إعادة توظيف الطائفية لصالح حرب أهلية في سوريا – عائشة أرناؤوط
تردد في أوساط الإعلام المختلفة خلال الأيام الأخيرة ظهور الطائفية على سطح الأحداث لصالح حرب أهلية ستعم البلاد.
هكذا نرى بشكل مباغت هذا الشبح يهيمن على النفوس، وبالأخص النفوس الصامتة والأقليات التي مازالت مخدّرة تحت نير الرهاب الذي حُقنت به خلال نصف قرن. وهكذا ينطلق هذا الطيف الأسود فجأة ليباغتنا بعد أربعة أشهر ونيف من التظاهر السلميّ الذي لولا تدخل قوات الأمن والفرقة الرابعة من الجيش والشبيحة لما كان هناك قتيل واحد ولا جريح واحد في أيّ مدينة سورية.
فمن هو المسؤول عن تلك الظاهرة الغريبة عن المشهد السوري حتى الآن، ومن الذي يغذيها ولصالح أي فئة ستعود غنائمها؟ بل من هو المسؤول الأول والأخير في جرّ سوريا إلى هاوية يرسم تضاريسها بعد أن فقد نهائياً كامل عدته من أدوات طبوغرافية مفبركة، أراد بها أن يحرّف خريطة المدّ الشعبي ويخلخل مواقع قوتها ؟
اعتباراً من صباح يوم الاثنين 18 تموز/يوليو 2011، تصلني رسائل باكرة من أصدقاء فرنسيين يستفهمون عن خبر »الحرب الأهلية » في سوريا ويبدون « قلقهم ولأول مرة » في المراسلات التي تتم بيننا منذ اندلاع الثورة، مما اضطرني إلى الردّ عليهم واحداً واحداً لطمأنتهم ولتذكيرهم بان الشعب السوري مصرّ على متابعة ثورته السلمية دون لجوء إلى عنف أو سلاح.
في حين أن النظام الأسديّ باشر بإطلاق شائعته « الصرصارية » عن حرب أهلية في مدينة حمص، مُمَسْرحاً في تلك المدينة فصلاً متعمداً على شكل اشتباك مسلح بين المتظاهرين والمؤيدين لبشار. اعتبرت وسائل الإعلام الغربية والعربية هذه المعلومات حقيقة واقعة. فتعلن إذاعة فرنسية (فرانس أنتير أو فرانس كولتور، لم أعد اذكر) صباح 18 يوليو/ تموز ، عن بدء حرب أهلية في سوريا! وفي اليوم ذاته وحوالي الساعة الواحدة ظهراً بتوقيت باريس ينفي صديق من حمص في اتصال هاتفيّ مظهر أيّ حرب أهلية ويؤكد أن القتلى والجرحى يوم 17/7 في مدينة حمص كانت نتيجة اشتباك بين المؤيدين لبشار وأكثرهم مسلح وبين المتظاهرين السلميين، كما يشير إلى دخول عدة باصات إلى مدينة حمص تقلّ مدنيين قبل يومين من تاريخ الحدث.
لايخفى علينا أن المؤيدين لبشار (هنا) يتألفون في غالبيتهم من عناصر أقسام الأمن المتعددة والمخابرات ومن بعض عناصر الجيش في ثياب مدنية، وكذلك من « الشبيحة » المكلفين بحماية مصالح العائلة الأسدية بالإضافة إلى أعضاء في حزب البعث، وأغلبهم مسلح. أما مسيرات التأييد التي تسبق أو تلي خطابات بشار الأسد فهي مؤلفة إجمالاً من الطلاب والموظفين والعمال المجبرين على المشاركة تحت طائلة عقوبات متنوعة، إلى جانب أعضاء النقابات ـ وكلها خاضعة تاريخياً للنظام الأسدي نتيجة تركيبها اللاانتخابي ـ وكذلك من البعثيين الموالين للسلطة، علماً بأن التجييش في حزب البعث بسوريا يتم بطريقة اتوماتيكية تقريباً منذ دخول الأطفال إلى المدرسة / باسم الطلائع/ ثم ينتقلون إلى درجة أرقى في اتحادات الطلبة المنتشرة كالفطور في كامل الأرض السورية جنباً إلى جنب مع مكاتب الأمن والمخابرات. قد أكرر هنا ما يعرفه الجميع، لكنه قد يكون مفيداً ـ على الأقل ـ لتنوير أمين عام جامعة « الأنظمة » العربية، نبيل العربي ـ ذي الضمير المرتاح بعد لقائه مع الأسد الثاني ـ والسعيد بعصا الإصلاح السحرية التي لمحها في يد بشار الأسد وهو يتمتم تعاويذه « السَوْفِيّة ».
