الديموقراطية الليبرالية أو الحروب الدينية – خالد الحروب
على صرخات « يا حسين » عند ذبح سُنة « القصير » في سورية، وصرخات « الله أكبر » عند ذبح وسحل شيعة « الجيزة » في مصر أو مسيحييها نعبر بكل ثقة بوابة الحروب الدينية في المنطقة! نغوص بعيدا في تاريخ قديم مليء بالدم والقتل على الهوية الدينية والطائفية، ونعود محملين بغرائز الثأر السخيف لمن قتلوا قبل اربعة عشر قرنا، مصممين على زج شباب ساذج لا يعرفون احداثيات موقع اقدامهم، لكنهم موقنون بأن الجنة لن تنفتح لهم ما لم يشربوا من دم من يتصورونه « عدوهم » الديني الذي يجب أن يختفي عن وجه الارض.
اشتغلت إيران الخمينية ونظريتها في تصدير الثورة إلى دول الجوار وما بعدها كتفا إلى كتف مع التعصب السلفي والتكفيري الذي اندلع معها في قيادة المنطقة إلى مصير كارثي، وحقبة حروب، لا نعرف متى سنخرج منها إن دخلنا مرحلتها الدموية الحالية.
كل الشواهد التي امامنا وتقريبا في كل بلد من البلدان العربية والاسلامية تؤكد حقيقة تتأسس كل يوم حتى تكاد تصبح من الحقائق الفيزيائية وهي التالية: كلما ادخلنا المزيد من الدين والطائفة في السياسة اتسع نطاق الدم والدمار في كل الاتجاهات، وبالتالي اغلقنا امامنا ابوب المستقبل لبناء مجتمعات صحية وفاعلة ومبدعة. لا نريد ان نتعلم من تجارب البشرية التي دفعت عقودا طويلة من الحروب الدينية نتيجة خلط الدين بالسياسة، ونصر على ان نخوض نفس التجربة وندفع نفس الاكلاف وربما اكثر. السياسيون اللئيمون فينا يستغلون الدين طولا وعرضا ويجيشون خلفهم الملايين وراء شعارات واحلام وطوباويات تخدم مصلحتهم ولا علاقة لها بالدين.
والاسلامويون الذين يُقحمون الدين في السياسية، والسياسة في الدين، إما عن حُسن نية، او عن سوء قراءة للتاريخ والاجتماع، فإنهم عمليا يقفون في معسكر التوظيف السياسي واللئيم للدين ويصلون إلى نفس النتائج.
شواهد الحالة الاولى، اي التسييس الواعي للدين لخدمة مصالح السيطرة والنفوذ، يمكن كشفها وفضحها بشكل أو بآخر، لكن الحالة الثانية، اي الاعتقاد اليقيني بفاعلية ونجاعة خلط الدين بالسياسة هي الاكثر تعقيدا، والاشد خطورة.
إنها تصدر عن قناعات راسخة بأن « مصلحتنا » كمجتمعات وافراد تكمن في ذلك الخلط، وفي الانقياد للاحزاب والجماعات التي تقوم به وتقوده، وللمنظرين الذين يروجون له.
والتقعيد الفكري والاساسي الذي ينطلق منه كثيرون يستند إلى فكرة لا تاريخانية هي خلاصة تنظير رغائبي اكثر منه قراءة واعية ومتأنية في تجارب التاريخ الاسلامي تقول ان علاقة الدين بالسياسة في تلك التجارب تتسم بالاختلاف عن غيرها من تجارب الشعوب والحضارات.
لهذا وبرغم عدم بخل تاريخ البشر في الماضي البعيد والماضي القريب في تقديم الدروس المريرة والمرعبة والرادعة، فإننا نصفح عن قراءتها واستيعابها، ونقول ان لنا « خصوصيتنا » الثقافية إزاء علاقة الدين بالسياسة، واننا محصنون من كل ما مرت به اوروبا وكل العالم من ويلات بسبب هذا الخلط.
« بشائر » هذا الخلط بادية الآن وكل يوم كالشمس سواء في مجال « الجهاد المسلح » او في مجال « الجهاد السياسي » إلا ان العناد الديني الذي يستحوذ على صُناع الرأي والقيادات الاسلاموية يعميها بالتمام والكمال.
في مجالي الجهاد المسلح والمسيس على السواء تتحكم قاعدة اساسية عند محتكري النطق باسم الدين ومحتكري تفسيره، وهي إقصاء الآخرين وشطبهم، مباشرة او بشكل غير مباشر.
سوف يقول كثيرون ان من العسف والظلم إطلاق هذا الحكم على كل الاسلاميين وان كثيرا منهم، خاصة في مجال « الجهاد السياسي » يؤمنون بالعمل المشترك ويبتعدون عن الاقصاء.
وهذا صحيح ولكن بنسبة ضئيلة وتكاد تكون استثنائية. فغالبية « العمل الاسلامي » الحزبي والمسيس قائم على الاقصاء، ليس إقصاء غير الاسلاميين وحسب، بل واقصاء الاسلاميين الآخرين.
