الأقليات بين بيانات الطمأنة والخوف من القادم – خولة دنيا
منذ الأشهر الأولى للثورة والبيانات والتصريحات التي تدعو لانشقاق أبناء الأقليات عن النظام تتوارد من كل حدب وصوب.. والآن، نجد دعوات الانشقاق ما زالت تتوارد، مقترنة مع التهديدات أحياناً، أو مع تحميل هذه الأقليات مسؤولية جرائم وأفعال النظام. تكثر بشكل خاص تجاه الطائفة العلوية التي تنتمي إليها الأسرة الحاكمة، ويتم تحميلها مسؤولية حماية النظام، وتوريد الشبيحة العقائديين وهم ما يمكن اعتباره خزان الدفاع عن النظام للحظة الأخيرة بسبب الترابط بينهم وبين النظام، ترابط تم دفع ثمنه دماءً وجرائم وسرقات وسلب ونهب، كمن لم يترك مجالاً لأي شكل من أشكال المسامحة. دعوات الانشقاق تترافق عادة بالطمأنة، طمأنة أراها تشبه الحلم البعيد عن الواقع، مثل أن لن نؤذيكم فقط تعالوا إلينا. وإن كنت أجد هذه الدعوات مجدية في الأشهر الأولى للثورة، فهي لم تعد تحمل نفس الجدوى الآن، وقد ترسخ الصراع، وأصبح الآخر أكثر من مخيف، وأصبحت لغة “نحن” و “هم” سائدة.. فمع ازدياد الخوف من الآخر (وهنا أقصد موالو النظام) أصبح خطاب الطمأنة وكأنه قادم من عصر آخر، لا يمكن أن يجدي أو يقوم بالدور الذي من المفترض أنه قام لأجله.
مالذي أوصلنا لهذا؟ وما هو الخطاب المناسب لليوم؟ عمل النظام من اليوم الأول على تفكيك مسارات الثورة وإعطائها أبعاداً ودلالات لا تمت لها بصلة، بدءً من حكاية العصابات المسلحة والمندسين، مروراً بقصص الخطف والقتل الطائفي، وانتهاءً بجبهة النصرة وتضخيم دورها، وما ستقوم به من انتقامات طائفية في حال انتصار الثورة. هذا ما نجح فيه النظام للأسف، وجر كثير من قوى الثورة إلى موقعه المصلحي الطائفي، فانتقلنا من ثورة لكل السوريين، إلى الحديث الطائفي بدون أن نشعر، واستسهلنا تداول الفتنة السنية – العلوية، كما تناسينا الكتل التي دعمت النظام لفترة طويلة سابقاً وخلال الثورة، أصبحنا نتعامل أن الشبيحة علويون، وأن موالو النظام علويون وأقليات، تم تحييد بعض الأقليات من الصراع كالمسيحيين وكأنهم ينتمون لبلد آخر، وساهم البعض منهم في هذا التحييد. كما ساهمنا في نشر أسباب الخوف عند الصامتين والمحسوبين على النظام من خلال خطابات الطمأنة المبنية على أساس طائفي. الحل لا يكون بالكلام النظري، ولا بترسيخ الانقسام الذي حصل، وإنما بإعادة إنتاج ما قامت الثورة من أجله، أي رفع الظلم عن الجميع، القضاء على الفساد الذي طال الجميع، وإقامة دولة عدالة ومواطنة لجميع السوريين على مختلف انتماءاتهم وطوائفهم. كما أن الحل يكون في العودة إلى العمل السياسي والحزبي والذي غاب بفعل العمل العسكري والمسلح الذي أصبح صاحب الكلمة الأولى اليوم، وهذا شيء طبيعي لمواجهة النظام وآلته الحربية ولتحقيق الانتصار، غير أن غياب السياسة أخذ العمل العسكري إلى مواقع أخرى يجب أن يأخذها، وساهم في هذا تشتت المعارضة، وبحثها عن مصالحها اللاحقة على حساب اللحظة الحالية التي تحتاج لدعم ومساندة بالمعنى السياسي وبمعنى الخطاب الوطني الموجه للجميع. وقد تكون من أهم النقاط التي يجب البحث فيها اليوم هو موضوع العدالة الانتقالية، والشكل الذي يجب أن تأخذه، وتعميم هذا النقاش وإيصاله لجميع السوريين، وخاصة المحتسبين على الموالاة أو الصامتين. فموضوع العدالة الانتقالية موضوع شائك ومُختلَف عليه جداً، من حيث أيُّ الأساليب يمكن اتباعها وتكون مجدية أكثر لسوريا؟ هل السلم الأهلي قابل للتحقق في حال التغاضي عن جرائم بعض الصغار لصالح محاكمة الكبار؟ هل سيتم فتح كل الملفات السابقة واللاحقة في سوريا ويتم محاسبة الجميع؟ وهل المصالحة الوطنية قابلة للتطبيق على مستوى الوطن ككل؟ هل يمكن حصر المسؤولين والمتسببين بما جرى ويجري كأشخاص معروفين بالاسم، لتحميلهم مسؤولية ذلك؟ أم سيكون التعميم سيد الموقف كما في خطابات الطمأنة الموجهة بشكل عام لطائفة بذاتها؟ هذه الأسئلة مقلقة وقد يكون الجواب عليها أحد أهم وسائل الطمأنة المطلوبة اليوم في الخطاب الموجه لمن ما يزال يتخوف من الثورة ومن نتائجها، هذا الخوف الذي يجر هذه الفئات إلى التقوقع والخوف، والدفاع المستميت عن النفس، ولن نستغرب أيضاً الانتحار الجماعي الذي سيكون أكثر تكراراً في حال فشلنا في مشروع الطمأنة. إن فشلنا في هذا يعني فشلنا في ثورتنا بأحد أهم مقومات قيامها: أي مشروع دولة لجميع مواطنيها، وعدالة لجميع مواطنيها، وبلد يمكن التعويل على قيامه من الرماد بأسرع ما يمكن. انتصارنا هنا في معاركنا هذه يعني انتصار ثورتنا كما نراها، كما أن فشلنا يعني انتصاراً للنظام رغم سقوطه، واستمراراً لنهجه الطائفي. وقد يكون فشلنا هذا بداية لتحقيق مشروع التقسيم تحت مظلة حماية الأقليات الذي يتم الترويج له بكل صفاقة.
خولة دني