إن مقارنة سريعة بين المسيرات الحاشدة « العفوية! » المؤيدة لبشار ذات المظهر الثري بمئات الأعلام الخفاقة التي خرجت لتوها من المعمل، وبلباس المؤيدين الأنيقة وكاسكيتاتهم الملونة ونظاراتهم السوداء التي تحمي عيونهم من نور الشمس ـ كما تمنعهم من رؤية شعاع الحرية ـ وبالسيارات الفخمة التي تلفظ نوافذُها الأعلام وعبارات الإذعان حتى الأبد لشخصٍ آيلٍ إلى نهاية كلِّ بشريّ. وبين التظاهرات المنتشرة في المدن والقرى التي تكللها أعلام خاطتها أيدي النساء، ولافتات مكتوبة على عجل حسب الأحداث المفاجئة، وبلباس المتظاهرين اليوميّ القروي أو المدني البسيط وهم يحملون أغصان زيتون حين تتوافر لديهم، وبتلك الأذرع المرفوعة بالهواتف المحمولة لالتقاط ذكرى اللحظة التي قد تستمر مع الهتافات والمدّ البشري، أو تنتهي في دمٍ مازال ساخناً أو دماغ يتدلى من رأس مشطور برصاصة قناص على سطح بناء تابع للدولة، تلك المقارنة تجعلنا نعيد النظر في الغايات والوسائل والأكاذيب والخدع. وليست هي المقارنة الوحيدة.
المسيرات المؤيدة يحق لها التجمع « العفوي! » فجأة رغم عدم تقدمها بطلب تصريح مسبق توافق عليه السلطة! بينما تُقمع التظاهرات الشعبية بحجة عدم حصولها على التصريح بالتظاهر. المسيرات العفوية ليست بحاجة إلى عين الهواتف النقالة لتخليد الحدث، فوسائل الإعلام الرسمية ماهرة بضرب المندل لتعرف مواقيت التجمع فتتخذ مواقعها في المكان « المجهول حُكماً » لتتابع التصوير من الألف إلى الياء بأجهزة حديثة.
المسيرات المؤيدة لم تتمخض عن أي جريح أو قتيل حتى الآن، وغالباً ما تنتهي بعد انفضاضها في المطاعم أو المقاهي أو البيوت، ولا تتبعها في اليوم التالي مسيرات النعوش نحو المقابر. بينما التظاهرات الشعبية تقدم قرابينها اليومية من القتلى والجرحى والمفقودين والمعتقلين، وتنتهي عند انفضاضها في زيارة بيوت الثكالى والأرامل والأيتام، تليها في اليوم التالي مواكب النعوش، التي تتعرض بدورها للقنص ووحشية القمع.
المسيرات المؤيدة تهتف لشخص واحد وتقدم الولاء الأعمى لمن تعتبره « حامياً لوحدة سوريا ». بينما هتافات الشعب السوري في تظاهراته يعلو تضامناً مع مدن محاصرة وأخرى جريحة، وتحية لشهداء محافظات بعيدة لا يعرفون عنهم إلا الدماء والجراح. فمن يحمي وحدة الوطن، ومن هو قادر على التناضح سوى الشعوب؟
الكلام لا ينضب، لنعد إلى الشبح الطائفي إذاً، رغم أن ماتمّ ذكره سابقاً يمس بطريقة أو بأخرى صلب الموضوع.