ولنا ان ننظر في معارك الاسلاميين انفسهم وقسوتها وقسوتهم على انفسهم، من تكفير سلفيي تونس لحزب النهضة الاسلامي الحاكم فيها، إلى عداوات الاخوان مع السلفيين في مصر، وإلى المقتلة تلو الاخرى التي يقودها سلفيو ليبيا، وصولا إلى محاصرة مقاتلي حماس لمقاتلي الجهاد الاسلامي في غزة ومطاردتهم ثم دهسهم.
وكنا رأينا تجارب لا حصر لها في صراعات « الاخوة » وحروبهم، من اجنحة الاخوان المسلمين في سورية في حقبة الثمانينيات، إلى دك المجاهدين الافغان مساجد كابول على رؤوس بعضهم البعض ورؤوس المصلين فيها.
في كل تلك الحالات هناك عنف مرعب وقسوة لافتة، كما نشهد الآن في « المجاهدات » المُتبادلة بين تكفيري السلفيين وحزب الله في سورية وغيرها. مبعث هذه القسوة هو « القناعة العقدية » المترسخة بأن « العدو » على الطرف الآخر هو « عدو الله »، وأن المسألة تتعدى الخلاف السياسي والصراع على مصالح معينة، ومن هنا فإن الولوغ في الدم إلى آخر مدى يكون مدفوعا بنزعة خليط من الإيمان المتعصب، والانتقام التاريخي الدفين، ويكون دم الخصم وليس شيئا غيره هو الطريق المودي للخلاص والجنة.
بسبب هذا فإن الحروب الدينية تكون طاحنة ودموية وليس فيها مساومات. ومثلها تكون حروب الايديولوجيات الصلدة ذات النزعات العنصرية او الاقصائية او الابادية كالنازية والفاشية، حتى لو كانت الصورة الظاهرية لهذه الايديولوجيات علمانية حداثية. معنى ذلك ان أيديولوجيات الإبادة قد تتساوى وبغض النظر عن انتسابها للدين او للحداثة طالما انها ذات جوهر غير ليبرالي، اي يغيب عنها المكون التعددي العميق الذي يقر بالاختلاف ويتأسس على التعايش مع المختلف وليس ضرورة تغيير قناعاته بالقوة، او إقصائه وتهميشه، او في تصفيته وإبادته إن لزم الامر. وليس في هذا الحديث إلا تكرارا (قد يكون مملاً) لما افضت إليه التجربة الانسانية في مختلف تنويعاتها. لكن لا يزال الدرس الواضح والجلي لتلك التجربة بعيدا عن استيعابنا.
الجوهر الليبرالي القائم على مبادئ المساواة المطلقة بين الافراد بغض النظر عن الجنس، والإثنية، والدين، والطائفة، واللون، والقائم على تقديس حريتهم وإعلائها فوق اي مبدأ آخر، هو الذي يضمن التعايش ويغلق بوابات الافضلية والتراتبية القائمة على معطيات وغرائز بدائية.
وهو الجوهر الذي يترجم الاختلاف والصراع بين افراده على شكل سلمي وعبر آلية الديموقراطية. وهذه الآلية تفرز من يقود السلطة، ولفترة مؤقتة، ووفق المبادئ العليا التي تساوي بين الافراد، والتي تكون فوق الدستور وقبله، وتضمن التداول على تلك السلطة سلمياً ومن دون دماء.
لهذا فإن الديموقراطية لا تكون ديموقراطية حقيقية من دون ان تكون ليبرالية. اي ديموقراطية اخرى لا تتبنى الجوهر الليبرالي لا تكون ديموقراطية مكتملة، بل قد تكون إعادة إنتاج لأنماط محلية من الاستبداد سواء الديني او الحداثي. فهناك في المنطقة « ديموقراطية إيرانية » و »ديموقراطية إسرائيلية » على سبيل المثال، وكلاهما فاقدة للجوهر الليبرالي، فالأولى قائمة على خليط من الإقصاء الديني والطائفي، والثانية قائمة على خليط من الإقصاء العرقي والديني، الاولى صورتها الظاهرية دينية فجة، والثانية صورتها الظاهرية حداثية فجة. في الديموقراطية الليبرالية تقوم كل الخلافات السياسية وغيرها على ارضية تحقيق اكبر مصلحة ممكنة لأكبر عدد ممكن من افراد المجتمع، وذلك عبر برامج سياسية وما يمكن تحقيقه على ارض الواقع.
في اي نظام ايديولوجي او ديني يتم تحويل ونقل كل الخلافات إلى ارضية ايديولوجية، او دينية: كفر وإيمان وبعيدا عن أية ارضية مصلحية.
في الديموقراطية الليبرالية يتم تسوية الخلافات والمنافسات على ارضية المساومات وانصاف الحلول، اما في الديموقراطية الدينية فإن الخلافات والمنافسات التي يتم تدويرها وإعادة انتاجها على شكل حقائق دينية فإن ارضية المساومة تندثر، وليس هناك اعتراف بأنصاف الحلول، ويصير بالتالي لا بد من « الحسم »، لأنه ليس هناك إلا « حق واحد ».