الصورة المُسربة .. سلاحٌ للثائرين أم وثيقةٌ للألم؟ – محمد العطار
إلي رامي السيد ومظهر طيّارة وكل من ضحي ومازال يضحي ليوثق الثورة في سوريا
ناصر الشامي: دموع البطل ومأساة مدينة
في عام 2004 وخلال الألعاب الأولمبية في أثينا تعرف السوريون علي ناصر الشامي، الملاكم الشاب الذي حصد لسوريا ثالث ميدالياتها في تاريخ مشاركاتها الأولمبية. الأهم من ذلك أن البرونزية الثمينة هذه أتت من شابٍ حموي لم يكن معظم السوريين يعرفونه من قبل. قيل إنه يعمل كجزار كي يُعيل نفسه! في الحقيقة وحتي اللحظة لم أتوثق من صحة المعلومة، لكني صدقتها كغيري ربما مدفوعاً بتلك الصورة المُحببة لبطل الملاكمة المُعدم « روكي بالبوا » الذي كان يعمل في مسلخ ليؤمن قوته اليومي، في الفيلم الهوليودي الشهير.
علي أن أكثر ما أتذكره عن ناصر الشامي، لم تكن دموعه الغزيرة بعد فوزه علي ملاكمٍ أذربيجاني ضامناً بذلك إحدي الميداليات الثلاث، وإنما نزاله في نصف النهائي وابتسامته التي لم تفارق وجهه المُثخن بضربات الملاكم الكوبي العتيد أولدنير سونيس فونت، وهو البطل العالمي لسنين عديدة، وسليل مدرسة الملاكمة الكوبية الشهيرة، التي عادةً ما تحتكر معظم الذهب الأولمبي. سونيس فونت، وكما هو متوقع، مضي ليفوز بالذهبية آنذاك، دون أن يغير ذلك أي شيء بالنسبة لعموم السوريين الذين لم يروا إلا بطلاً واحداً آنذاك هو ناصر الشامي، ابن حماة الفقير والمغمور، رياضيٌ نصف محترف كعموم الرياضيين السوريين، تدمع عيناه المتورمتان كطفل ويجوب الحلبة حاملاً علم بلاده منتشياً بإنجازٍ شبه مستحيل، يتلقي ضربات فونت الهائلة برضي وصمود، يعلم أنه حقق أكثر من الممكن بوصوله إلي هذه المرحلة المُتقدمة…. هذه كانت أثينا في صيف العام 2004
منذ أسابيع قليلة، عاد ناصر الشامي للظهور من جديد، وإن بطريقة مختلفة كل الاختلاف هذه المرة. مصادفةً علي إحدي القنوات الإخبارية العربية، أُشاهد الشامي علي عكازات هذه المرة، لا يستطيع تحريك إحدي رجليه، ليس علي حلبة بالطبع، وإنما في غرفة متواضعة الأثاث. يُخبرنا الشامي، كيف اخترقته رصاصات قناص في حماة وهو يحاول إيقاف سيارة أجرة، ويخبرنا كيف ترك قبل ذلك بأيام معسكره التدريبي في دمشق وعاد إلي مدينته حماة بعد أن رفض أن يلبي أمراً بالمشاركة في قمع المحتجين في منطقة القابون بدمشق. اختفي الفرح الطفولي من وجه ناصر، وبدت هزيمته هذه المرة ثقيلة وغير مفهومة. كيف تحول من ملاكم إلي رجلٍ عاجز؟ وبرصاص من؟ لا بأس أن يُهزم في نزالٍ عادل علي حلبة الملاكمة، لكن أين العدالة في هزيمته هذه المرة؟ يداعب ناصر ابنته وهي تجلس علي حجره، يبدو القنوط علي وجهه وهو يستذكر كيف قتل والده خلال مجزرة حماة في مطلع الثمانينات وهو لم يكمل عامه الأول بعد. في عهد الأسد الأب أصبح ناصر، ابن العام، يتيم الأب والمدينة بعد أن قُتل أبوه ودُمرت مدينته وسُلبت روحها. في عهد الأسد الابن تحول ناصر الملاكم الشديد البأس إلي رجلٍ عاجز يقتسم، بصحبة رفاقٍ آخرين هجروا مدينة حماة المنكوبة من جديد، شقةً متواضعة في عمّان في طابقٍ رابع لبناء ليس له مصعد.