بدا النظام البعثيّ، مُمَثلاً بالأسد الثاني، غير قلق ـ ظاهرياً ـ من الربيع العربيّ. فعناصر الأمن والجيش « المُبعثن » وأجهزة المخابرات يقبضون على الوضع بيد من حديد منذ عشرات السنين، وتجييش هؤلاء الأفراد بأعداد تتجاوز المنطق قد استتب بشكل يريح النظام، بحيث أن أي نأمة يخطر لها أن ترتفع قليلاً على مدرج السلم الصوتيّ لها حسابها في زنزانة وبين الجلادين. من جهة أخرى حاول النظام وخصوصاً بعد التوريث « الجَمْلَكيّ » أن ينتحل صورة مشرقة لسوريا برئيس شاب متعلم درس في أوربا (وهذه لها أهميتها لدى دول العالم) ترافقه السيدة الأولى بأناقتها وجمالها وتحررها، تتحدر من بيت « الأخرس » / وهنا أوظف الكلمة بمعناها الاستعاريّ وخصوصاُ من أجل حمص/. هذا الرئيس أعلن عن نيته ـ ومازال حتى الآن ـ بالانتقال بسوريا إلى عصر حديث تمتلك فيه كل المقومات لتكون نداً لندٍ مع الدول المتقدمة. يخطر لي هنا شباب الثورة السورية الذين يعيدون صياغة الكثير من الأمثال الشعبية لتحديثها بما يناسب العصر، وأشاركهم لأقول « إنما النيّات بالأعمال ». فماذا نرى؟
رغم عدم القلق الظاهري هذا فإن /الرئيس حينها/ حاول خنق بوادر الأحداث بتقديم بعض المِنَح (هكذا تُسمى في سوريا منذ عهد الأسد الأول) كالزيادة الزهيدة في الرواتب أي مايعادل عشرين يورو، فاعتبرها الشعب إهانة ورشوة خسيسة وعطاء مرفوضاً لاصلة لها بمطالبه الأساسية بالحرية والإصلاح الجذري من أجل دولة ديمقراطية حقيقية.
هنا تأكد للنظام أن الربيع قد حان أوانه في سوريا، وأن الأشجار تتبرعم بأزهارها المقبلة، فما كان منه إلا أن لجأ إلى حلٍ بشقين: استراتيجية متوارثة لغتها القمع والقتل الوحشي والاعتقال والتعذيب، واستراتيجية القدح والطعن والتشكيك في المحرك الثوري الفعلي للجماهير. تكامل هذا الشقان في « دائرة مغلقة » بحيث أضحى كل منهما مبرراُ للآخر. وظهرت أوراق اللعب تباعاً على الطاولة السوداء، كلما سقطت ورقة تلتها أخرى، من المؤامرة الخارجية إلى العصابات المسلحة، إلى دعوة المدن لقوى الأمن كي تحميها من المخربين، إلى العملاء والخونة والسلفيين والمندسين. تلفيق إعلاميّ باذخ بالصوّر والأفلام المُمَنتجة. وابلغ دليل على هذا المدّ ما نشرته الصحافة الرسمية من عناوين مُلفقة لصور من الواقع، صورة مظاهرة في الميدان: خروج أهالي الميدان إلى الشوارع لشكر ربهم على نعمة المطر. صورة شباب مكبلين معصوبي العيون وقد ألقوا أرضاً على بطونهم تعتليهم « بوطات » عسكرية: القبض على مسلحي جسر الشغور وبحوزتهم خمسة أطنان من الديناميت. صورة شيخ لم أعد أذكر اسمه: تفكيك الإمارة السلفية في تلبيسة. أجساد شباب ساحة البيضا وهم يُركلون بالأقدام: مجموعة من مقاتلي البشمركة (أي الأكراد) يعيثون فساداً في قرية البيضا. إلا أن أكثرها فحشاً ودناءة صورة الطفل حمزة الخطيب بوجهه البريء وقد كُتب تحتها بخط عريض: مقتل حمزة الخطيب إثر محاولته اغتصاب نساء الضباط.
