إدلب تنبعث من ركام النسيان وتفرد اجنحتها واسعة للحرية – زينه ارحيم
على شرفة منزل يطلّ على شارع رئيسي، ثلاثة أطفال أكبرهم في الصف الرابع كانوا يتشاجرون فتصرح أصغرهم ‘سورية حرّة حرّة وجادو يطلع برا’ فيرد عليها ‘أصلاً الشعب يريد إسقاط رايا’ وتصيح بهما الكُبرى ‘يالله ارحلوا يا أولاد!’، قبل أن تخرج أمهم مسرعةً، تلتفت حولها لتطمئن أن احداً لم يسمع لعبهم وتدخلهم بعجلة، مؤنّبةً ‘أخبرتكم أن هذا الكلام بس للبيت’
أنا بدوري كنت كطفلةٍ عجولة تنتظر العيد، أعدُّ اللحظات لأخرج من البيت وأصرخ هذا ‘الكلام’ بالشارع مع تبديل أسماء الأطفال بأسماء القتلة، أنهيت فطوري سريعاً وكل خمس دقائق كنت أسأل، متى تنتهي صلاة التروايح؟ أخبروني أن المتظاهرين عجولين للقاء محبوبتهم-الحرية- ولا يصمدون حتى الركعة العشرين فهم غالباً يبدؤون المظاهرة بعد الانتهاء من الركعة الثامنة لينضم إليهم من يريد إكمال الصلاة لاحقاً ارتديت عدّة المظاهرة: عباءةٌ سوداء وحذاءٌ مريح يصلح للركض مع حجابٍ أحمر، استعرته من قريبتي، واستطعت تحويله مع مجموعة من الدبابيس لخمارٍ لا يُظهر إلا عينيّ، ثم اتصلت بها، هي صديقتي منذ خمس عشرة سنة، و رغم صدمتي بالعديد من الأصدقاء المقرّبين كنت أعرف أنها لن تكون إلا ضدّ الظّلم، دون مقدماتٍ سألتها ‘ستذهبين إلى العرس اليوم’، عرفتني وارتعش صوتها لكنها لم تخطئ بذكر اسمي على الهاتف، أجابت ‘نعم سأذهب، خمس دقائق وأكون عندك’ يقع بيتي بين جامعين ثائرين، سعد بن أبي وقاص والفرقان، وبينما كنت أحاول التوازن مع الرداء الفضاض المُربك سمعتُهم من الجانبين، لم نستطع انتظار وصولهم إلينا فمشينا باتجاه الفرقان، العديد من الشباب كانوا يقفون بكامل أناقتهم أمام الجامع، اعتقدت أنها تجمّعاتُهم الاعتيادية لتضييع الوقت الذي يمض ثقيلاً في إدلب، لكن ما إن خرج المصلّون من الجامع بالتكبيرات حتى انسابوا بينهم، أغلبهم بقي دون لثام، أما السيدات فكنّ تتوزعن على الأرصفة والطرقات الجانبية تنتظرن مرور المظاهرة لتتجمّعن في مظاهرةٍ نسائيةٍ خلفها تحوّل التكبير إلى ‘الشعب يريد إسقاط النظام’، وسرمين وحمص اللتين كانتا تحت قصف الجيش السوري، فهتفوا لهما ‘يا سرمين حنا معاكي للموت’، و ‘يا حمص لا تهتمي بفديكي بروحي ودمي’ كنت أحاول امساك قدميّ على الرصيف ومنعهما من الانضمام وفعلت، مع مساعدةٍ من صديقتي التي ضبطتني هامسةً ‘لم تخرج النسائية بعد، انضبّي!’، حِمنا حولهم كجائع يُدور حول مائدةٍ شهيّة، عند آخر شارع الضبيط كانت مظاهرة سعد بانتظارهم على الموعد في نقطة التقائهم اليومية الاعتيادية، لكن فرح اللقاء لم يُضحٍ اعتياداً رغم الشهور الستة تتعالى أصواتهم بالترحيب ‘أهلا وسهلا باللي جاي’..