مائةٌ وخمسون يوماً في أقبية الموت، مررتُ خلالها بأربعة أفرعٍ أمنية، وأربعة سجون عسكرية، تعرضتُ فيها لكل أنواع الذل والإهانة التي يمكن أن يتعرض لها إنسان. غزت جسدي جيوشٌ من القمل والجرب وكل أنواع الفطور، أنهكَ الجوع والمرض والبحث عن لحظة نومٍ جسدي. عناصر مسعورة، الأم والأخت مركز شتائمهم، ومحققون حاقدون جهلة، والنهاية كانت أمام محكمة الميدان العسكرية.
هكذا كان الأمر في الاعتقال الأخير، وهكذا كانت الديكتاتورية على مدى ستة وأربعين عاماً من عمري، تحطم وتسرق أشيائي الصغيرة.
الديكتاتورية وأشيائي الصغيرة!
في منتصف عام 1970 تخرجت ضابطاً من الكلية العسكرية، لم أكن قد بلغت العشرين بعد، مزهواً بنفسي وسلاحي. في ذلك التاريخ ولدت أشيائي الصغيرة، ولكن الحظ أو الصدفة، أو لعنة الغجرية التي ضربت الفال لوالدتي وأنا الى جانبها لم أبلغ السادسةِ من عمري، كانت وراء ولادة أشيائي الصغيرة مترافقةً مع ولادة أعتى ديكتاتورية عرفتها بلدي، وستعرفها مستقبلاً.
بعد أشهرٍ قليلة على تخرجي انتهى الصراع على السلطة المستمر منذ سنوات داخل الحزب الحاكم، بين وزير الدفاع الفريق حافظ الأسد وما عُرِفَ بجماعة القيادة القطرية لحزب البعث، أو جناح صلاح جديد، إلى سيطرة وزير الدفاع على السلطة مرسلاً رفاق الأمس إلى المعتقل ليقضوا بقية حياتهم. كنا ندرك نحن الضباط الصغار أن الكفة تميل لصالح وزير الدفاع منذ أن قام قائد مطار التيفور العسكري، المقدم محمود عزام -على ما أذكر-، بمنع اللواء صلاح جديد الأمين القطري للحزب من دخول المطار، بحجة أنه يفسد عقول الضباط بتنظيراته. كما أننا كنا نلمس ميل كبار الضباط لوزيرهم، وهو ما كان يتعارض مع ميول صغار الضباط. كنت متحمساً لمعارضة وزير الدفاع، ليس حباً او اتفاقاً مع الجناح المعارض له وإنما لإحساسٍ تملكني أن الوزير العتيد لن يحمل إلينا سوى المصائب.
لم أكن أدخر جهداً في مهاجمة الوزير وأطروحاته، لا في اللقاءات الحزبية ولا في الحوارات التي تتم بين زملائي من الضباط. أذكرُ أنني عشية استيلاء وزير الدفاع حافظ الأسد على السلطة، كنتُ في قمة الحماس في رفض خطوة وزير الدفاع، فوقف أمامي أحد زملائي الضباط (من اللاذقية) قائلاً:
ابن عمي في دمشق اضحى خليفةً… إن شئتُ قدتكم إلى بالميرا
تذكرتُ هذا القول وأنا أعبر بوابة سجن تدمر في عام 1982 مُستقبلاً من قبل عناصر السجن بالعصي والسياط، لأقضي ستة عشر عاماً في معتقلات ديكتاتورية حافظ الأسد.
لم يمر على هذا المشهد أكثرُ من شهرٍ حتى حملَ إليّ قائد اللواء الذي تتبع له وحدتي العسكرية، أن رئيس المخابرات الجوّية محمد الخولي يبلغني ما معناه أن اسمي ما زال مكتوباً في سجلات الجيش بالقلم الرصاص، وهو قادرٌ على إزالته بممحاة (ضب لسانك وكول خرى). في الواقع لم أضبَّ لساني تماماً، وكنتُ أعلمُ أن بعض زملائي من الضباط يرسلون تقاريرهم عني إلى رئيس المخابرات الجوية، لذلك وجهت اهتمامي الرئيسي لقراءة الكتب الماركسية، والكتب التي تتحدث عن تجارب اشتراكية أهداني بعضها قائد اللواء لتفوقي في سلاحي.
