إنها حقاً مهمة مستحيلة! أمجد ناصر
لا يبدو الأخضر الابراهيمي في عجلة من أمره، ولا الذين أخرجوه من بيجامته وخفِّه وزجوا به في درب الآلام السوري. مضى نحو شهر، أو أكثر، على تسميته خلفاً لكوفي عنان ولم نسمع منه سوى كلام لا يخفى تلعثمه حيال مهمته، فيما تسجل ماكنة التدمير والقتل والتهجير رقماً قياسياً لم يبلغه من قبل، أيّ شهر من أشهر الثورة السورية.
ايقاع السيد الابراهيمي بطيء. العمر له حقه، لكن الأمر لا يتعلق بشيخوخة الدبلوماسي الجزائري، ذي السجل المتراوح بين النجاح والفشل في حلِّ النزاعات، بل في المشهد الدولي المحيط به.
فعلام يستعجل سادة هذا المشهد والنار ليست في بلادهم بل بعيدة، كلّ البعد، في الجغرافيا والمصالح. النار المندلعة في سورية لن تحرق نفطاً ولاغازاً، ولا تهدِّد بفتح جبهة هجرة جديدة الى أوروبا، ولم تمتدّ، حتى الآن (على نحو فعلي) الى الجوار، خصوصاً الى اسرائيل.
لم تكن هناك، في الواقع، ضرورة للابراهيمي. ليس الشخص، بالطبع، بل المهمة. فعندما يفشل كوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة السابق، ذو المنزلة السياسية الأوزن من ‘سفيره’ الجزائري، في مهمته السورية، وعندما يظل انقسام مجلس الأمن على حاله من دون أدنى تغيّر يُذكر، فهذا يعني أن مهمة خلفه، أيا كان اسمه وسجله، ستلاقي المصير نفسه.
فماذا لدى الابراهيمي ولم يكن لدى عنان؟
لا شيء، على الأغلب، سوى اللغة العربية! ولكن بماذا سينفع الابراهيمي لسانه العربي والمشكلة، فعلاً، عند قوى لا تتكلم العربية! حتى تعنت بشار الأسد وامعانه في الحل العسكري الدموي ليسا، حسب أصوب التقديرات، ذاتيين. أيِّ أنه لا يملك، وحده، قرار وقف الحرب على شعبه والخروج من المعادلة.
هناك من يقول (والوقائع تؤكد هذا القول) إن قراراً كهذا يُلتَمسُ في موسكو وطهران وليس في دمشق، وما يصدر من المسؤولين الروس والايرانيين يؤكد أن المعركة مستمرة وأنهم لن يسمحوا بسقوط نظام حليفهم بشار الأسد (حتى لو أراد) مهما كان الثمن!
هذا، بطبيعة الحال، لا يبشر بخير للأخضر الابراهيمي الذي كاد أن ينفض يده مما هو مُقْدمٌ عليه قبل أن يصل الى دمشق. وليس كلامه عن مهمته ‘شبه المستحيلة’ بلا دلالة. إنه إقرار مسبق بالفشل. إنها، حقاً، مهمة مستحيلة، وليست شبه مستحيلة.
