التعذيب في سورية.. والقدوة في أمريكا!- صبحي حديدي
إثر زيارة إلى مدينة الرقة، التي تديرها المعارضة السورية اليوم، بعد تحريرها في مطلع آذار (مارس) الماضي، أصدرت منظمة ‘هيومن رايتس ووتش’ تقريراً مفصلاً عن أنماط الاحتجاز والتعذيب التي كان مواطنون سوريون قد خضعوا لها في مختلف مقارّ ومعتقلات استخبارات النظام السوري (أمن الدولة، المخابرات العسكرية، مخابرات القوى الجوية، الأمن السياسي، والأمن الجنائي). وفي تلخيص فحوى التقرير قال نديم حوري، نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة: ‘ما رأينا من وثائق وزنازين وحجرات استجواب وأجهزة تعذيب في مقار الأمن الحكومية، تتفق مع أقوال السجناء السابقين الذين وصفوا لنا ما تعرضوا له منذ بداية الانتفاضة في سورية’.
وفي خلاصات التقرير الأخرى جاء أنّ ‘الأنماط الممنهجة للمعاملة السيئة والتعذيب’ التي وثقتها المنظمة، ‘تشير إلى وجود سياسة انتهجتها الدولة، تتلخص في تعذيب وإساءة معاملة الأفراد، ومن ثمّ فهي ترقى لكونها جريمة ضدّ الإنسانية’.
واتكاءً على معلومات متقاطعة، جُمعت من أفراد معتقلين نُقلوا إلى أكثر من 17 فرعاً أمنياً مختلفاً (وهذه هي حالة المحامي والناشط عبد الله الخليل، والرئيس الحالي للمجلس المدني المحلي في الرقة) كتبت المنظمة إلى مجلس الأمن الدولي، باسم الحكومة السويسرية وبالنيابة عن 57 دولة (بينها فرنسا وبريطانيا وألمانيا والنمسا وبلجيكا وفنلندا واليونان والنروج والبرتغال وهنغاريا وأستراليا واليابان…)، تطالب بإحالة الوضع في سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية، بما ‘يعطي الزخم للجهود الدولية الرامية إلى وقف الانتهاكات الجسيمة المرتكبة في سورية. كذلك ألحّت المنظمة على ‘انضمام الدول الأخرى إلى هذه الدعوة، من أجل دفع أعضاء مجلس الأمن المترددين إلى إدراك ضرورة الاهتمام بقضية المحاسبة على وجه السرعة’.
لكنّ الرسالة لم تلق آذاناً صاغية في المجلس، وظلّت الدول الغائبة عن اللائحة مترددة في التوقيع، أو رافضة للفكرة من الأساس. المرء يفهم أسباب امتناع دول مثل روسيا والصين، لانّ ركائز حقوق الإنسان وحرية التعبير في البلدين قائمة على بيوت من زجاج، ولا تشجّع كثيراً على رشق أجهزة بشار الأسد بالحجارة؛ هذا فضلاً عن مواقف موسكو وبكين المعطلة، إجمالاً، لأيّ قرار أممي حول النظام السوري. فماذا عن الولايات المتحدة، ‘راعية حقوق الإنسان’ كما يحلو لساستها أن يرددوا كلما رنّ ناقوس؟ السبب هو بيت الزجاج ذاته، في الواقع، حتى إذا اختلفت حجوم الحجارة التي يمكن أن تهزّ أركانه، وتباينت مقادير الانتهاكات، وتنوعت أنساق التعذيب (إذْ أنها ليست، البتة، نسقاً واحداً متماثلاً) هنا وهناك، حيث تنشط أجهزة العمّ سام الأمنية.
وقبل أن يقرّر الرئيس الأمريكي باراك أوباما أنّ الوقت قد حان للوفاء بواحد من أبرز وعوده الانتخابية، فيعطي الإذن بنشر ما يُسمّى اليوم ‘مذكرات التعذيب’ الصادرة عن كبار مسؤولي وزارة العدل والبنتاغون في الإدارة السابقة؛ كانت ثلاثة كتب قد صدرت في هذا الموضوع، على سبيل ارتياد حقائق ذلك الملفّ المشين. كتاب ‘فريق التعذيب: مذكرات رمسفيلد وخيانة القيم الأمريكية’ للمحامي البريطاني وأستاذ القانون فيليب ساندز، وكتاب جميل جعفر وأمريت سينغ ‘إدارة التعذيب: سجلّ موثق من واشنطن إلى أبو غريب’، وكتاب مايكل راتنر ‘محاكمة دونالد رمسفيلد: مقاضاة عن طريق كتاب’، بالتعاون مع مركز الحقوق الدستورية؛ إنما تنضم إلى سلسلة الأعمال والتحقيقات الصحفية المماثلة التي بدأت من سيمور هيرش، ومرّت بأمثال مارك دانر وجين ماير ورون سوزكند وسواهم.
