المحترفين، وكذلك محدثي النعمة من الساسة الموالين الذين فرّخهم ‘قانون الأحزاب’، فأتوا مسوخاً على شاكلته تماماً!
لهذا فإنّ راهن النظام يقترن سريعاً بماضيه القريب، في خطاب الأسد الأوّل إياه، حين ألمح ـ على نحو عارض، لم تكن نيّة التعمّد خافية عنه ـ إلى أنّ الذين يعارضون الإصلاح والمحاسبة هم ‘أصحاب المصالح والفساد وأنتم تعرفونهم. قلّة كانت موجودة ولم تعد موجودة الآن. قلّة محدودة جداً تعرفونها بالاسم’. والحال أنّ السوريين كانوا يعرفونهم بالاسم، حقاً، ولكن ما كان السوريون يعرفونه أيضاً، وتقصّد الأسد التعمية عليه، هو أنّ هؤلاء ليسوا ‘قلّة محدودة جداً’، وهم موجودون على رأس مناصبهم ومواقعهم ومشاريعهم واستثماراتهم؛ ابتداء من تمساح المال والأشغال رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة الذي هتفت جماهير درعا ضدّه؛ وليس انتهاء بشريكه طريف الأخرس، ابن عمّ والد أسماء الأخرس، زوجة الأسد، وثاني أكبر مصدّر على نطاق سورية.
أمّا التضليل/ النكتة، أو العكس أيضاً، فهو سيكتمل حين يصدر الأسد مرسوم دعوة المجلس الجديد العتيد إلى الاجتماع، حيث سيلقي كلمة لن تختلف البتة من حيث استئناف لعبة عتيقة مكرورة مكشوفة، تستهدف ذرّ الرماد في عيون مواطنين ملّوا التهريج الركيك السمج، على هذا المنبر بالذات. منبر سيكون غداً ـ مثلما كان بالأمس، وعلى امتداد 40 سنة من تنصيبه ـ مجلس دمى متحرّكة بائسة، لم تعد تُضحك طفلاً، ولا تشبه أشدّ الكرنفالات ابتذالاً وسماجة. وهو، رغم تغيّر بعض أعضائه اسماً، وليس وظيفة أو صوتاً، المجلس ذاته الذي أسبغ ‘الشرعية’ على توريث بشار الأسد سنة 2000، وعدّل الدستور على النحو الأكثر كاريكاتورية في تاريخ أية أمّة، لكي ينحشر الفتى في الثوب الفضفاض الذي خلّفه الأسد الأب، ساعة رحيله.
ولو كان الأسد ينتمي إلى زمانه، في الحدود الدنيا لمنطق العصر واشتراطات الأوان، لأوحى إلى معاونيه الأمنيين أن يأمروا هؤلاء المهرّجين بالإقلال من تهريجهم، ساعة خطاب أواخر آذار 2011، لأنّ العالم بأسره كان ينتظر ما سيُقال؛ وللمرء أن ينتظر تكرار الأضحوكة ذاتها، بعد أيام، كأنّ شيئاً لم يتبدّل، او ينبغي أن يتحوّل. ولو كانت نرجسية الأسد العُظامية أقلّ تفشياً في مزاجه الشخصي (إذْ من الحكمة للمرء أن لا يتحدّث عن خصاله كرجل سياسة!)، لكان أوصى بأن لا يخرج عليه عضو يهتف له إنّ سورية والعالم العربي قليلة عليه، وموقعه الحقّ هو قيادة العالم؛ هذا بمعزل عن أبيات الشعر السقيم، وهتافات النفاق الجوفاء.
وبينما تعاقبت مشاهد تلك ‘الانتخابات’، في منزلة بين المهزلة ومسرح العبث، كانت المأساة تتجلى في سقوط الشهداء برصاص جيش النظام وأجهزته الأمنية وشبيحته، واستهداف مواكب المراقبين الدوليين على النحو الأكثر ابتذالاً في التمثيل والإخراج؛ مثلما تتبدّى في اشتداد عمليات استهداف المواطنين في الشوارع والمحالّ والهواء الطلق، من خلال افتعال عمليات التفجير هنا وهناك، وإلصاق التهمة بـ’القاعدة’ او ‘الجيش السوري الحرّ’ أو ‘العصابات المسلحة’، أو هذه كلها متكافلة متضامنة!
أضحوكة لم تعد تُضحك حتى صانعيها، إذاً؛ ما خلا أنّ آخر الضاحكين ليسوا على منبر الببغاءات، بل في درس تاريخي يقول: يا سلطة ضحكت من زيفها الأمم!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
qpt