دور الصورة في الثورة: سلاحنا الأمضي…إلي حين!
يتعدي المأساوي في قصة ناصر الشامي الفاجعة التي حلت به وبعائلته وبمدينته مرتين، ليتبدي في دلالة سيرته التي تذكرنا بقسوة كيف يعيد التاريخ إنتاج وحشيته عينها في سوريا، وكيف أن تكرار المصائب هذا لا يرحم ضحايا الماضي، ولا يغض الطرف عنهم، لا بل يعاقبهم من جديد، وكأن جراحهم الأولي، التي لم تندمل أو بالكاد فعلت لا تكفي.
مدينة حماة بهذا المعني تمثل غصةً مريرةً لدي عموم السوريين المنتفضين. يمثلُ ما تعرضت له المدينة خلال العام المنصرم تجسيداً لآمال خائبة أوحت لنا أن سلاحنا الأمضي في ثورتنا الشابة والعصرية هذه: « الصورة »، ستردع النظام عن تكرار أفعاله الإجرامية التي مارسها في عقودٍ سابقة، وتوجها بمجزرة حماة في العام منذ الشرارة الأولي كان انتصارنا الواضح هو بالصورة، من درعا ودوما ومن ثم بانياس وحمص وسَلَميّة وكافة المناطق التي توالت في الانضمام إلي ركب الثورة، بدأت الصور بالتسرب. مُشوشةً ومهزوزة ومُرتبكة، ربما، لكنها كانت كافية لتخبرنا بوضوح عن شعبٍ ثار لكرامته أخيراً. كانت تخبرنا أيضاً كيف يتعامل رجال الأمن مع الهاتفين للحرية ومنذ الأيام الأولي للحراك حين كان خيار عسكرة الثورة غير مطروح حتي في مخيلة عموم المنتفضين. كانت الصور المتسربة سندنا الأقوي، ودليلنا علي لا أخلاقية النظام في مواجهة الاحتجاج السلمي. كانت هذه الصور صرختنا إلي العالم التي أعادت لنا صوتنا أخيراً. لكن قبل كل شيء كانت الصور المُسربة أيضاً رهاننا علي اكتساب الحصانة من فتك النظام وانتقامه، فنحن نتربص له بالمرصاد، مهما حاول إخفاء أدوات تنكيله عبر الإنكار حيناً وقطع وسائل الاتصال في أحيانٍ أخري، فهذا العصر بأدواته يشبهنا أكثر، وهذه لم تعد سوريا الثمانينات والنظام لن يجرؤ علي تكرار فظائعه… هذا ما ظنناه علي الأقل في حينها.
الآن وبعد مرور أكثر من عام علي اندلاع الثورة، ومع عشرات آلاف الصور المٌسربة والتقارير المصورة، التي تخبرنا بتفاصيل مكررة – عن أشكال القمع المُمنهج الذي مارسه النظام، يبدو أننا وللأسف الشديد، قد خسرنا رهاننا هذا.
عامٌ كامل انقضي منذ تسرب ذلك الفيديو لمجموعة من جنود وشبيحة النظام السوري، وهم يدوسون علي ظهور شباب مُكبلين في قرية البيضا قرب مدينة بانياس. في حينها صدمت هذه اللقطات العالم، فيما احتار إعلام النظام في كيفية إنكار الفيديو المُسرب واختلاق الروايات الكاذبة عنه، والتي وصلت أحياناً إلي حد التناقض، قبل أن يعود للتسليم وإن بشكلٍ مبطن بحقيقة اللقطات هذه. شعر كلا الطرفين حينها أن المعركة ستُحسم هنا: المنتفضون الذين يمتشقون هواتفهم المحمولة، في مقابل سلطة وطدت لعقود أسس متينة من الرقابة والقيود والتحكم بوسائل الإعلام والاتصال المختلفة.