العمل الرابع صدر بعد قرارات أوباما، وجاء بعنوان ‘كيف تكسر إرهابياً’، ومؤلفه استعار اسم الرائد ماثيو ألكساندر، لأسباب أمنية تخصّ 14 سنة من الخدمة في الجيش الأمريكي، حيث كان أحد كبار المحققين في العراق، وأدّى قبلئذ مهامّ استخبارية في المملكة العربية السعودية والبوسنة، وتردّد أنه المحقق الذي نجح في الحصول على معلومات أدّت إلى تحديد المزرعة التي كان أبو مصعب الزرقاوي يقيم فيها. خصوصية ألكسندر أنه لا يؤمن بالتعذيب وسيلة للحصول على المعلومات، بل يعتنق المبدأ النقيض، لاقتناعه ـ بعد طول خبرة، وأكثر من 300 جلسة تحقيق ـ أنّ السجين الخاضع للتعذيب يمكن أن يدلي بأي اعتراف، وقد يلفّق الكثير منها، لوقف ما يتعرّض له من صنوف العذاب.
وفي حديث مع الصحافي البريطاني باتريك كوبرن، قال ألكسندر إنّ السبب الطاغي الذي يدفع المقاتلين الأجانب (وخصّ بالذكر مواطني مصر والسعودية واليمن وسورية وشمال أفريقيا) للانضمام إلى منظمة ‘القاعدة’، هو الإساءات التي وقعت في سجن أبو غريب وغوانتانامو، وذلك قبل السبب الشائع الذي يدور حول الحماس للإيديولوجيا الإسلامية. وينظر ألكسندر إلى التعذيب بمزيج من السخط الأخلاقي والاحتقار المهني، لأنّ هذه التقنيات في التحقيق تذكّر السجين بمدى نفاق الغرب في ادعاء الدفاع عن حقوق الإنسان، وانتهاك تلك الحقوق مباشرة، أو بالتواطؤ مع أنظمة دكتاتورية استبدادية. ويقرّر، وهو يعي ما يقول، أنّ اعتماد التعذيب قد يكون كلّف أمريكا من أرواح أبنائها أكثر ممّا كلفتهم إياه هزّات 11/9، بالنظر إلى حجم الخسائر البشرية الأمريكية التي نجمت عن عمليات انتحارية قام بها مقاتلون جرحت وجدانهم مشاهد التعذيب المهينة في أبو غريب وغوانتانامو.
بيد أنّ فظائع ‘مذكرات التعذيب’ الإدارية تلك لم تأت من ألبرتو غونزاليس وزير العدل في إدارة جورج بوش الابن، أو من جاي بايبي وجانيس كاربنسكي أو دونالد رمسفيلد، فحسب؛ بل جاءت من أمثال جون يو، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا، الذي زوّد الإدارة ـ هو المتعاقد مع وزارة العدل ـ بالمسوّغات القانونية للتلاعب على اتفاقية جنيف. وإذْ نشرتها، لاحقاً، صحف ودوريات أمريكية كبرى مثل ‘نيويورك تايمز′ و’واشنطن بوست’ و’وول ستريت جورنال’ وأسبوعية ‘تايم’، فإنّ الفضل في كشف رأس جبل الجليد العائم إنما يعود إلى المحقّق الصحافي الأمريكي سيمور هيرش. وهو، للتذكير، صاحب تحقيقات كبرى سلطت الأضواء على جرائم حرب أمريكية يحرص السادة في واشنطن على إبقائها غارقة في الظلام الدامس: مذبحة ‘ماي لي’ التي ارتُكبت في فييتنام، آذار (مارس) 1968، بأمر من الضابط الأمريكي وليام كالي (قرابة 347 قتيل من المدنيين الفييتناميين)؛ ومجزرة الرميلة، التي ارتكبها الجنرال الأمريكي باري ماكيفري، غرب البصرة في 2/3/1991 (الجنرال هذا أصدر الأمر الحرفي التالي: ‘تدبّروا طريقة تمكنني من ذبح كلّ هؤلاء العراقيين الأوغاد’…) الذين كانوا، في كلّ حال، مهزومين منسحبين على الأوتوستراد 8 غرب حقل الرميلة.
