الحلف الموضوعي و »العقلاني » – سلام كواكبي
6/9/2015
نقلت الأخبار أن المستشارة الألمانية انجيلا ميركل طالبت، وفي تصريح رسمي، من إيران أن تعترف بدولة إسرائيل. وتأتي هذه التصريحات الواضحة في غمرة انهماك الدول الغربية بشهر العسل الممتد مع الحكومة الإيرانية « المعتدلة » والتي وقعت معها اتفاقاً نووياً ناجحاً في العرف الدبلوماسي، وفي العرف الاقتصادي خصوصاً. وليس مستغرباً أن تطالب الدول الغربية طهران بهذا الاعتراف الرسمي، فهذه الخطوة تعتبر من البنود غير المكتوبة للاتفاق، حيث صدر أكثر من تصريح إيراني تخفيفي بخصوص اللهجة العدائية المسوّقة إعلامياً سابقاً بحق تل أبيب
من جهته، اعتبر الرئيس الأميركي باراك أوباما في تصريحات أخيرة إلى الصحفي جيفري غولدبرغ في The Atlentci، بأن النظام الإيراني « معادي للسامية » ولكنه « عقلاني ». وبعيداً عن الاستهلاك البلاغي لهذا التعبير يساراً ويميناً، إلا أنه يمكن اعتباره تلويحاً مناسباً وغمزة دبلوماسية وابتسامة حوارية موجهة لملالي طهران « المعتدلين » بطلب مقابل مجزي لما تم التخلي عنه من شروط، اعتبرها المفاوضون الإيرانيون، تعجيزية في الاتفاق النووي مع الغرب
يبدو من خلال الاتجاه العام في التصريحات وفي الخطوات، أن المرحلة التي ستلي تعزيز العلاقات الاقتصادية والانفتاح السياسي، ستكون مرتبطة بملف إعادة العلاقات بين طهران وتل أبيب، رسمياً إن أمكن، رغم الصعوبة الشكلية، وباطنياً على الأغلب، حتى يخلق الله ما لا تعلمون في علم السياسة والعلاقات الدولية
في تصريحه نفسه، يعتبر أوباما بأن « جزءً كبير من يهود أميركا يدعموه، ليس لأنه لا يُحب إسرائيل أو أن النووي الإيراني ودور حزب الله لا يُهمهم. بكل بساطة، هم يعرفون التزامي، وتابعوا مواقفي، وهم واثقون بأنني سأكون دائماً خلف إسرائيل وأن قيمنا هي ذاتها ». وفي فقرة لاحقة، يعود أوباما عن نعته الايرانيين بمعاداة السامية ليوضّح، عن حق هذه المرة، بأنهم « استعملوا خطاب معاداة السامية كأداة »
وعلى الرغم من أن السياسيين الغربيين عموماً، والمتعاطفين منهم انتخابياً مع السياسات الإسرائيلية خصوصاً، يعتبرون بأن كل معاداة لسياسات الاحتلال والاستيطان والتوسع والتدمير المنهجي والمتكرر لقطاع غزة وللانتهاكات اليومية لأراضي الضفة والتمييز العنصري تجاه عرب الداخل، كلها تدخل ضمن إطار معاداة السامية، إلا أن ما كان يبدو على التصريحات الإيرانية على ألسنة الملالي أو السياسيين والتي تبنّت عملية « رمي إسرائيل في البحر » كانت أداة فاعلة في مصلحة الأخيرة / الضحية وكانت فعلاً معادية للسامية بحيث أنها خصصت، وللزوم الترهيب الدبلوماسي وإفادة الضحية، معاداة اليهود كدين وليس إسرائيل كدولة فحسب. ولقد استفادت إسرائيل كدولة ومشروع استيطان وتوسع، أيما استفادة من هذه التصريحات الخلّبية التي ملأت الصحف ووسائل الاعلام بأنواعها، وكان أشهرها تلك التي كان يعرف بها الرئيس السابق أحمدي نجاد. واغدقت الأموال من كل حدب وصوب باتجاه تل أبيب لدعم جهودها « المشروعة » في تعزيز قدراتها الدفاعية أمام هذا العدو الرمزي وأعوانه وأدواته وأذرعه