لم تعتد السلطة علي التعامل مع مثل هذا التحدي الجديد، ارتبكوا وكذبوا بشكلٍ مفرط بالفظاظة والسخف، ثم انتقلوا من الإنكار إلي حرب الصور عبر بث صورٍ مُضادة تناقض روايات الثوار، دون أن يكلل مسعاهم بنجاحٍ ملموس. طبعاً ترافق ذلك كله مع حملات اعتقال وتنكيل بكل من يصور أو يثبت تواصله مع وسائل الإعلام. « مسلحو الموبايل » في المظاهرات كانوا يدركون أنهم الهدف الأول لرجال الأمن. كل ذلك بقي لفترة طويلة يزيد من قناعتنا بأن الصورة هي من ستلجم النظام عن الاستخدام المفرط للعنف، وستردعه عن استعارة ممارسات تعود لحقبة مملكة العتمة والصمت في ثمانينات القرن المُنصرم.
من ردعٍ للعنف إلي وثيقةٍ للألم
لقد تشكل وعينا المشلول بالخوف علي قصصٍ متناقلة شفاهةً عن مجازر النظام وبطشه بمعارضيه، لعل أبرزها ما حدث في مدينة حماة مطلع الثمانينات أثناء الصراع بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين. يعرف جميع السوريين من أبناء جيلي والأجيال التي تلت تلك الحقبة، كيف أننا كنا نستذكر تلك المجزرة مستخدمين مصطلحا مبهما ويحمل دلالاتٍ مُضلِلة: « أحداث حماة »! استُبدل مصطلح « المجزرة » بمصطلح « أحداث »! لا ذكريات مصورة توثق جرحنا وتسهم في تطهير آلامنا، فقط أحاديث هامسة واعتقادٌ راسخ أن الناس في سوريا وخارجها لو كانوا يعلمون بما كان يجري آنذاك في حماة التي دُكّت خلال 27 يوماً كاملاً، لما كانت فصول المجزرة اكتملت!
لكن يا للصدفة المُروعة، في العام 2012 وبتوفر الصور مع الصوت والبث المباشر أحياناً، تم حصار حي بابا عمرو الحمصي وقصفه لمدة 26 يوماً كاملاً، الأدهي أن إحياء ذكري مجزرة حماة في 3 شباط المنصرم ترافق مع مجازر مصغرة في أرجاء متفرقة من سوريا وبوجود الصور ولقطات الفيديو هذه المرة. ليس هذا فحسب، فمن استطاع إغماض عينيه سهواً أو عمداً عن صور الخراب والقتل اليومي في سوريا، متذرعاً بمصداقية الصور المُسربة، فتحهما علي اتساعهما مع مقتل الصحفية الأميركية ماري كولفين، والمصور الفرنسي ريمي أوشليك خلال القصف الأرعن علي حي بابا عمرو. لقد اختلطت دماءٌ أخري مع الدم السوري (الذي لا يبدو غالياً في بورصة الدم العالمي هذه الأيام)، العالم حينها أبدي امتعاضاً أكبر، أو كان مُضطراً لفعل ذلك علي الأقل.
حتي ساعة كتابة هذه السطور، يدك الجيش النظامي أحياء في حمص وريفها وريف إدلب ومناطق متفرقة من سوريا، صور الأشلاء والشهداء والنزوح المتوفرة وبكثرة باتت خبزنا اليومي، وهي بالمناسبة لا تقتصر علي وسائل الإعلام العربية، فالصور هذه باتت حاضرة في نشرات الأخبار العالمية، لا بل أحياناً علي أغلفة المجلات والصُحف اليومية المرموقة. ولم تعد فقط أصوات الناشطين والثوار السوريين وكاميرات هواتفهم المحمولة هي من ينقل هذه المشاهد المُروعة، بل مراسلين أجانب تسلل معظمهم خلسة إلي الأراضي السورية مثل المصور البريطاني بول كونروي والصحافية الفرنسية أديت بوفييه والصحفي الإسباني خافيير اسبينوزا، وحتي الطبيب الفرنسي جاك بيريز، أحد مؤسسي منظمة أطباء بلا حدود. القتل في سوريا اليوم إذن لا تعوزه الشهادات ولقطات الفيديو والصور الملونة، علي عكس سوريا مطلع الثمانينات حين كان روبرت فيسك شاهداً يتيماً وبالصدفة علي خراب المدينة بعد المجزرة.