تلك الوسائل الإعلامية ولسان حالها « سانا » التي أسميها بالفرنسية Société d’Arnaque et de Nécrose Affairiste/
أي تقريباً مؤسسة البَلْفِ والنخر الصفقاويّ (من الصفقات بكافة أنواعها)/ كانت السيد السائد في الهواء الإعلامي الداخليّ السوري، هذا الهواء الذي حجزته السلطات في كرة من المعدن حين أغلقت حدودها أمام أيّ وسيلة إعلامية خارجية بحجة أن كافة وسائل الإعلام الخارجي مضلِّلة وعميلة ومأجورة. حجة واهية في عصر صارت الكرة الأرضية فيه قرية صغيرة، كل من فيها يستطيع أن يشاهد ويسمع ما يجري بأدق تفاصيله وما وراء الحُجُب المنتصبة لحماية عريّ الطغاة. أغلقوا الحدود ونسوا أن الأذرع العارية المرفوعة مع هدير الأصوات والمكللة بالعيون لها دورها في كشف جرائم النظام ونقلها إلى العالم أجمع.
لم يكن لبطاقات اللعب تلك أيّ تأثير سلبيّ على مسيرة الثورة السورية رغم العنف الذي تقابل به من حصار ونهب وتقتيل وتمثيل بالجثث، بل على العكس زادت من تصميم الشعب على الاستمرار في المجابهة السلمية والتوحد بين أبنائه ليكونوا جسداً واحداً ينطلق في طريق واحد من أجل حرية للجميع، من أجل وطن يتسع للجميع كما تتسع الأرض لنا كلنا.
من بين الأوراق الأخيرة المتبقية للنظام، ورقة الحوار التي يتلاعب بها، حوار أحتارُ كيف أسميه/ خواراً أم مونولوغاً!/ يتلاعب بها لكسب الوقت من أجل الاستمرار في الإبادة الوحشية ومن أجل استرضاء دول العالم التي مازالت تراوح في مكانها وتكرر طلب الشروع في الإصلاحات من رئيسٍ فقد مصداقيته وشرعيته « المفترضة » لدى الشعب، نتيجة دمويته المفرطة.
لقد بينت كافة التنسيقيات المحلية للثورة السورية مؤخراً موقفها الواضح من مؤامرات الحوار المفتعل، مؤكدة تصميمها الفذ على متابعة النضال السلمي حتى النصر.
وها خطم الورقة الطائفية يظهر على مخمل الطاولة الأسود. وهي من أخطر الأوراق قاطبة وقد تمثل « الجوكر » بين أصابع اللاعبين، إذا شاركناهم في اللعب على غفلة منا. فالنظام في سوريا لخمسين سنة خلتْ كان يمهد خطوة خطوة لتمزيق الشعب إلى طوائف وإثنيات ولزرع بذور الرهاب بين أطياف مكونات الشعب السوري موهماً الجميع أنه الوحيد الأحد حاميها وضامن التعايش فيما بينها وأن أيّ غياب له سيؤدي إلى حرب أهلية. وهذا مما أدى إلى صمت بعض الأقليات حتى الآن وترقّبها للأحداث الجارية وقلقها من النتائج. قلق غير مبرر، بل على العكس إن نهوضها إلى جانب الثورة السورية سيزيد من لحمة الشعب السوري الذي لا يستثني في نضاله حرية تلك الأقليات سواء بسواء.