المحللون السياسيون في إيران، هم من المقربين في مجملهم لمراكز صنع القرار في دوائر المرشد الأعلى أو في الحرس الثوري أو في وزارة الخارجية (في أكثر الحالات انفتاحاً). ومن الصعب، نظرياً وعملياً، أن يكونوا مستقلين إن هم اختاروا البقاء في البلاد كأي نخبة علمية أو ثقافية في دولة لا تعرف حرية التعبير ولا التفكير طريقها اليها. و »المعتدلون » منهم يهللون لحسن الاختيار الأميركي ويرحبون « بعودة العقل » الى العم سام الذي عرف اين تكمن مصلحة بلاده وعرف بأن دولتهم هي دولة « عقلانية » صاحبة قرار مركزي رغم الخلافات الشكلية وتوزيع الأدوار
وفي هذا المجال، أي في مسألة توزيع الأدوار بين المعتدل والمتشدد وبين الذي بين بين، فالساسة الإيرانيون هم تلاميذ نجباء و »حافظين للدرس » من المعلم « الأكبر » في الدهاء السياسي / الدبلوماسي / الأمني في المنطقة : اسرائيل
عندما يستفسر باحث غربي في مؤتمر دولي من متحدث إيراني « مرموق » عن موقف الجنرال قاسم سليماني من الاتفاق النووي وما يمكن أن يُشكلّه تياره المتشدد من وزن في رقعة القرار الإيراني الداخلي، يبتسم المتحدث الذي تم تقديمه « وتكريمه » كالشخص « المعتدل »، وبكل رصانة وهدوء سينيكي يجيب بأن « سليماني هذا هو أكثر المتشددين اعتدالاً ». وعليكم، والكلام ما زال يصدر عن المسؤول / الباحث « المعتدل »، « أن تتوقعوا الأسوأ ». وفي هذا القول، لسان الحال يود أن يوصل رسالة واضحة المغزى: « لدينا مثله وأكثر تطرفاً. فتعاملوا معنا بالحسنى خيرٌ لكم »
كم مرة خاطب الاسرائيليون العالم بهذا المنطق التحذيري (ولكن الهادئ دائماً) ؟ وكم مرة توزّع المتشددون والمعتدلون الأدوار في الساحات الدولية ؟
إن المقارنة في السياسة لا يمكن أن تكون شاملة، وبالتالي، فمن الخطأ أن يعتبر المراقب بأن كل الممارسات والسياسات بين « الكيانين » متشابهة. ولدعم منطق المشابهة في بعض المحاور، يجدر فوراً البدء في تحديد أوجه التباعد حتى لا يلعب فأر المؤامرة في أذهان البعض
فمن المؤكد أن طبيعة النظامين الايراني والاسرائيلي متباعدة تماماً وأن اسرائيل « تتمتع » بنظام حكم « ديمقراطي » / عنصري لمواطنين من دين محدد هو اليهودية. كما أنها تحتوي على مؤسسات بالمعنى الحداثي للتعبير كما أن حرية التعبير فيها مصانة لمن هم ضمن إطار التعريف العنصري للمواطنة فيها. أما ولاية الفقيه التي يقود من خلالها ملالي طهران العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهي شكل من اشكال التسلطية الكاملة المحمية من قبل « المقدّس » الديني الحقيقي أو المُتخيّل