ماهي أشيائي الصغيرة؟
بصفتي ضابطاً في الجيش، أصبحتُ قادراً على امتلاك أشيائي الخاصة، أنا المولود في عائلة فلاحية لأبوين لديهم أحد عشر طفلاً. قد تبدو بسيطةً، لكنها كانت بالنسبة لي في حينها، ورافقتني طوال حياتي باعتبارها، أثمنَ وأجملَ ما أملك. قد تكون ولاعة سجائر، أو كتاباً من بين العديد من الكتب التي أملكها، أو قميصاً جميلاً أحبه من بين العديد من قمصاني، أو قلماً تم إهداؤه إليّ، أو مبسم دخان، والأهم والأحب اليّ، حقيبة يدٍ جلدية كانت في معظم الأحيان تختزن بعض أشيائي الصغيرة، وأعتقد أن ما من أحدٍ التقاني خارج بيتي إلا وشاهدها في يدي.
كانت أشيائي الصغيرة مع الزمن تصبح جزءاً مني، أداعبها برفقٍ عندما ألمسها، وأنظرُ إليها بحب يساوي حبي لصديقتي أو يزيد عنه أحياناً. ولاعة سجائري رافقتني سبعة عشر عاماً، وحقيبة يدي تعلقت بي أربعين عاماً. كنتُ أدرك أن بعضها إذا فُقِدَ لن يُعوض، وإنما سينقرض إلى الأبد، مثل بعض الحيوانات التي انقرضت.
كانت الضربة الاولى من الديكتاتورية لـ أشيائي الصغيرة في 2/1/1973، عندما تم طردي من الجيش. بعدها ذهبتُ للعمل في معمل الجرارات في مدينة حلب بصفة عاملٍ عادي في 1973-1974، ثم في معمل المحركات الكهربائية في اللاذقية بصفة عاملٍ فني. هناك أسستُ حلقةً ماركسية بين زملائي من العمال، وقد شاركت تلك الحلقة في تأسيس رابطة العمل الشيوعي عام 1976.
لم يمض على وجودي في مصنع المحركات سنتان، حتى خضتُ مع رفاقي وزملائي من العمال الانتخابات النقابية بقائمةٍ مضادةٍ لقائمة ما يعرف بقائمة الجبهة الوطنية. وعلى الرغم من أننا خسرنا الانتخابات، إلا أننا حققنا نسبة من الأصوات هددت قائمة النظام.
لم يغفر لي النظام تجرؤي على تحدّيه، فسارعَ بعد حين عن طريق مدير المصنع إلى إرسال بعض أزلامه ليعترضوا طريقي وأنا أتنقلُ ضمن المصنع، وينهالوا عليّ بضربٍ ما زالت بعض آثاره باقية على وجهي. وفي اليوم التالي تم نقلي من المصنع، ووضعي تحت تصرف محافظ اللاذقية.
في كانون الأول 1976 صدر العدد الأول من الجريدة المركزية لرابطة العمل الشيوعي، الراية الحمراء، وفي 25 آذار 1977 شنّ الأمن حملة اعتقالات طالت التنظيم في أكثر من محافظة، وقد داهم الأمن بيتي في 27 آذار. استطعتُ الإفلات من قبضة الأمن، ولكن لم يدمّر الأمن أشيائي الصغيرة فقط، وإنما دمّر كل ما أملك وأعز ما أملك على قلبي، مكتبتي.
عشتُ ما يقارب خمس سنوات 1977-1981 متنقلاً بوثائق مزوّرة داخل أو خارج سوريا، حسب المهام التي كنت مكلفاً بها من التنظيم. كانت الحياة ضيقةً والنشاط صعباً، وهاجس الاعتقال يلازمني دائماً في سنوات 1977-1979، ولكن انفجار الصراع بين النظام والجماعات الإسلامية المسلحة في نهاية عام 1979 جعل الحركة أكثر صعوبة والتنقل خطراً، لا سيما في الليل، فالتفتيش على الحواجز والمداهمات التي تتم ليلاً لتفتيش أحياء بأكملها بيتاً بيتاً، جعلت الحياة محفوفةً بالخطر.