لم تقطع الصور الطريق أمام التنكيل، ولم تردع آلة قتل النظام كما كنا نمني النفس؟ قد يقول قائل: لا مجال للمقارنة، ففي مجزرة حماة وحدها يتراوح أعداد الضحايا بين 15 و40 ألفا بحسب تقديرات مختلفة ومتفاوتة، بينما لم تُسجل أعدادٌ كهذه في أي من المناطق الثائرة في سوريا، فوجود الصورة بحسب هؤلاء لن يسمح لدول العالم (حتي المتواطئ منها) أن تكتفي بالصمت أو بالمراقبة. البعض الآخر، وفي السياق نفسه، يشير إلي أن النظام وللأسباب عينها لم يستخدم كل ترسانته العسكرية، ويدللون علي ذلك بسلاح الطيران المُستثني تقريباً إلي الآن، من العمليات العسكرية. قد يكون هذا الرأي وجيهاً، فيما يتعلق بالإمعان في التدمير وعدد الضحايا الناجم عن ذلك. لكني شخصياً، وبعد مرور أكثر من عام، لا أري فيه حُجةً قوية، هذا بالإضافة إلي ضرورة رفض القياس القائم علي فداحة المجازر وعدد الضحايا، وكأن قتل سوريٍّ واحد يطالب بالحرية لا يعتبر بحد ذاته حدثاً جللاً! كيف إذن الحال وقد تم قتل آلاف السوريين وتهجير واعتقال أضعافهم؟ ناهيك عن عمليات التعذيب وسوء المعاملة أثناء الاعتقال التعسفي، والتي تستمر حتي اللحظة علي الرغم من وجود عشرات آلاف مقاطع الفيديو والصور التي تشهد علي هذه الممارسات.
اليوم وبعد مرور أكثر من عام، يبدو أن انزياحاً تراجيديا ً قد طرأ علي دور الصورة في الثورة. اليوم يتجنب الكثير من السوريين تصفح صور أو فيديوهات الشهداء والقتلي والمجازر، تماماً كما يخفضون صوت التلفاز أحياناً حين يسمعون استغاثات خالد أبو صلاح وهادي العبد الله وآخرين لم يكفوا عن التوثيق وإرسال قصص الموت والرعب، لتتحول شهاداتهم بالنسبة إلينا من مصدرٍ لإحساسٍ غامر بنشوة انتصار علي نظام يقتات علي التعتيم الإعلامي، إلي شهادات عجزٍ مؤرقة. وهل نستطيع نسيان أن البعض قد دفعوا أرواحهم ثمناً لها؟ هل ننسي رامي السيد النموذج المُذهل للمواطن المُراسل في سوريا، والذي أرشف لنا حصار بابا عمرو حتي سقط هو نفسه ضحيةً للقصف الوحشي؟ أكاد أجزم أن رفاق رامي ممن لا يزالون أحياء أو طلقاء، يعلمون علم اليقين اليوم أن لا كاميرات هواتفهم المحمولة ولا حساب السكايب سيحميهم من رصاص قناص يتململ علي أحد الأسطحة، أو قذيفة كادت تصدأ في مخازن الجيش قبل أن تجد طريقها نحو حي أو قريةٍ سورية هنا أو هناك. لكنهم، وعلي الرغم من ذلك، مستمرون لا يحيدون عن هدفهم.
بعد مرور عام هل يعلمون أن صورهم المُسربة وشهاداتهم الحية لم ولن تردع آلة القتل؟ أغلب الظن: نعم. هل يتعللون بالأمل؟ ربما! لكنهم بكل تأكيد يعلمون أنهم يوثقون ألمنا وعجزنا وعجز العالم بأسره، وتخاذل بعضه وتواطئه. يعلمون أيضاً أنهم يوثقون للمُستقبل، ولأجيال نريد لها أن تعيش في سوريا مختلفة، ليخبروهم كيف ضحي سوريون بسخاء، وكيف دفعوا ثمناً باهظاً في سبيل هذا المُستقبل.