« أنا أو الفوضى » هذه هي العملة النقدية المتوارثة التي يتداولها النظام حتى الآن. وللتلويح بهذا الخطر ولتأجيج البلبلة بين الصفوف كان رجاله يقومون بين حين وآخر بإشعال جمرات خامدة في أحياء محددة من المدن السورية، والقصص كثيرة. يساعدهم في ذلك مرتزقة الإعلام والنت، بالإضافة إلى « شبيحة القلم »، تلك التسمية التي أطلقتها الصديقة الكاتبة والباحثة رنا قباني في شهر نيسان/ أبريل المنصرم. من شبيحة القلم هؤلاء هناك من نصّب نفسه عرّافاً منذ بدء الثورة السورية مقترضاً بعض الحصوات من كاهنات دلفي يضعها تحت لسانه ليتنبأ بعدها أن الثورة السورية هي ثورة طائفية ـ هكذا بكل بساطة ومنذ البداية! ـ محذراً الشباب المتعطش للحرية من التظاهر للمطالبة بحقوقه المشروعة بحجة حفنة من الكلمات سمعها بالصدفة مرة ولم تتكرر فيما بعد. أما المثل الآخر لشبيح قلمٍ « ذي رؤى » فقد اتخذ موقفاً حائراً متذبذباً ـ والحيرة في مثل هذا الظرف التاريخي مَوْبِقة بالمعنيين ـ . هذا الرؤيوي شجبَ العنف دون الإشارة إلى الفاعل، وفضّل أن يتوجه لأولياء السلطة بدلاً من توجهه للشعب، واعتلى دماء وجثثاً مفضلاً ألا يلمحها ليلوّح براية الطائفية. ومابين الاثنين هناك عدد قد يتاح لي تفصيله في رواية أخرى.
ماأريد قوله هو أن الشعب السوري في ثورته 2011 عاد إلى أصوله الحقيقية، إلى نواة التحامه الأولى حين مزق الاستعمار الفرنسي الوطن إلى دويلات على أسس مذهبية ومنحها استقلالها المُشرذم وأعلامها (دولة حلب 1920 ـ 1925) (دولة دمشق 1920 ـ 1925) (دولة جبل الدروز 1921 ـ 1936) (الدولة العلوية 1925 ـ 1937) (جمهورية اسكندرون 1937 ـ 1939) وقد فقدنا حتى وجودها المعنويّ بفضل تناسي أصحاب الحكم، وأخيراً ( دولة لبنان الكبير 1920 ـ 1943) وهنيئاً لها فقد توصلت إلى تكوين شخصية متميزة، ولولا التدخل السوري الذي نقل أمراضه العصية إليها ودس أنفه في شؤونها مستغلاً التداعيات المأساوية التي جعلت منها ألعوبة في مهب الرياح لكانت غير ما نعرفه الآن. على كل حال تبقى سوريا ولبنان مشتركتين في المصائب.
بعد كل تلك الشرذمة المفتعلة، اندلعت الثورة الكبرى وشارك فيها الجميع دون التفات إلى فروق طائفية أو قومية، ولن أذكر أسماء أبطال تلك الثورة فجميعنا نعرفهم. أسمح لنفسي أن أذكر عمّي الذي استشهد في الثورة بعد عدة سنوات من هجرته إلى سوريا، وخالي الذي احتفظ به القدر حياً ليروي لنا، أطفالا، بلكنته المحببة مغامراته مع الثوار، وليتني لجأت إلى تسجيلها قبيل وفاته الطبيعية.
حين نجاح الثورة السورية الكبرى وجلاء الاستعمار الفرنسي، وجد الشعب طريقه إلى الديمقراطية دون عناء يُذكر، تشكل المجلس النيابيّ بانتخابات حرّة ونزيهة جامعاً أطياف المجتمع السوري برمتهم، وحين تقرر تنصيب فارس الخوري كرئيس للحكومة، استشاروا السلطان باشا الأطرش ما إذا كان لديه مانع في ذلك، سألهم: وهل سيحكم البلاد وفقاً للدين المسيحي أم وفق القانون؟ أجابوه: وفق القانون طبعاً. فكاد ردّه: ما المشكلة إذاً؟
هذه هي سوريا الحقيقية، معراة من كل زيّ دخيل ومغرض. وهاهو النظام الآن بعد لعبة الطائفية وما سماه ببذور حرب أهلية في حمص ينتقل لزرع الوقيعة بين سوريين وأكراد. أغلب الظن أنه أميّ غير قادر على تهجّي التاريخ وجاهل في تحليل الأحداث، مما يدفعه إلى أعمال غير مسبوقة تقوده للانحصار في زاوية بين جدارين بالكاد تتسع له، وهذا مايجعله يستفرس أكثر فأكثر، وقد يصل به الأمر إلى: عليّ وعلى أعدائي يارب! وهنا الطامة الكبرى، وهو الوحيد الذي سيكون مسؤولاً عنها.