تعلو أكثر ‘ويا مرحبا باللي جاي’ تتماوج الأرض تحتهم ليقفزوا عالياً بحركةٍ متناسقة وهم يرفعون إشارة النص، يصقفّون، يغنّون، ويبثّون المدينة حياة، بذلك الدوار الصغير الذي يجمعهم معاً، ترى رقصة أرواحهم الحرّة جليّةً على أنغام ملحمة الحرية، لو كنت خبيرةً بالطاقة لنصحت بهذا المشهد دواءً لعلاج آلام المفاصل والقلب والضمير والخوف كنتُ منومّةً مغناطيسياً بجاذبيتهم إلى أن أيقظتني إشارة منظمي المظاهرة داعيةً للتقدم، هنا توضّحت معالم المظاهرة النسائية وأصبحنا أخيراً بينهم إدلبتي دائماً تعطيني مكاناً مميزاً ولم تغير عادتها، فالبرغم من بحّة صوتي الذي تركته في دوما وجدت نفسي أقود هتافات المظاهرة النسائية، هتافٌ يحرق جوفي منذ بدء المظاهرات وهاهي فرصتي لأطلقه بسماء مدينتي، خرج ماتبقّى من صوتي بعد أن رعشت أصغر عضلات جهازي التنفسي »سلمية سلمية، إسلام ومسيحية’، توقفت قليلاً وترددت قبل أن أكمل الهتاف، تلك النماذج الجاهزة عن تعصّبنا وعن مواقفنا المسبقة من الطوائف اعتقدت أنهن سيغضبن ولن يكملن الهتاف بعدي، لكنني وفي اللحظة ذاتها سمعته يخرج من الأحرار نغماً عالياً وبديعاً ‘ودروز وسنة وعلوية’..فأكملت بعدههم ‘إي كلنا بدنا الحرية’، ابتسمت وقد راودتني رغبةٌ بركل نفسي لسوء ظني بأهلي، تباً لكل من تسوّل له نفسه أن يظن بكم السوء وبدلاً من تعكير تفكيري باحتمال هجوم الشبيحة والأمن علينا كنت بتلك اللحظات أفكر بالشهيد الحمصي الجميل، هادي الجندي، كان هذا هتافه المفضّل وبحَّ صوته وهو يصرخ به في شوارع الدبلان شابٌ لم أسمع به قبلاً في حياتي، بكيتُه حتى التهبت جفوني، وهاهو يخطف تفكيري من المظاهرة التي حلمت لشهور بأن أشارك فيها، عدت إلى الهتاف من جديد ‘يا سجين لا تهتم، نحنا إلك أخت وأم، ومابصير مي الدم
هي وهم
هانحن نقترب من منزل الشهيد محمد غريب. ظلال أجسادٍ عديدةٍ بدت على شرفة منزل الشهيد، لكنني لمحتها هي، لم أرها قبلاً في حياتي لكنني عرفتها
غطاءُ صلاةٍ أبيض ناصع استرخى على رأسها وكتفيها، عيناها البعيدتان كانتا تبرقان وتلمعان حياةً وبنفسجاً وغار تنثره على المتظاهرين بعاطفةٍ فاقعة تمسح جبينهم حرّاً حرّاً تسحب نفساً عميقاً، تحبسه في صدرها حدّ الاختناق، ولا تُخرج منه إلا ماتيّسر لإتمام عملية الزفير، هي رائحته تنبعثُ منهم، محمد الذي كان يُحضّر لتخرّجه من كلية الحقوق بعد أن حفظ القوانين السورية بصماً وفهماً، قتلوه أثناء تشييعه لصديقه بقانون العصابات هم يبادلونها وأسرة الشهيد فيضَ الحب، فتحْت شرفتهم ضربوا موعداً يومياً لايحيدون عنه، تعلو فيه أصواتهم ‘بالروح بالدم نفديك يا شهيد’، و ‘ياشهيد ارتاح ارتاح، نحنا منواصل كفاح’، وبعد سقوط القذافي أضافوا إليهما ‘أم الشهيد ماتخافي، ساقط بعد القذافي’ هي ترفع كفيّها نحو السماء وتدعو، وتدعو.. نمشي وعيوننا معلقّةٌ على الشرفة، وهي تلوّح مودّعةً حتى آخر صوت مازلنا نهتف للشهيد، استرقُ نظرةً للرصيف، فأرى سيدةً تمشي بسرعة مع طفلة صغيرة تبكي ‘ماما لن أعيدها مرة ثانية، الله يخليكي ماما’ تلتفت الأم وتجيبها بحزم ‘قلتلك إذا لم تسمعي كلمتي لن آخذك إلى المظاهرة مساء’ أما على يميني، فصبيةٌ بدت كمختارة، كانت تعرف الجميع، وسط المظاهرة نكزت صديقتها مشيرةً إلى شاب وسألتها ‘عرفتيه؟’ وقبل أن تجبها تابعت ‘ذاك الشاب الذي آلمه حذاؤه في المظاهرة الماضية فخلعه ومشى ساعتين كاملتين وهو حافٍ، الله يحميه، الله يحميه!’ يمر قربها شابٌ نحيلٌ جداً وعلى كتفيه تجلس ابنته الصغيرة فتحدّث صديقتها مرة أخرى ‘هذا المسكين ابن … لا يستطيع المشي بعد، فقد خرج الأسبوع الماضي فقط من السجن وقال عذبوه كثيراً، الله يحميه’ وصلنا لمفرق مستشفى ابن سينا، وهناك طلب منا المتظاهرون المفروزون لحماية المظاهرة النسائية أن نعود قائلين ‘يعطيكم العافية يا أخواتي يالله على البيت’ ‘يا إلهي لا وقت لثورة ثانية الآن’ فكرّت، وخضنا معهم جدالاً عبثياً انتصر فيه خوفهم علينا من العواينية والأمن المنتشرين بالسوق، وخوفهم على أنفسهم من ورطة حمايتنا، فالإدلبي كما الدوماني ‘حمش’ وقد يستشهد منهم عشرة رجال قبل أن يسمحوا لعنصر أمن بأن يمس شعرة من حرّة عندما استحكمنا اليأس عدنا أدراجنا لكن بمظاهرة نسائية مستقّلة أخبرتني صديقتي أنها الأولى من نوعها، مريّنا من جديد أمام منزل الشهيد، كانوا جميعاً مايزالون على الشرفة، هتافاتٌ للشهيد، تحيةٌ من أمه نتفرّق بعدها لتخرج كلاً منا بسيارة تلحق بها المظاهرة حتى آخر هتاف كانت أمام المظاهرة دراجاتٌ ناريةٌ تستطلع الطرق وخلّوها من الأمن، وخلفها سيارة شحن مخصصّةٌ لنقل الجرحى في حال هجوم الأمن بالرصاص، وحول المظاهرة ومعها أيضاً تمشي عدة سيارات لانتشال المتظاهرين وتهريبهم من الغازات الحارقة والاعتقال تقترب السيارات من الأحرار حدّ اللمس وسائقوها وسائقاتها ملتصقون بالمقود ليكونوا أقرب مايمكن إليهم، ومن السيارات تمتدّ أيادٍ أنثوية وذكورية وأجساد أطفال لتوزّع السكاكر على المتظاهرين بينما تكرر شفافهم دون هدى ‘الله يحميكم، الله يحميكم’ الشوارع، الأبنية، العائلات على الشرفات والأرصفة تغازلهم وترمي عليهم الأحراز والتحصّينات من الشبيحة، كمٌّ مدهشٌ من المحبة والألفة عند مدينتي التي اعتادت الانغلاق خوفاً من ‘الأمن، كلام الناس، الغد، العيب، الحرام ذو الاستطالات المطّاطة و..و….’ أحد أصحاب المحال التجارية كان ينظر إليهم بحرقة بينما يسرق نظرة غاضبه إلى محله كل حين، ثم دخل ليخرج وبيده صندوق من علب العصير وزّعه على المتظاهرين، أحد الأحرار فتح علبته، نظر إليها ثم سار نحو سيدة تمشي معهم بسيارتها ‘أختي إنت كل يوم معنا بالمظاهرة ودائما تحضرين لنا السكاكر ونحن لم نضيّفك ولا مرة، والعين بصيرة والإيد قصيرة، اقبلي مني هذه’ ذهب جزء آخر من صوتي، أما صورة إدلب المدينة المنسية المستكينة المتعبة فقد رحلت للأبد، فإدلبتي استحضرت شبابها وهي أكثر حيّاةً من أي وقت مضى، لكنها حافظت على بعض تلك العادات المهترئة التي سأتحدّاها غداً في ثورتي الصغيرة على الثوار القدس العربي – ٣٠ أيلول ٢٠١١
|