بالمقابل، المقارنة تصحّ في إدارة الملفات الخارجية تحديداً، فكلا البلدين استعانا بالعمليات الإرهابية خارج اراضيهما كوسيلة تفاوض أو فرض رأي أو توجيه سياسات. وكلا البلدين كانت لدبلوماسيته أذرع أمنية واغتيالات وتفجيرات وميليشيات. كما حاورا من خلال هاته الأدوات، استطاعا أيضاً أن يستعملا الدبلوماسية الهادئة. دبلوماسية الدولة وليست دبلوماسية النظام، على العكس من أغلب المحيط العربي. دبلوماسية تقلب الحق باطلاً والعكس بالعكس. دبلوماسية « حمام السوق » فوعاء بارد ووعاء ساخن حتى « ينضج » الزبون. دبلوماسية البازار المتمكنة من كل شاردة وواردة، والمزودة بالخرائط والملفات والمعرفة التاريخية والتحليلات العلمية. هي ليست دبلوماسية تقبيل الشوارب واللحى ولاعبي السيرك البدائي كما يمارسها غالب الجيران. دبلوماسية معرفة ما هو الهدف النهائي من كل خطوة وليست دبلوماسية « علي وعلى أعدائي يا رب » كما الجيران. بالمحصلة، الدبلوماسي الإيراني أو الإسرائيلي يبحث عن إعلاء ما يعتقد بأنه مصلحة بلده ولا يسعى للدفاع الرخيص عن صاحب العظمة والسلطة. هنا نقطة التقاء اساسية بين الدولتين
كما يوجد بعدُ آخر « ماكر » وفعّال ويتلخّص في الاعتماد على توزيع الأدوار في مساحات التعبير السياسية كما العلمية كما الإعلامية. فهناك المعتدل والمتشدد والمتطرف الذي يجد مساحته التعبيرية المخصصة بعناية. حماية مصالح الدولة، بتعريفها الشامل، التي ينتمي اليها كل منهم هي الأساس، وتصبح المواقف على درجات من التشدد أو المرونة في نطاق الفائدة الأسمى. لا يمنع هذا بالطبع من حالات « شاذة » تقدّم لمواقف حقيقية من الاعتدال ومن التوافق مع ما يعتقد الطرف المقابل بأنه الحق الإنساني الطبيعي والمنطق الأخلاقي لسير الأمور على كافة المستويات
وأهم نقاط التلاقي بين الدولتين كما سبق وأوردنا، هو اللعب على وفي مسألة معاداة السامية. فالإسرائيليون يصموّن آذان المجتمع الدولي بقميص عثمان المهترئ هذا في كل شاردة وواردة. فهم يستغلون الرهاب الأوروبي خصوصاً من المعاداة الحقيقية للسامية والتي وقعت إبّان الحرب العالمية الثانية، ليقضوا أو يحاربوا أو يبتزّوا كل من يتجرأ ويعارض سياساتهم. بالمقابل، يدّعي الإيرانيون وحلفاؤهم وأدواتهم في المنطقة بأنهم ذاهبون اليوم او غدا لتحرير القدس ورمي « اليهود » في البحر، كذباً ونفاقاً. وهم في هذا التعبير المسرحي المستمر، صراخاً أحياناً أو همساً في أحيان أخرى، لا يقومون إلا بتعزيز الموقف الاسرائيلي الذي يحلو له لعب دور الضحية التاريخية المستمرة
الطرفان يلعبان في مساحة خاوية من أية مواجهات نديّة حقيقية. فالدبلوماسيات العربية مشغولة بقضايا أكثر أهمية، منها الإيقاع ببعضها البعض، وبعضها الترويج لقيادات بلدانها الراسخة في القدم. وكثير منها مشغولٌ بالحفاظ على مكاسبه الشخصية والمتفرعّة عن مؤسسات الفساد والإفساد العريقة في بلدانها. وبعض الاستثناءات لا يمكن لها ان تغيّر من القاعدة في شيء
ملف « معاداة السامية » مصدر ربح للدولتين، ولن يتخليا عنه بسهولة على الرغم من طلب ميركل الرسمي. ولذلك تحدث باراك أوباما عن « عقلانية » الدولة الإيرانية. وربما هو كلام باطل يُراد به حق سيتم العمل عليه بهدوء في السنوات القادمة
source : https://www.alsouria.net/content/الحلف-الموضوعي-والعقلاني