دلائل كثيرة تشير إلى أن وعيّ الشعب السوريّ المنتفض قد سبقنا بمسافات فلكية في تحسس مكامن الخطر، تؤكد أن حدسه يقوده إلى تلمس عظمته الكامنة في التنوع الثري لأطيافه، وأن بصيرته تكشف عن جوهر وحدته، كما لو أنه يقرا التاريخ دون أن يفتح صفحة واحدة.
أجل، لقد سبقنا الشعب السوري النبيل بوعيه الذي يتفتح يوماً بعد يوم كوردة ساطعة، بحماس شبابه المتوقد، بتنسيقياته المحلية المتخاللة رغم المسافات ومحاولات البتر الفاشلة التي ينتهجها النظام. شعب فاجأ المنظّرين والنُخَبَ وقوى المعارضة فلم يعد أمامهم إلا محاولة اللحاق به. شعب سبق نظام الحكم المترهل بتحليلاته التي تريد إعادة التاريخ إلى سنوات خلت ليستعيد طمأنينته فوق أكوام الجثث. شعب يصنع تاريخه منذ أن تحرر من سبات الخوف، فلم يعد يطالب بالحرية لنفسه فهو حرّ منذ أن لبس كفنه ليتظاهر. الشعب لا يطالب الآن إلا بحريّة سوريا ويناضل من أجل خلاصها من المستعمر الداخليّ.
أرفض أن أسمي النظام علوياً، فهو خليط من المتنفّعين من كافة الطوائف والأجناس، كما أن في تلك التسمية إهانة لشرفاء الطائفة العلوية التي لها تاريخها الحافل بالبطولات وقرابينها في سجون النظام، والتي تبدو أنها تعاني من ضغوط النظام المضاعفة التي تشلّ حركتها وتحصر دورها التاريخي في محيط عائلة واحدة أسديّة. كما أن تجار حلب ودمشق وسماسرتهما تربطهم مصالح قوْننها النظام بدهاء كي يرسم لهم كل خطوة عليهم أن يخطوها موهماً إياهم بان مصيرهم مرتبط حصراً به.
ورغم أن لسان الثورة في كل مكان يحذر من الانجرار إلى تلك اللعبة الخطرة التي ينصبها النظام، ورغم اتساع دائرة العنف المفرط، لا أستطيع إلا أن أتوجه إليكم يا أفراد شعبنا النبيل الذين أدركوا أن لمسيرة التاريخ اتجاه واحد، كي أقول آخر كلماتي: حافظوا على التحامكم العضويّ ولا تأبهوا لمسرح الظل ولا لقاعات الدمى المصفقة بقرونها، احذروا الدجل الشفويّ والأفخاخ المفاجئة، ولتكونوا فرقة موسيقية هائلة بتنوع آلاتها، متناسقة بتوائم أنغامها، ففي هذا ثراؤكم الذي ستصنعون به سوريا الغد، وهذا هو مصيركم المشترك الذي سيحقق لكل فرد منكم مكانه الآمن وحقوقه الكاملة وواجباته تجاه الوطن.
وأنتم أيها الصامتون، الذين لم يختاروا بعد الضفة المهيأة لأمواجهم، وأنتم أيها المستكينون في سبات السنوات المسترخية تحت ظل العبودية الوارف، كم من القرابين على شعبكم أن يضحي بها لتدركوا أن ثورته هي ثورة من أجل حريتكم أيضاً؟
فرصة قدمها لنا الربيع وافتتحتها أصابع أطفال اقتُلعت أظافرهم. فرصة لن يكررها التاريخ ربما إلا بعد عقود طويلة. هذا إن خطر له أن يكررها. ففي غمرة انشغاله بمصائر البشرية وكوارث كرتنا الأرضية ومجاعات الشعوب الفقيرة وأطفالها المهددين بالفناء جفافاً، سيكون دورنا التالي بعيداً، بعيداً جداُ.
عائشة أرناؤوط
باريس في 22/7/2011
ملاحظة: المقال يعكس فقط وجهة نظر الكاتب