الفاتيكان وسورية: عن ‘دينونة لا يمكن الفرار منها’ – صبحي حديدي
دعا بابا الفاتيكان، فرنسيس الأول، إلى تخصيص يوم غد السبت، السابع من أيلول (سبتمبر)، للصوم والصلاة من أجل السلام في سورية، والشرق الأوسط، وسائر أنحاء العالم. وقال: ‘أعيش بألم بالغ وبقلق حالات الصراع الكثيرة الموجودة في أرضنا هذه، ولكن قلبي، في هذه الأيام، مجروح بعمق بسبب ما يحدث في سورية، ومهموم من التطورات المأساوية الماثلة أمامنا’. وإذْ أوضح بأنه يدين، ‘بحزم شديد’، استخدام الأسلحة الكيميائية؛ فإنّ الحبر الأعظم للكنيسة الجامعة تفادى تحميل المسؤولية لأيّ طرف، وكأنه يضع النظام والمعارضة في سلّة اتهام واحدة، وفضّل بالتالي الاستقرار على صيغة أخلاقية فضفاضة: ‘اللجوء إلى العنف لن يقود مطلقاً إلى السلام. فالحرب تجلب الحرب، والعنف يجلب العنف’.
ويلفت الانتباه طرازان من ردود الأفعال على مبادرة البابا، واحد مأساوي والاخر كاريكاتوري؛ لكنهما، حين يوضعان على محكّ البُعد الوظيفي، ينتهيان معاَ إلى مقدار عالٍ من التكامل، وأداء الغرض المتماثل ذاته. وهكذا، قال بيان أساقفة دمشق إنّ ‘دعوة بابا الفاتيكان من أجل السلام في سورية والشرق الأوسط تعكس التعاليم المسيحية الصافية، التي تعمل في الضمير الانساني لنشر السلام في الارض’؛ وهذه خلاصة لا جدال فيها، من حيث روحية دعوة البابا على الأقلّ. مدهش، في مستوى ثانٍ من البيان، أنّ الأساقفة أعادوا إنتاج خطاب النظام، ذاته، حول نظرية المؤامرة الخارجية، ليس على سورية وحدها هذه المرّة، بل على المنطقة بأسرها: دعوة البابا ‘تأتي فى وقت تتعرض فيه سورية إلى حرب من قبل دول وأنظمة جلّ همها القضاء على سورية وتاريخها ومستقبلها، إضافة إلى خلق حالة من الفوضى والرعب في جميع دول المنطقة’!
ردّ الفعل الثاني، الطراز الكاريكاتوري، صدر عن الشيخ أحمد بدر الدين حسون، مفتي النظام السوري؛ إذْ نقلت وكالة ‘فيديس′، التابعة رسمياً للفاتيكان، أنّ الأخير ‘تأثّر’ بنداء البابا فرنسيس الأول من أجل السلام في سورية، فأعرب عن رغبته في المشاركة بأمسية الصلاة، التي ستُقام من ساحة القديس بطرس، قبالة الصرح البابوي، في روما. وقالت الوكالة إنّ السّفير البابوي في دمشق، المونسنيور ماريو زيناري، ‘سوف يدرس إمكانية تحقيق هذه الرغبة’؛ وإلا، في حال تعذّر سفر حسون إلى روما، فإنّ ‘جماعته في دمشق’، حسب تعبير وكالة ‘فيدس، سوف تلبّي نداء البابا؛ وأنّ ‘المسلمين السوريين مدعوّون للمشاركة بالصلاة مع البابا في جوامع دمشق وفي سائر المناطق الأخرى’. ولم يعدم المرء جهات إعلامية مرتبطة بالنظام، سارعت إلى إسباغ الدراما الإضافية على الخبر، فأشارت إلى أنّ ‘الفرق الإسلامية، الجماعات القبلية، الدّروز، الإسماعيليّون وغيرها من مكوّنات المجتمع السوري سينضمون الى أمسية الصلاة’!
قبل هذا وذاك، ومنذ افتضاح أخبار المجازر الكيميائية في الغوطتَين الشرقية والغربية، دعا الفاتيكان إلى ‘الحذر في التعامل مع الادعاءات والمزاعم’ حول مسؤولية جيش النظام عن استخدام أسلحة كيميائية هناك؛ كما حضّ على ‘عدم إطلاق أحكام إلا بعد الحصول على دليل واضح’، حسب الأسقف سيلفانو توماسي، المراقب الدائم للفاتيكان لدى مقرّ الأمم المتحدة في جنيف. أيضاً، في مقابلة مع إذاعة الفاتيكان الرسمية، اعتبر توماسي أنّ ‘السؤال الحقيقي المطروح بهذا الصدد هو من المستفيد الحقيقي من هذه الجريمة اللاإنسانية’. ولكي لا يظلّ المشهد خالياً من هوية المذنب، أشار الأسقف إلى أنّ ‘التسرّع في إصدار الأحكام خلال أزمنة الحرب والنزاع، خاصة من جانب وسائل الإعلام، لا تقود دائماً إلى الحقيقة، ولا تجلب السلام’!