فلا شيء يدعو الى الاعتقاد أن حلاً للمسألة السورية يمكن أن يجد طريقه عبر مجلس الأمن والروس ممسكون بـ’الورقة’ السورية كما لم يمسكوا بأيِّ ورقة دولية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، ولا يبدو أنهم في وارد التخلي عن هذه ‘الورقة’ المستنّقعة بالدم، وها هم يبشروننا أن من السذاجة الاعتقاد بأن النظام السوري سيوقف حربه على شعبه أولاً، ففي ذلك ‘استسلام’ في غير مكانه ولا زمانه (الكلام الأخير لنا)، فكيف يستسلم من يملك آلاف الدبابات ومئات الطائرات الحربية ومئات آلاف الجنود وفيضاً لا ينضب من العتاد الحربي (شكراً، بالطبع، لإيران وروسيا)؟
كيف يمكن للأخضر الابراهيمي المُقْدِمُ على مهمة مستحيلة أن يتوافر على القليل من التفاؤل والوقائع الدولية البائسة التي أفشلت مهمة عنان لا تزال على حالها، كما لا يزال النظام السوري (وعلى لسان رئيسه) يرى في ثورة شعبه مؤامرة دولية وعربية ضده (سماها مؤامرة عالمية في آخر ظهور غير مبارك له)؟
هل تلاحظون الفتور، إن لم أقل عدم الاكتراث، الذي تحظى به مهمة الابراهيمي من قبل ‘جميع الأطراف’، حتى زلات لسانه لم تثر ردود فعل تتتجاوز تسجيل الموقف. فما يجري في سورية، خرج تماماً ‘من اليد’ كما يقولون.
لا نقاط عنان الست ولا التصور الذي لا نعرف ما هو للابراهيمي، ولا خطة الجامعة العربية من قبل، ممكنة التطبيق اليوم. لقد انتقل النظام السوري من حصار المدن والبلدات الثائرة وتوجيه ضربات انتقائية لها الى دكِّها من كلِّ جنب، بل وتسوية أجزاء منها بالأرض تماماً.
لم أر، وأنا الذي عاش الحرب الأهلية في لبنان والحصار الاسرائيلي لبيروت، دماراً كالذي تنقله لنا كاميرات الهواتف من حمص وحلب ودير الزور وبعض أعمال درعا!
عندما كان يسقط خمسة قتلى في حيٍّ بيروتيٍّ واحدٍ كانت الصحف اللبنانية تتحدث، بالمناشيت العريضة، عن مجزرة. إن مقتل خمسة سوريين، حتى لو كانوا من عائلة واحدة، لا يشكل خبراً للجريدة أو لوكالة الأنباء.
مصرع خمسين، فما فوق وفي مكانٍ بعينه، يمكن أن ينال، اليوم، لقب ‘مجزرة’ في سورية المنكوبة، ويحظى بخبر سريع على شاشة التلفزيون.
هل يمكن للابراهيمي والحال، أن يوقف هذا الخيار الشمشوني الذي يمعن فيه وريث أول كرسي للجمهورية في العالم العربي وآخر واحد؟
أيُّ كلام سيقوله الدبلوماسي المخضرم في لحظة تجاوزت كلَّ دبلوماسية ممكنة، ونسفت كلَّ حلٍّ سياسيٍّ لا يتضمن خروج بشار الأسد وعائلته من المشهد السوري؟
هل يستطيع، فعلاً، أن يقول له إنك قتلت أكثر من ثلاثين ألف سوري من أجل كرسي لن تحتفظ به، كما يبدو، حتى لو قتلت ثلاثين ألفاً آخرين؟ هل يستطيع أن يقول له إن لكلِّ شيء نهاية، وأن تطويل النهايات لا يغير شيئاً من حتميتها، فاحفظ ما تبقى من دم ونسيج اجتماعي وبنية تحتية في بلادك واخرج الآن، إذ لا يزال باب الخروج ممكناً، قبل أن تُخرجك أيدي الثكالى واليتامى والمفجوعين في أعزائهم الى ساحة المرجة… عندها لن يواجه أحدٌ في طهران أو موسكو الاستحقاق الذي يتأرجحُ بين عينيك.
طبعا لن يستطيع الابراهيمي أن يقول شيئاً كهذا لبشار الأسد.. وهذا، في اللحظة التي وصلت اليها سورية، هو أضعف الإيمان.
كلُّ ما نرجوه، أخيراً، أن لا تتحول مهمة الابراهيمي المستحيلة الى رخصة جديدة لقتل مزيد من السوريين وتدمير ما تبقى قائماً من المدن السورية.
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\05qpt998.htm&arc=data\2012\09\09-05\05qpt998.htm