في مطلع عام 1980 كان النظام يهتزّ، مما دعا رأس النظام الى الظهور بشكل أسبوعي من خلال مؤتمرات ما أطلق عليه النظام اسم المنظمات الشعبية (عمال، فلاحين، طلبة، إلخ). وقد سعى النظام من خلالها إلى شدّ العصبية الطائفية التي يستند إليها، مستغلاً الخطاب الطائفي للقوى الإسلامية التي حملت السلاح في مواجهة النظام. كما سعى إلى طمأنة الجمهور العريض الناقم على سياسة الفساد والقمع، الذي جعل السجون ممتلئة منذ سنوات ودون محاكمة، بالمعتقلين من جميع التيارات السياسية (إخوان مسلمون، بعثيون من اليمين واليسار، شيوعيون..)، والأهم أنه سعى إلى طمأنة البرجوازيّة التقليدية والجديدة بأن الأمور ستكون أفضل لها ما أن يتم تحطيم العُصاة أياً كان لونهم. كان لدى تنظيمنا في حينها 108 رفيق ورفيقة في السجون، وكان بعضهم قد اعتقلوا منذ مطلع عام 1977.
في شباط 1980 أطلقَ النظام سراح العديد من المعتقلين من جميع ألوان الطيف السياسي، تم خروج 104 رفيق ورفيقة من المعتقل، ولكن النظام رفض إطلاق سراح رفاقنا العسكريين.
التطوراتُ السياسية التي شهدتها الساحة في سوريا، وخروج رفاقنا ورفيقاتنا من المعتقلات، استدعت عقد مؤتمرٍ عامٍ للتنظيم، فكان المؤتمر في الأول من آب عام 1981، وفي 9 آب داهم الأمن بيتي الذي كنت أسكنه واعتقلني، وباستثناء بنطال جينز وقميص «تي شيرت» صيني الصنع كنت ارتديهما، لم يترك شيئاً إلا واستولى عليه.
بعد تنقلٍ بين فروع الأمن ومعتقلات تدمر وصيدنايا، خرجتُ من المعتقل في عام 1997 بعد قضاء 16 عشر عاماً. وبعد خروجي من المعتقل لزمتُ قريتي لمدة عامين، تعرفتُ خلالهما على عالمٍ جديد (عالم أهل الكهف). وسعيتُ إلى ترميم بيت الأسرة، وهو بيتٌ عربيٌ من الطين والخشب، يعود بناؤه الى منتصف القرن العشرين. في عام 1999 انتقلتُ الى دمشق، وسكنتُ مستأجراً في ريفها بيتاً صغيراً. كان عناصر الأمن يلاحقونني ويراقبون بيتي وهاتفي على مدى 24 ساعة، كما كانت الفروع الأمنية تستدعيني للتحقيق بين فترة وأخرى، سواء بسبب تأسيسي لمنتدى اليسار إبان فترة حراك المنتديات وما عُرفَ بربيع دمشق، أو بسبب تأسيسي لحركة البديل لمناهضة العولمة.
بعد اندلاع الثورة في آذار 2011، وفي 11 نيسان تحديداً كنتُ ضيفاً على قناة الجزيرة للحديث عمّا يجري في سوريا. أثار ظهوري على القناة شبيحة النظام، فهاجموا بيتي في القرية ونهبوه وأشعلوا فيه النيران، وقاموا بتهجير جميع أفراد أسرتي من القرية. بنهب البيت وحرقه فقدت أرشيفاً من الصور بالأبيض والأسود لأفراد عائلتي وأصدقائي، تعود للفترة الممتدة من منتصف الستينيات حتى مطلع الثمانينيات.
الفترةُ التي عشتُ فيها في بيتي الصغير في ريف دمشق منذ عام 1999 وحتى اعتقالي عام 2015، تعدُّ المرة الأولى خلال عمري الذي تجاوز الـ65، التي أعرفُ فيها الاستقرار المتواصل الطويل في مكان، بما فيها فترة سكني عند أهلي، هذا إذا استثنينا اعتبار المعتقل مكاناً للسكن. في هذا الاستقرار الطويل زادت ذخيرتي من الأشياء الصغيرة، وزاد حبّي لها وتعلقي بها، وهي حالةٌ تشبه الى حدٍ ما حالة كبار السن الذين يأتيهم أطفالٌ في آخر العمر. وإضافة لذلك فقد أدّى استقراري الطويل في بيتي الصغير، إلى شعوري تجاهه كجزءٍ من أشيائي الصغيرة.
اليوم لستُ حزيناً فقط لأن الديكتاتورية دمّرت بيت طفولتي في القرية، وطردتني من مكان سكني وسرقت ودمّرت أشيائي الصغيرة خلال ما يقارب نصف قرنٍ من عمري، بل لأنه لم يبقى لدي من العمر ما يكفي لاستعادتها، لا سيما أن بعضها اختفى وإلى الأبد.
من أجل هذا أكره الديكتاتورية، ومن أجل هذا قضيت عمري أحاول تخليص وطني منها.