الأب أدولفو نيكولاس، الرئيس العام للرهبانية اليسوعية، أدلى بدلوه أيضاً، ضمن توجّه مماثل لا يتعمد تبرئة النظام السوري من المجازر الكيميائية، فحسب؛ بل يلقي باللائمة على الآخرين، في صفوف المعارضة السورية أو خارج البلد. لقد انتقد الضربات التي تعتزم الولايات المتحدة وفرنسا توجيهها إلى النظام السوري، وهذا حقّه بالطبع، وثمة كثيرون يوافقونه الرأي من منطلق التعاطف مع الشعب السوري، ضحية كلّ تدخل أجنبي، وليس بسبب أيّ تعاطف مع النظام. غير أنّ نيكولاس اعتبر أنّ الضربات هذه ـ وليس المجازر الكيميائية، البتة! ـ هي التي تدفع البشرية إلى ‘ردّة نحو الهجمية’؛ فتخسر فرنسا موقعها كـ’مرشد حقيقي للفكر والذكاء، له إسهام كبير في الحضارة والثقافة’، وتفقد الولايات المتحدة ما كان الأب اليسوعي يكنه لها من إعجاب بالغ!
والحال أنّ هذا المشهد الفاتيكاني ـ البائس سياسياً والمتعامي أخلاقياً عن رؤية الحقائق الدامغة، والمرتاح إلى مساواة الضحية بجلاّدها… ـ ليس جديداً على مواقف الصرح البابوي من الملفّ السوري، ولا يلوح أنه سيكون خاتمة التعامي. وثمة مقدار فاضح من التشويه، فضلاً عن التهويل، طبع تغطيات وكالة أنباء الفاتيكان للوقائع السورية منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية؛ يشدد، بالطبع، على أوضاع مسيحيي سورية، ويكيل شتى التهم إلى المعارضة عموماً، والفصائل الإسلامية بصفة خاصة؛ بحقّ نادراً، ودون وجه حقّ غالباً. وثمة، في هذا المضمار، سوابق كثيرة سارت على المنوال ذاته، واتضح أنها عارية عن الصحة تماماً، في المقام الأوّل؛ كما أنها، في المقام الثاني، تكشف تلك المنهجية القصدية التي تتوخى التضخيم، وتتلقف التقارير المغالية، أو الكاذبة عن سابق قصد، وتتبناها كحقائق مسلّم بصدقيتها.
ففي أواخر العام الماضي، 2012، وزّع القسم العربي لوكالة ‘فيديس′ خبراً مسهباً، قيل إنه صادر من مدينة حلب، يبدأ هكذا: ‘هناك حوالي ألف مسيحي من الكاثوليك والروم الأرثوذكس محاصرون في قرية اليعقوبية المسيحية الصغيرة الواقعة في شمال حلب. إنهم منهكون، ويفتقرون إلى الغذاء والكهرباء والاحتياجات الأساسية، ويجدون أنفسهم وسط قتال عنيف بين القوى الموالية والقوى المعارضة. لا يستطيعون مغادرة القرية ويعيشون في أوضاع رهيبة ويواجهون خطر الزوال.
هذا هو الإنذار الذي أطلقه عبر ‘فيدس′ الأخ الفرنسيسكاني الأب فرنسوا قصيفي، راعي كنيسة القديس فرنسيس في الحمرا (بيروت) الذي يعتني ويهتم بحوالي 500 لاجىء سوري’.
لافت، في البدء، أنّ الوكالة تعلن نقل الوقائع من حلب، ثمّ لا يحتاج المرء إلا إلى حفنة كلمات بعدها كي يكتشف أنّ الناقل يقيم في بيروت، وهو مطلِق الإنذار الرهيب، المنضوي أيضاً في موقع الخصم والحكم. جديرة بالانتباه، ثانياً، تلك اللغة التهويلية، والتهييجية استطراداً، التي تذهب إلى حدود قصوى مثل ‘الإنذار’، و’خطر الزوال’ (Extinction باللغتَين الإنكليزية والفرنسية!)، و’الحصار’، و’المأساة الرهيبة’ و’المسار الخطير’… في فقرات الخبر الأخرى. مدهش، ثالثاً، أنّ الوكالة بدت وكأنها تضع مسيحيي سورية في مصافّ افتراقية عن بقية السوريين، إذْ يتوجب ألا يفتقروا إلى الغذاء والكهرباء والاحتياجات الأساسية، أسوة بحال مواطنيهم عموماً؛ وهم أشبه بفريق محايد، مستقلّ، منفصل، لا هو ‘قوى موالية’ ولا ‘قوى معارضة’!
