الانتظار المؤلم للاحتلال الوطني.. وثورتي على ثوار إدلب – زينه ارحيم
وقفةُ العيد في إدلب، من الأيام النادرة التي نضطّر فيها للوقوف على إشارة المرور مرتين قبل أن نمشي، علماً أن هذا يحدث فقط في المناطق القريبة من السوق، المتسوّقون يسبّبون ربع الازدحام بينما يشغل المتفرجون على المشترين والمتفرجون على المتفرجين الأرباع الباقية
ككلّ ملامح الرتابة تغيّر هذا الطقس في وقفة عيد الفطر الأول بعد الحرية، عدد المتسكعّين كما المتسوّقين انخفض للنصف، فهناك في الشارع المجاور كانوا يتابعون بنَهمٍ الحلقة التاسعة والعشرين من مسلسل إسقاط النظام سيدةٌ ممتلئة الجسم بحجابٍ أبيض مرّت بالشارع الرئيسي للسوق وهي تنهرُ المتسوقين بصوتٍ عالٍ « مافي عيد وكل يوم شهيد »، « اللي استحوا ماتوا » تلتفت إليها سيدةٌ بلؤم، تعبس في وجهها ثم تمشي، وتتابع « عودوا لبيوتكم..لك ماعنا عيد »، « إنشالله ما بتتهنوا بمشترياتكم كانت تصرخ ماكتَمه قلبي، وكم تمنيت أن آخذها معي للشعلان والقصّاع والحمرا. لا معتقلون في عائلة السيدة ولا شهداء، هي حرّة حفظت شوارع إدلب خطواتِها منذ انضمّت « المنسية » لقافلة الحرية وهتفت لدرعا قبل ستة أشهر بعد جولة السوق التي حولتها السيدة لفريدة، أسرعت للمنزل لارتداء عدّة مظاهرتي الأخيرة بمدينتي، المظاهرة التي سأعصي فيها قواعد الثوار القاضية بإنهاء المظاهرة النسائية بإشارةٍ منهم في المكان ذاته، عند مفرق مستشفى ابن سينا تعالت الشجارات بين النساء اللواتي يحاولن تمديد مظاهرتهّن قليلاً والثوار الذي يريدون التخلص من عبء حمايتهن والسير سريعاً دون قلق عليّهن تسللت بينهنّ ثم بينهم ومشيت بثقة عريّف المدرسة، مختلفةٌ عنهم أنا بطبقة صوتٍ وعباءة، لكني مثلهم طالبةُ حريّةٍ في إعدادية الشارع تجنّبت تقصّي ردود أفعالهم حولي لئلا أرتبك من نظرات دهشتهم أو استنكارهم، مرّ بعضهم قربي بتجاهلٍ غريب، فالتجاهلُ كلمةٌ غير مسجّلة بالقاموس الإدلبي آخرون كظموا مفاجأتهم بصعوبة قبل أن يسرعوا للالتحاق بالصفوف الأولى من المظاهرة مشينا في صفٍّ طويل، وكنت مركزّةً على التقاط الهتافات القادمة من الصفوف الأمامية لأرّددها، لكني لم أستطع صمّ أذني عن الشجارات العديدة حولي والتي أثارها وجودي وكسري لنواميس المدينة عدّة رجالٍ وبشكل متتالٍ طلبوا مني أن أمشي على الرصيف « يا أختي الله يوفقك، هي امرأة هناك امشي معها »، سألت أحدهم ولمَ أمشي على الرصيف؟ ردّ « أخاف عليك »، فأجبته « أتخاف علي منكم وأنتم أهلي؟ أم أنك تخاف علي من الشهادة وتريد أن تستأثر بها لنفسك؟ ». ثانٍ برّر طلبه بأن « بعض الشباب الزعران ينسلّون للمظاهرة وقد يزعجونني بكلمة »، فيما دفعني ثالثٌ لأن أصرخ « إذا كنت أنت أيضاً تريد أن تتحكم بي سأمشي على الرصيف وأهتف للنظام » هنا تقدّم مني شابٌ أعرفه، كان جارنا في الحارة ومنذ عُرض مسلسل « كاساندرا » لقّبناه بـ »لويس دافيد » نظراً لشبهه الكبير بحبيب البطلة، ونسيت اسمه عندما كبرت، قال لي « لا تغضبي منهم، هو خوفهم عليك فقط، كما أنهم ليسوا معتادين على مشاركة الصبايا معنا بالمظاهرة، وهنا تجسيدٌ لكل الأطياف، من المتدينين المتشددين إلى الليبرالين واليسارين، وأشار بيده إلى مجموعة شباب أنيقين يدخنون وهم يمشون بالصفوف الأخيرة، فلوّحوا لي بأيديهم محييّن » مشيت مع آلاف الرجال والشبّان بحي الضبيط بعد أن قرر منسقو المظاهرة ألا يزعجوا أصحاب المحال التجارية بدخول السوق يوم الوقفة سيدةٌ لطيفةٌ بوجهٍ ورديّ كانت ترمي السكاكر على المتظاهرين، فقال لها حدهم « »سوسّتوا لنا أسناننا يا خالتي حاج »، فأجابته « هذه لتليّن حناجركم، لئلا ننحرم من أصواتكم الجميلة ». طفلٌ نحيلٌ اقترب منها وقد قعّر كفيه فملأتهما بالحلوى ثم دخل في المظاهرة ليوزّعهم، وعاد لمكانه قربي وفيهما سكّرةٌ واحدةٌ، دون ترد، أعطاها لي سألته « آكلها الآن أم أنتظر حتى يسقط النظام؟ » فكّر قليلاً ثم قال « كُليها الآن، لأن أبي سيوّزع شعيبيات على إدلب كلها عند سقوط النظام والشعيبات أطيب » لكني لم أتبع نصيحته، وكيف أتنازل عن القطعة الوحيدة التي احتفظت بها منهم! تلك السُكّرة البّنةُ القشرة بطعم الكاكاو، أنظر إليها الآن معلقةٌ فوق سريري، وأتساءل عن اليوم الذي سأرميها فيه لآكل الشعيبات « علّي الصوت، علّي الصوت، وإدلب ما بتهاب الموت »، « زيد يا عاصينا زيد، كل يوم عنّا شهيد »، « ويالله مالنا غيرك يالله » هتفنا غناءً متسقّاً بلحن جماعي خلف المايسترو الذي كان أبعد من أن أراه أمام أبنية « القرميد » اقترب مني رجلٌ وقورٌ بلحيةٍ بيضاء قائلاً « أهلاً وسهلاً فيك ياعمو، واسمحي لي أن أطلب منك إمساك كُمّ عباءتك بكفّك، لأن يدك تظهر كاملةً وأنت تهتفين! »، « عمو، أنا لست محجبة » أجبته، تراجعَ قليلاً وعلامات الاستغراب على محيّاه – فغير المحجبات في مدينتي قليلات- وبعد أن صفن قليلاً قال لي « والله يا عمو فرعتك (سفورك) أثمن وأطهر من كل أولئك الجالسين في البيوت، الله يحميكي » ومشى وبينما عدت أخيراً للمظاهرة والهتاف لاحظت أنني تحوّلت لمركز دائرةٍ من الحرّاس كانوا يتصدّون لكل الغاضبين من وجودي معهم يمشي في هذه الدائرة رجلٌ ضخم الجثة وله شاربٌ مفتولٌ وعريض –يقف عليه النسر- وقد صرخ بأحد الممتعضين مني « ياخي دعوها وشأنها هذه أختي و أنا أنزلتها معي للمظاهرة » ثم أعطاني برأسه إشارةً لأتابع الهتاف، فهتفت بما بقي من صوتي إلى أن اقتربت صديقتي بسيارتها من إحدى الحارات وصعدت معها بعد أن غيّرت خماري الذي « انشمس » في إدلب تلك الليلة عدت مع سُكّرتي للمنزل لأجد على بروفايلي رسالةً خاصةً من شابٍّ لا أعرفه هزّت روحي يقول فيها « زينة، في مظاهرتنا المسائية اليوم مشت معنا صبيّةٌ مرتاحةٌ وكأنها واحداً منّا، تماماً كما تخيّلت نفسك في المقال الذي نشرته قبلاً، كانت عيناها تشّع ثقةً وصوتها بارز، ذكّرتني بك بعنف! » أولئك الذين كنت أتحاشى المشي قربهم لئلا أسمع غزلاً فاحشاً أو نظراتٍ وقحة تتفحّص أنوثتي أصبحوا أخوتي في الروح يعرفونني كنفسي وآمنهم عليها دون تفكير تلك الليلة