الصورة المُسربة: الطوباوية في مواجهة متاهات السياسة
ولكننا عندما ظننا أن توثيق ما يحدث حولنا وبثه إلي الخارج، سيردع النظام عن تكرار أفعالٍ قديمة (ولا أقولها دفاعاً عن حلمٍ تبدد بعضه)، لم نكن في الحقيقة نعول علي الصورة بمعزل عن ما ستحدثه من تأثيرٍ وردود فعل سياسية وشعبية. بكلمات أخري كان تعويلاً علي ضمير أخلاقي إنساني ظننا بإمكانية وجوده الفاعل في زمن الثورات العربية. هنا جوهر المشكلة، أو جنوحنا الطوباوي ربما.
اليوم يبدو جلياً أن الإحراج أو الردع الذي يمكن أن تسببه الصور المُسربة للنظام لا يساوي شيئاً أمام مكالمة هاتفية من موسكو أو طهران أو واشنطن أو غيرها، فعواصم القرار هذه (أقله في الشأن السوري) لا يبدو أنها تكترث كثيراً بهذه الصور، وإن تعاملت معها بالطبع بأشكال مختلفة عن النظام السوري الذي دأب علي إنكارها جملةً وتفصيلاً. وحتي إن تأثرت قراراتها بهذه الشهادات المُسربة والوثائق المُزعجة في إلحاحها، فإن هذا التأثير يبقي، حتي اليوم علي الأقل، هزيلاً بالمقارنة مع ما تمليه مصالح هذه الدول والمنطق البراغماتي الذي يتحكم بسياساتها.
فشل الصورة في ردع النظام إذن هو فشلٌ لا تتحمل فيه الصورة المُسربة والممتزجة بدماء مصورها في بعض الأحيان أية مسؤولية، الأجدر بالقول إنه فشلٌ أخلاقي مدوٍ لكل من تجاهلها، ولكل من كان يمكنه التأثير لوقف نهر الدم في سوريا. وعليه فإني اليوم أميل للاعتقاد أن أحد أهم مبررات اندفاعنا للتصديق بأن بعض ممارسات النظام لا يمكن تكرارها في عصر الصورة، تعود إلي مبالغة في سرديات الماضي التي صورت أفعال النظام الوحشية وكأنها نُفذت فقط بسبب غياب الصورة، علي حساب اقتضابٍ مُريب في ذكر تفاصيل أُخري مثل معرفة وتواطؤ قوي دولية وإقليمية وحتي شرائح داخلية في الجريمة. هذا يذكرنا من جديد بحجم المسئولية التي تقع علي كاهل النظام بالتشارك مع مراكز صنع القرار العالمية والإقليمية بالطبع، في إبقاء تلك الحقبة السوداء طي الكتمان، فلا النظام أكترث يوماً بالعمل من أجل مصالحة داخلية ولو شكلية، ولا المُطَّلعون علي الأسرار في عواصم ذات صلة، أفشوا لنا بخفايا تلك المرحلة. اليوم وفي ظل ما يجري الآن، يصعب التصديق أن كل ما حدث في حماة مطلع الثمانينات كان خافياً عن بعض السياسيين والقادة حول العالم، أو حتي شرائح من السوريين في داخل سوريا. بالطبع لم يكن بالإمكان يومها معرفة طبيعة الأهوال وحجم الفاجعة، كما هو الحال اليوم، فهذا امتياز الصورة المُسربة ووسائل الاتصال الحديثة. لكننا بالغنا أيضاً في نسب كل تلك الأفعال الوحشية إلي الستار الحديدي الذي فرضه النظام آنذاك علي حركة المعلومات. اليوم نعلم علم اليقين، أن أفعالاً كهذه لا تتم بدون تواطؤ بل ومباركات أحياناً.
خسارة الرهان علي قدرة الصورة في خلق ردعٍ حاسم ومنع إعادة إنتاج نفس نهج العنف المُفرط الذي استخدمته السلطة مع شعبها في أزمنة ماضية، تعني أولاً وأخيراً هزيمة أخلاقية للإرادة السياسية الدولية، ولفرقاء سياسيين إقليميين ودوليين ساندوا النظام سراً أو جهراً، كما تعني أيضاً تخاذل شرائح من السوريين. إنها بالتأكيد ليست هزيمة لرامي السيد ومظهر طيّارة وحسين غرير ومازن درويش وداني عبد الدايم وآلاف غيرهم من مواطنين مراسلين وصحفيين ومدونين شهداء أو معتقلين، أو سائرين علي هذا الدرب.
