أهل الشام – سلام الكواكبي
فى نهاية القرن التاسع عشر، استقبلت مصر أعداداً كبيرة من السوريين واللبنانيين والذين أسمتهم تحبباً بالشوام. حيث شارك الكثيرون منهم فى النشاط الفكرى والصحفى والاقتصادى والفنى، مستفيدين من هامش الحرية النسبى مقارنة بمعاناتهم فى بلدهم الأم من اضطهاد واستبداد الحكم العثمانى. وعلى الرغم من الهيمنة العثمانية المشتركة على البلدين، إلا أن خضوع مصر الخديوية إلى الباب العالى حينذاك كان أقل بأساً من الوضع السورى، وخصوصاً فى مرحلة الرجل المريض واضمحلال تأثيراته الإقليمية.
«توعية» المهاجرين الشوام فى تلك الفترة تمحورت خصوصاً حول رجال الفكر والمال. وكان الترحيب بهم شعبياً ورسمياً غير مرتبط بهاتين «الميّزتيّن» بقدر ارتباطه بانفتاح مجتمعى مستند إلى حضارة عريقة واثقة قبلت بأن يكون من رجالاتها الكثير من غير المصريين.
●●●
واستمرت العلاقات الإنسانية طوال عقود بين الشعبين معتمدة على التواصل الاجتماعى والتلاقح الثقافى والتأثير الفكرى. وعلى الرغم من أخطاء تجربة الوحدة السياسية التى قامت بين الدولتين فى خمسينيات القرن المنصرم، إلا أن التجاوزات الأمنية والسياسية التى رافقتها لم تؤثّر فى الترابط العميق هذا، وجعلت من القاهرة منارة فكرية وثقافية ونضالية للكثير من النخب السورية المساندة أو المنتقدة لهذه التجربة. ومهما حاول البعض أن يبرر هذا بتأثيرات سياسية معينة، إلا أن العمق الإنسانى العابر للإيديولوجيات كان أكثر وقعاً.
واستمر التآخى الشعبى ينمو على الرغم من أن العلاقات السياسية بين النظامين القائمين بعد انهيار تجربة الوحدة سنة 1961 لم تكن وردية دائما. فلقد عبرتها مراحل من الشك والتحسّب بين القيادات العسكرية والحزبية فى البلدين، بمعزل عن كل الخطابات السلطوية التى تعوّد عليها سكان المنطقة العربية لذرّ الرماد فى العيون، والتى تحيّى الأخوة والصداقة بين الشعوب فى حين تستمر المماحكات السياسية والأمنية فى تألقها بين الحكومات.
وحتى فى الحرب المشتركة سنة 1973، فالثقة على مستوى القيادات كانت مهزوزة، وسال بعد نهايتها الكثير من الحبر لتقييمها وتقييم دور الأطراف المشاركة. وبالمقابل، فقد استمر التلاحم الإنسانى والوجدانى بين المصريين والسوريين كشعوب، وتجاوز كل المماحكات التى أفضت بعد عدة سنوات إلى انقطاع سياسى كامل أدت إليه اتفاقيات كامب ديفيد. حيث حفل الخطاب الرسمى فى دمشق والقاهرة إثر ذلك بالمفردات الشتائمية لترجمة المواقف السياسية دون أن يُحدث هذا أى أثر فى العلاقات بين الشعبين.
إذاً، لم يكن للأزمات السياسية وضعف الثقة الأمنية بين البلدين أى تأثير طوال عقود على العلاقات الإنسانية والعائلية بين الشعبين. فما الذى يجرى فى يومنا هذا ويؤثّر سلباً على استقبال السوريين اللاجئين من جحيم المقتلة التى تواجه بها تطلعاتهم للحرية وللكرامة؟
●●●
إن دراسات التطرف فى العلوم السياسية تستعرض عدة أسباب لتطوره واستفحاله فى بعض المجتمعات فتربطه بالأزمات الاقتصادية وانعدام الحلول المجتمعية وانسداد الأفق الفكرى وتخلى النخب عن دورها الريادى والتنويرى، واستفادة الحركات السياسية من ظروف معينة تؤجج هذا التطرف لإبعاد الاهتمام عن ضحالة البرنامج السياسى الذى تتبناه إن كانت فى الحكومة أو فقدان البديل المناسب إن كانت فى المعارضة. وكانت دائما الأنظار تتوجّه، أو بالأحرى توجّه، إلى الأجنبى القادم لينهل من خيرات البلد ويستحوذ على وظائف أهله ويزاحمهم فى لقمة عيشهم. إنها أسهل السبل للتغطية على فشل سياسى وتكوينى فظّ.
ولكن، هل هى حال السوريين فى مصر؟ هل من استثمر ملايين الجنيهات فى الاقتصاد المصرى وساهم فى تشغيل الآلاف من المواطنين فى مشاريع عدة يزاحم المصرى على لقمة الخبز؟ هل بعض المتميّزين من الفنانين السوريين سيحرمون نجوم مصر من أدوارهم؟ هل يُزاحم السورى اللاجئ الهارب من بلده المدمّر شقيقه المصرى الذى كان دائماً سبّاقاً لاحتضانه؟ هل إن أخطأ بعض من السوريين وتظاهر إلى جانب بعض من أخوتهم المصريين بناء على موقف سياسى، يسمح بتعميم الموقف ووضع السوريين موضع مسائلة جماعية؟
الشعب المصرى بكل تياراته غير مسؤول عن هذا الشحن والتشويه الفكرى. إن المسؤول هو إعلام تحريضى يحمل خطاباً متطرفاً يسعى لإلهاء المصريين ويحرفهم عن مستقبل سياسى تشاركى. والمسئول أيضاً هو قيادات سياسية استقالت من واجب دعم حق السوريين فى الحرية وتحالفت مع الاستبداد المحيق بهم كما سبق وفعلت مع صدام حسين.
حيوا أهل الشام يا أهل الله!
اقرأ المزيد هنا: http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=21092013&id=f57f718d-157f-4e6a-92ed-a1ab3efa6cde