انقطعت شبكة المحمول مع الإنترنت لتلحق بها الخطوط الأرضية، حالةٌ من الهلع بدت واضحةً بالشوارع، سياراتٌ تتحرك مسرعةً، تركن عند منزل لبضع دقائق قبل أن تتحرك لآخر، لتحذّر الناشطين من حملة مداهماتٍ واعتقالاتٍ محتملة الجيش الباسل انتهى من « تطهير » سرمين، القرية الأقرب إلى مدينة إدلب، وكل المؤشرات تدّل أن دور مدينتي قد أتى، وخاصةً أن الدبابات كانت قد حاصرتها الشهر الماضي قبل أن تغير رأيها وتنسحب لحماه حركة الشارع ترافقت مع حركة نشطة بالمنازل لتخبئة الممتلكات الثمينة والمبالغ المالية التي يحتفظون بها، إحداهنّ لصقت عقدها داخل حوض الغسالة بينما وضعت أخرى راتبها الشهري بين الكرسي وملاءته، كانوا مُسلّمين لحقيقة أن « حُماتهم » لصوصٌ ويحاولون التخفيف من نتائج اقتحامهم لا أكثر! كم أرعبني ذاك التسليم كانت أمي تزرع أرض المنزل بخطواتها السريعة متنقّلةً بين شرفتينا ثم تدخل ودون أن أسألها تجيب « لسه ما إجو » قبل أن تعود لحركتها الدورانية. « لم لست خائفة؟ » تسألني بعصبية لا أعرف، كنت متفاجئةً مثلها، لكن يبدو أن جمارك الحدود صادروا خوفي كلّه، وبعد أن تظاهرت في سوريتنا ووصلت حتى أهلي هنا، كيف لي أن أخاف لم يحتّلنا الجيش في ذلك اليوم، لكن أهلي مازالوا على موعد معه في كل ليليةٍ تغيب عنهم الكهرباء أو تهجرههم الاتصالات فلاشات ثورية -أثناء مهاجمة الأمن لإحدى المظاهرات المسائية بالغازات والرصاص، تعب من الركض فاختبأ ببناءٍ قريب، شعر بعناصر الأمن يقتربون منه أكثر فأكثر، فطرق أحد الأبواب، فُتح الباب وسحبه رجلٌ لبيته المزدحم، جريحٌ يُسفعه شابٌ لا يتوقف عن السعال وآخر بعيون دامية يجلب الماء ليسقي المسعف المختنق ورابعٌ يحاول إقناع الثالث بغسل عيونه ليزيل آثار الغازات أربعة عشر حرّاً في ذلك المنزل العائلي، بعد العشاء خرج صاحبه ليتأكد من سلامة الطريق تماماً قبل أن يهربّهم واحداً تلو الآخر. لم يسأل أيّ منهم عن اسم الآخر، لن يعرف أي منهم الآخر _دير الزرو تُضرب بالدبابات، خرجوا لأجلها، حاصرهم الآلاف من قوّات حفظ النظام عند المشفى الوطني، على بعد مترٍ واحد من العناصر المدججة بالسلاح كانوا يهتفون للدير وشهدائها، عيونه في عينيه، رآه يخفض سلاحه بعد الهتاف الأول، يرميه أرضاً بعد الثاني ويبكي بعد الثالث، التفت حوله، لم يجد العناصر، وحدها الدير كانت تحضنه _هي ربة منزل لم تكمل في حياتها نشرة الأخبار وستتلعثم إن سألتها عن اسم نائب الرئيس، لكنّها لم تفوّت مظاهرةً واحدةً، بل أنقذت عشرات المتظاهرين عندما مهاجمة الأمن. قصدتها تنسيقة إدلب للمساعدة بإدخال طبيب لمشفىً مُحاصر بقوى الأمن، فادّعت أنها مريضة يُسندها الطبيب وأوصلته للجريح الذي لا تعرفُه حتى الآن _هو كان يفاصله على خمس ليرات، اليوم مرّ على مخبئه ليسلّمه مئة ألف، عائلاتُ المعتقلين والمطلوبين المختئبين في المزارع بحاجة، أما هو فسيتدبّر الأشهر القادمة مع الخمسين التي بقيت معه أهلا بكم في إدلب الحرّة كاتبة سورية
القدس العربي – 2011-10-07
|