الصورة والمُستقبل: بين الإلهام
والأمل وذاكرة جراحٍ لا تندمل
وإن خاب جزءٌ كبير من آمالنا المعقودة علي منع النظام من الذهاب بعيداً في عنفه، من خلال نجاحنا في تسريب الصور والمعلومات وتحدي الحصار الإعلامي، فلا بد لنا الآن من مقاربة الموضوع بشكلٍ أكثر واقعية. إن الإصرار علي المضي قدماً في دحض بروباغندا النظام وتوثيق كل ما يجري قدر المُستطاع، هي مهمة تتجاوز في طموحها محدودية تأثيرها الراهن، لتتطلع إلي مستقبلٍ (يأمل السوريون أن يكون قريباً) ستلعب فيه هذه الصور والقصص والأفلام دوراً محورياً في كتابة تاريخ مرحلة مفصلية من حياة بلد. وربما تساهم بالرغم من قسوتها وكم الوجع الذي تختزنه في صياغة عقدٍ اجتماعي ومدني متين للدولة المنشودة. يبدو التحدي هنا عظيماً، بين أن تكون هذه الذاكرة البصرية ذاكرةً للألم الجمعي نتقاسمه جميعاً كخطوة لا مفر منها لمداواة جراحٍ عميقة، أو أن تكون هذه الذاكرة، مرجعاً مريراً للعبث بهذه الجراح وجعلها نازفةً علي الدوام.
وإن كانت الصورة قد غُيّبت قسراً في العقود الماضية، فغُيبت معها العدالة وأُخفيت الجرائم والأدلة، لينجح المستبد في تشويه الذاكرة والتاريخ وإن إلي حين، فإن الإصرار علي بث الصورة التي توثق المُعاناة وتخترق ستاراً حديدياً يتآكل رويداً رويداً، يعني فيما يعنيه هزيمة نظام ينتمي إلي الماضي ويعاكس مسار التاريخ، ويستمد أسباب بقائه فقط من استخدامٍ مفرطٍ للقوة ومن تعقيداتٍ إقليمية لطالما تلاعب بها وعاش عليها. إن استمرار تسرب الصور بكل التضحيات الجليلة التي تجعل ذلك ممكناً، فيه انتصارٌ لروح الثورة الشابة والطموحة والعصرية والشُجاعة أيضاً.
قد يصح القول (مجازاً ) أن ثقباً أسود ثقيل الظل قد نجح في الماضي القريب في حجب جزءٍ من ذاكرتنا، فدُفنت بصمت آلام حماة وغُيبت صور والد ناصر الشامي وآلافٌ غيره سقطوا بفعل آلة قمع همجية، كما يصح القول بفشل الصورة المُسربة الآن في منع تكرار معاناة مدينة مازالت جراحها غائرة، وفي حماية ناصر الشامي الذي ترعرع يتيماً. إلّا أن الرهان يبقي في قدرة هذه الذاكرة البصرية المُتسربة من قبضة الجلّاد علي تأسيس مستقبل لن نسمح فيه بإعادة إنتاج آليات العنف عينها، ولا بوجود سلطة متغطرسة ومستبدة فوق كل قانون. الرهان هو أن لا تبقي هذه الصور وثيقةً لألم ٍلا ينتهما، ومرجعاً لتغذية ضغائن قد تودي بما تبقي من تماسك النسيج الاجتماعي السوري، الذي أنهكته عقودٌ طويلة من سياسات سلطة شمولية ومُستبدة.
الأمل المعقود هو أن يبقي السوريون أوفياء لتضحيات وشجاعة من سرب هذه الوثائق المصورة، ففي سوريا اليوم، تستمد الشهادات والوثائق البصرية قيمتها أولاً من شجاعة من يصورها ونبل مقاصدهم، هذا دينٌ علينا يجب أن لا ننساه رغم هول ما تنقله لنا هذه الصور.
الأمل المُتبقي إذن بأن يرقد والد ناصر الشامي قرير العين، لأنه يعلم أن حفيدته ستحظي بسوريا أفضل من التي حظي بها ابنه اليتيم، الأمل بأن تعيش حفيدته في مدينة تدفن آلامها سويةً مع سجانها وتعيش دون جراح جديدة.
مسرحي سوري