وفي مثل هذه الأيام، سنة 2004، نشر هيرش تحقيقاً على الموقع الإلكتروني لمجلة ‘نيويوركر’، برهن فيه أنّ نشر صور تعذيب وتحقير وإهانة الموقوفين العراقيين في أبو غريب ليس سوى أوّل الغيث، وأنّ ما خفي كان أعظم وأدهى، وأبشع وأشنع! وأثبت هيرش أنّ الإدارة كانت تعرف، أو هكذا يقول العقل، في ضوء التقرير الذي أعدّه العميد أنتونيو م. تاغوبا، وسلّمه إلى البنتاغون أواخر شباط (فبراير) السنة ذاتها، وانطوى على 53 صفحة حافلة بوقائع رهيبة حول واقع السجون العراقية في ظلّ الإحتلال الأمريكي. يقول تاغوبا إنّ الجيش الأمريكي ارتكب أعمال تعذيب ‘إجرامية، سادية، صاخبة، بذيئة، متلذّذة’، يسرد بعضها، هكذا: صبّ السائل الفوسفوري أو الماء البارد على أجساد الموقوفين، الضرب باستخدام عصا المكنسة والكرسي، تهديد الموقوفين الذكور بالاغتصاب، اللواط بالموقوفين عن طريق استخدام المصابيح الكيماوية أو عصا المكنسة، واستخدام الكلاب العسكرية لإخافة الموقوفين وتهديدهم. (تقرير هيومان رايتس ووتش عن طرائق التعذيب في معتقلات النظام السوري ليس أفظع بكثير!)
وإذا كنّا لا نحتاج الى مَنْ يذكّرنا بأنّ هذا السلوك البربري لا يمثّل شعب أمريكا بالمطلق، فغننا لا ننسى أيضاً أنّ برابرة ‘أبو غريب’ كانوا جنوداً نظاميين في الجيش الأمريكي، يحملون العلم الأمريكي، ويخوضون ‘الحملة الصليبية’ ذاتها التي أصدر سيّد البيت الأبيض الأمر بخوضها؟ ثمّ… هل نحتاج إلى أحد لكي نتذكّر سوابق مماثلة استأثر بها ‘العالم الحرّ’ على امتداد تاريخه الاستعماري، بلا استثناء… بلا أيّ استثناء؟ ثمّ ما الجديد، حقاً، في بربرية الجيش الأمريكي، أو أيّ جيش احتلال، بما في ذلك جيوش الرحمة التي يرسلها الغرب إلى حروب العالم الثالث، لـ ‘حقن الدماء’؟ ؟هل ننسى جنود بلجيكا الذين جاؤوا لإحياء الأمل في الصومال، فانخرطوا في مباذل تقشعر لها الأبدان، كأن يقيدوا صومالياً ويتبوّلوا عليه مثلاً؟ أو جنود سيلفيو برلسكوني وهم يغتصبون فتاة صومالية، مقيّدة إلى شاحنة عسكرية؟ أو الوحدات الهولندية التي سكتت على، وتواطأت في، مجزرة سريبرنيتشا حين قُتل خمسة آلاف مسلم بوسني عن سابق قصد وتصميم؟
لا عجب، والحال هذه، أن تتردد واشنطن في إحالة النظام السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ إذْ نعرف، ومن الخير أن نتذكر دائماً، ما تقوله جميع المنظمات الحقوقية الدولية عن سجلّ حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، وطبيعة الانتهاكات الصارخة التي تُمارس هناك على نحو مؤسساتي رسمي. لا أحد بلا خطيئة، غير أنّ ديمقراطية عريقة مثل هذه لا تليق بها البتة تلك الانتهاكات الفظيعة ذاتها التي التي اعتادت على ارتكابها الدكتاتوريات ‘الكلاسيكية’، شرقاً وغرباً، وماضياً وحاضراً. والتقرير السنوي لمفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة لا يوفّر الولايات المتحدة عاماً بعد عام، بل ويفرد لها خلاصات مفزعة، مثل هذه: ‘المواطن الأمريكي ليس متساوياً أبداً أمام القضاء، والأحكام الصادرة بحقّ الأمريكيين السود والآسيويين أقسى بثلاثة، وأحياناً بأربعة أضعاف من الأحكام الصادرة بحقّ البيض في قضايا مماثلة’. أو: ‘من الواضح أنّ اعتبارات مثل الأصل العرقي أو الإثني والوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي، هي عناصر حاسمة في تحديد ما إذا كانت عقوبة الإعدام ستُفرض أو ستُستبدل بعقوبة أخفّ، وما إذا كانت ستُنفّذ أم تُلغى بقرار أعلى صادر عن حاكم الولاية المعنية’.
وإذا كان من حقّ أوباما أن تًسجّل باسمه خطوات إيجابية، مثل حظر التعذيب رسمياً (على الأراضي الأمريكية فقط، كما يتوجب التذكير دائماً!)، وإصدار الأمر بإغلاق معتقل غوانتانامو منذ الولاية الرئاسية الأولى (ثمّ التلكؤ في التنفيذ، حتى الساعة)؛ فإنّ سياسات البيت الأبيض الأخرى، وعلى رأسها اغتيالات الأفراد عبر الطائرات من دون طيار، والسكوت عن انتهاكات حقوق الإنسان هنا وهناك في العالم، والتراخي في محاسبة مجرمي الحرب، وتشجيع البعض منهم عن طريق رسم ‘خطوط حمراء’ زائفة… كلّ هذه تجعل واشنطن قدوة حسنة، ومثالاً يُحتذى، وذريعة في ممارسة التعذيب… لعلها أمّ الذرائع!