إنه دمنا في كنيسة فرنسية – معن البياري
إنه دمنا في كنيسة فرنسية
احتاج المخرج الفرنسي، كسافييه بوفوا، إلى قليلٍ من الخيال، وكثيرٍ من الحرفيّة السينمائية، في إنجاز شريطه « آلهة ورجال » الذي حاز السعفة الذهبية في « كان » العام 2010، ذلك أنه فيلمٌ عن قتل سبعة رهبانٍ في قريةٍ في غرب الجزائر، في 1996، بعد خطفهم إلى غابةٍ، ثم العثور على رؤوسهم مقطوعةً، وجاء الفيلم على حياتهم وخدمتهم أهل تلك القرية. لكنّ أيّ مخرج قد يتولى إنجاز فيلم سينمائي عن ذبح الكاهن الكاثوليكي الفرنسي، جاك هامل (84 عاماً) بالسكين، أول من أمس، في كنيسةٍ في بلدة شمال غرب فرنسا، سيحتاج إلى خيالٍ كثير، ولو أن تفاصيل الجريمة المروّعة صارت معلومةً، في اقتحام القاتليْن الكنيسة، واحتجازهما خمسة رهائن فيها، فأصيبت راهبةٌ منهم، تردّد، أمس، أنها « بين الحياة والموت »، قبل أن تنهي الشرطة الواقعة، بتحرير الكنيسة وقتل الإرهابيّين اللذيْن قالت عصابة داعش، تالياً، إنهما « جنديان » فيها. ومبعث هذه الحاجة أن فيلماً مثل هذا لن يكون موفقاً وعالي القيمة، إذا لم يتجه إلى ما كان في ذينك الدماغيْن في رأسي المجرميْن في أثناء ذبح شيخٍ ثمانيني، متنسّك لعبادة ربه. توفّرت لصاحب « آلهة ورجال » معرفةٌ بصلاتٍ محبّةٍ أقامها أولئك الرهبان الفرنسيون السبعة مع ناس تلك القرية الجزائرية، المسلمين وذوي العيش المتواضع. وتتوفّر لمخرجٍ ذي كفاءةٍ إذا ما ودّ إنجاز فيلم عن الأب الذبيح في البلدة الفرنسية معرفة أن الكنيسة التي استهدف القاتلان رهبانَها كانت قد تبرّعت بأرضٍ أقيم عليها مسجد البلدة.
ولكن، إذا كان في شناعة أحدث جرائم « داعش » (وغيرها) في فرنسا (وأوروبا) ما قد يُغري السينما، فإن مأثرةً بديعةً، مضادّة تماماً للذي كان في دماغيْ عادل كرميش وزميله، اللذيْن ارتكبا الذبح والخطف والترويع في الكنيسة الفرنسية، اعتنت بها السينما أيضاً. والإشارة هنا إلى « رجال أحرار »، الفيلم الذي صنعه المغربي إسماعيل فروخي، عن منح مؤسس مسجد باريس وإمامه، إبّان الاحتلال النازي فرنسا، الجزائري الشيخ قدّور بن غبريت، يهوداً كثيرين وثائق مختومة منه تعتبرهم مسلمين، فحماهم من جرّهم إلى المحرقة، وساعد في تأمين هروب بعضهم من الألمان وحكومة فيشي العميلة. لا تحتمل أفهامُ كثيرين من ذوي الهوى الداعشي، في مطارح بلا عدد في بلادنا العربية والمسلمة، أمراً مثل هذا، وهم المولعون بتكفير غيرهم، والنطق باسم إسلامٍ يخصّهم وحدهم. ليس في وسع هؤلاء، وأشباحهم، أن يعرفوا أن نصرانيّة الأب مانويل مسلم هي المثال، وليس ما يشيعونه من ظلامٍ مرذول، لمّا دعا الأب أهل غزة، في غضون العدوان الإسرائيلي صيف 2014، إلى أن يرفعوا آذان الصلوات الخمس من الكنائس التي لجأ إلى إحداها كثيرون من حي الشجاعية.
السكّين التي حزّت عنق الأب جاك هامل في كنيسته، هناك في سانت إتيان دو روفرييه، هي نفسها الرصاصة التي قتلت الأب الهولندي، فرانز درولوغت (75 عاماً)، هناك في دير يسوعيّ في حمص (إبريل 2014). وهو الذي كان يقيم بين السوريين منذ أكثر من خمسين عاماً. ولأن القتلة في الجريمتين طائفيون مسلمون، فإنهم من سلالة قاتل الأب يوسف مهنا حدّاد، في غضون جائحةٍ طائفيةٍ في العام 1860 في دمشق. وقد ذكرت الأخبار أن ذلك القاتل صاح إن ضحيته إمام النصارى، « فإذا قتلناه قتلناهم جميعاً ».
تُرى، هل هذا مُراد المأفونين في سورية والعراق وغيرهما، من ناس « داعش » ونظرائهم؟ هل أقدم المجرمون من هؤلاء الذين غيّبوا اليسوعي الجليل، الأب باولو، على فعلتهم تلك، قبل أكثر من ثلاثة أعوام، من أجل هذا الغرض؟ سرطانٌ مروّع وفظيع، إذن، أن ينشر أولئك، ومتعاطفون معهم، سخفهم هذا، لأن المسيحيين في المشرق العربي هم ملح الأرض فيه، هم مواطنوه الأوائل. وليس من خيال السينما أن يُقال، هنا، إن دم الأب جاك هامل الذي سال في كنيسته، بجريمة سكّين قاتلِه، العربي الأصل المسلم الديانة، موصولٌ بدمنا في أوطاننا، طالما أن المجرم منسوبٌ إلينا، ويرفع ناسٌ من طينته بيارقَهم السود في بطاحنا.