الانتحار اللبناني في سورية! – الياس خوري
بصرف النظر عن نتائج المعارك التي تدور في ريف حمص وحول مدينة القصير، فإن ما يجب الاشارة اليه، هو ان عناصر حزب الله الذين يقاتلون الى جانب النظام السوري وشبيحته، يرتكبون اليوم الخطأ الأساسي القاتل في تارخهم. وان نتائج هذا الخطأ الكارثية لن تنحصر بــــهم، بل ستمتد الى الطائفة التي يحتكرون تمثيلها، وستشمل لبنان بأسره، لأنها ستكون اللعبة الانتحارية الأخيرة والنهائية، في تاريخ الانتحارات التي صنعتها البنى الطائفية اللبنانية المقاتلة، خلال العقود الأربعة الماضية.
قلت انه يجب الاشارة الى الخطأ ولم أقل التحذير منه، لأن اوان التحذير قد فات كما يبدو، ولم يعد هناك اية قوة معنوية تستطيع التأثير على القرار الصادر من طهران، والذي ينفذه حزب الله بالاشتراك مع الحرس الثوري الايراني وفيلق القدس.
انه الخطأ القاتل، الذي كنا نعتقد ان براغماتية قيادة حزب الله لن تسقط فيه، لكن يبدو ان الطبع غلب التطبع، كما تقول العرب، وان البنية الدينية- الطائفية، لا تستطيع ان تعلو على طبيعتها التكوينية، بوصفها جزءا من التفتت الاجتماعي السياسي الذي صنعه المرض الطائفي من جهة، كما ان ارتباطها بنظام ولاية الفقيه، يضيّق عليها خياراتها، لتجد نفسها تقاتل في حمص وريفها، تحت مظلة خطاب لا علاقة له بالخطاب المقاوم الذي صنع هالتها الرمزية في مرحلة سابقة.
نعود الى جذر المسألة، اي الى تقاطع المصالح بين ايران الخمينية وسورية الأسدية، الذي قام بتلزيم مقاومة الاحتلال الاسرائيلي في لبنان الى طرف حصري هو حزب الله. لقد حصل التلزيم والالتزام بالقوة والعنف، وتم طرد اليسار العلماني، الذي اسس المقاومة الوطنية ضد الاحتلال عشية سقوط بيروت عام 1982. يشهد التاريخ المنسي والمحجوب، على التصفيات الدموية التي تعرض لها الشيوعيون من اجل اخراجهم من معادلة المقاومة التي اطلقوا شرارتها، ولقد وصلت هذه التصفيات الى ذروتها مع اغتيال عدد كبير من قيادات المقاومة وكوادرها وعلى رأسهم الشهيدين الكاتب حسين مروة والمفكر مهدي عامل (حسن حمدان).
والحق يقال، ان طرد اليسار العلماني من المقاومة شكّل نقطة سوداء في تاريخ لبنان، لأنه اسدل الستار على امكانية بناء وحدة شعبية لبنانية مقاومة خارج الاصطفاف الطائفي.
لكن نجاح العملية لا يعود فقط الى القمع الذي تعرض له اليساريون على ايدي حزب الله وحركة امل، بل الى عوامل ذاتية، كان ابرزها انهيار الهيكل السوفياتي من جهة، وضياع قيادة الحزب الشيوعي بين خياري المقاومة والمشاركة في الحرب الأهلية، خصوصا في حرب الجبل الدموية، من جهة ثانية.
لكن الذاكرة الشعبية اللبنانية والعربية كانت ميالة الى غفران هذه الخطيئة، بسبب التفاني والجدّية اللذين ميزا عمل المقاومة الاسلامية، بحيث تحقق انتصار تاريخي عام 2000 عبر اجبار قوات الاحتلال الاسرائيلية على الانسحاب من الجنوب المحتل الى حدود لبنان الدولية بلا قيد ولا شرط. وهذه سابقة في الصراع العربي- الاسرئيلي كانت كفيلة بتغيير معادلات افق هذا الصراع، لو لم يبدأ حزب الله سقوطه في المعادلة الداخلية الطائفية اللبنانية منذ انسحاب جيش النظام السوري من لبنان عام 2005.
كانت حرب تموز عام 2006 مؤهلة لأن تعيد البوصلة الى مكانها الطبيعي، لكن المحور السوري- الايراني قرر ان حزب الله بقوته العسكرية المتنامية يشكل بديلا لهيمنة النظام السوري المتلاشية، ويستطيع ان يعيد عبر هذه القوة استتباع لبنان لهذا المحور.
الأخطاء المتراكمة منذ 2005، اوصلت حزب الله الى طريق مسدود، خصوصا بعد اندلاع الثورة السورية، بحيث صار حزب المقاومة ضد الشعب السوري! وصولا الى قرار الاشتراك في العمليات القتالية داخل الأراضي السورية في ريف دمشق ومنطقة حمص.
هنا سقط الحزب في الخطأ المميت، وصار عنصرا في تسعير التوتر الطائفي في سورية، الذي حاوله الأسد منذ لحظة بداية الثورة الشعبية، وشاركت في تسعيره للأسف بعض القوى المسلحة في الثورة عبر خطاب تكفيري اصولي.
ما يقوم به حزب الله اليوم تحت حجج واهية، كحماية المقامات الشيعية في منطقة دمشق، او الدفاع عن لبنانيين من الطائفة الشيعية يقيمون في ريف حمص، هو فتح احتمالات الجحيم والغاء حدود لبنان.
الجحيم الذي يبدأ اليوم لا علاقة له بهوية المنتصر في سورية، فبعد السقوط الفعلي للنظام الأستبدادي، لم يعد الخيار هو بين انتصار الشعب او النظام. النظام لن ينتصر ولا يستطيع ان ينتصر، بل صار الخيار هو بين انتصار المعارضة او الذهاب الى خيار تقسيمي مستحيل، اي الى خيار حرب اهلية طويلة.
وفي الحالين فان قرار الاشتراك في القتال في سورية هو انتحار حتمي. ففي حال انتصار المعارضة، فإن الجروح التي تصنعها مشاركة حزب الله في القتال لن تندمل بسرعة، كما ان قيامه بكسر الحدود اللبنانية السورية، سوف يعني ان اعادة ترميم هذه الحدود ستكون بالغة الصعوبة، وبذا فإنه يؤسس انتحارا لبنانيا جماعيا، عبر احتمالات انتقال القتال الى البقاع بشكل رئيسي. اما في حال الذهاب الى الحرب الطويلة، فإن هذا يعني ان لبنان سيكون احدى ساحاتها الرئيسية، مما يعني ان حزب الله سوف يفقد نهائيا الأرض التي يقف عليها.
هل كان هذا المسار حتمياً.
على الرغم من عدم ايماني بالحتميات التاريخية، فإنني اخشى ان يكون هذا المسار لا بديل له. فالبنى الطائفية تستطيع ان تمتلك الكثير من المزايا وعلى رأسها القوة العسكرية، لكنها لا تستطيع ان تمتلك العقلانية التي تحميها من الانتحار.
لا يمكن للمقاومة ان تكون ملكا لطائفة رغم كل ما يختزنه تاريخها من تضحيات، مقاومة العدو الوطني تكون ببنية عابرة للطوائف وتستند الى فكرة الدفاع عن الوطن والوحدة الشعبية، اما البنى الطائفية فهي بنى تفكيكية، تقسم المواطنين على اساس انتماءاتهم الدينية، وبذا تدفع بهم الى الانتحار.