وفي حزيران (يونيو) 2012، نقلت الوكالة ذاتها تقريراً عن اضطهاد المسيحيين في مدينة حمص، نسبته إلى أسقف فرنسي يدعى فيليب تورنيول دو كلو، ادّعى النطق باسم كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، وتحدث عن كنائس دمرها المعارضون المسلحون، وعن مقتل كاهن، وفرار عدد كبير من المسيحيين تحت تهديد ‘الإسلاميين’.
خطأ الوكالة الأوّل كان إضفاء مرتبة الأسقف على دو كلو، في حين أنه ‘أرشمندريت’، وهي مرتبة دينية أدنى. وأمّا الخطأ الثاني، الذي عُدّ فضيحة مهنية وأخلاقية، فقد كان تأكيد مجلة ‘مسيحيو المتوسط’ الفرنسية، ومدوّنة ‘إل موندو دي أنيبال’ المتخصصة بالعالم العربي، أنّ دوكلو شاهد زور، ببساطة: لم يسبق له أن زار سورية، كما أنه مقرّب من أوساط اليمين الفرنسي المتطرف! وتساءلت المدوّنة: كيف وقعت في الخطأ وكالة مثل ‘فيدس′، يتوجب أن تمثّل مجمع التبشير الإنجيلي للشعوب؟
وبين الانخداع، الذي وقعت فيه الوكالة؛ والخداع، الذي مارسته عامدة، كما يتوجب القول؛ ثمة تلك الأمثولة القديمة، المتكررة والمكرورة، عن الكيل بمكيالين. فالكنيسة الكاثوليكية اعتذرت، في مناسبات شتى، عن مواقف الصمت، أو التواطؤ، أو المباركة الضمنية، التي اتخذتها بعض المؤسسات الكاثوليكية إزاء الجرائم النازية. ولكنها ما تزال تلتزم الصمت المطبق إزاء عمليات الإبادة الجماعية التي مارسها الفاتحون الإسبان ضدّ الأقوام الأصلية الأمريكية (‘الهنود الحمر’، في تسمية كريستوفر كولومبوس)، وسط لامبالاة الكنيسة، ولكن، أيضاً… وسط مباركتها للمذابح في أمثلة عديدة!
والتاريخ يسجّل أنّ المبشّر ورجل الدين كان العمود الرابع في تنفيذ الفتح، بعد الملاّح، والكاتب المؤرّخ، والفاتح العسكري. وفي كتابه الشهير ‘دموع الهندي’، يشرح الأب الدومينيكاني بارتولوميو لاس كاساس الفظائع الرهيبة التي سكت عنها الآباء والمبشّرون، بل شجّعوها تحت دعوى التنصير الإجباري لهذه ‘الأقوام الهمجية’. وفي موازاة دفاع الأب لاس كاساس عن المساواة بين البشر، توفّر الفقيه الإسباني خوان دي سيبولفيدا، الذي دافع عن التمييز الصريح بين البشر، وتساءل بقحة: ‘كيف يمكن لأحد أن يعتبر غزوهم، وإبادتهم في حالة الضرورة، أمراً غير مبرر، وهم على ما هم عليه من همجية وبربرية ووثنية وكفر ودعارة’؟
كذلك سجّل التاريخ تلك العبارة/المسمار، (‘الماريشال بيتان هو فرنسا، وفرنسا هي الماريشال بيتان’)، التي هتف بها الكاردينال بيير جيرلييه، أسقف مدينة ليون، ورددت أصداءها جدران كاتدرائية بوردو العريقة أثناء قيام الماريشال ـ زعيم حكومة فيشي، المتعاونة مع الاحتلال النازي ـ بزيارة الكاتدرائية. وثمة ذلك النداء، الرهيب بدوره، الذي أطلقه الكاردينال الكاثوليكي بودريار، عام ، 1941، في امتداح النازية: ‘لأنني قسّ وفرنسي يمرّ بمرحلة حاسمة، هل في وسعي أن أرفض إقرار المشروع النبيل المشترك الذي تقوده ألمانيا، والذي يسعى إلى تخليص فرنسا وأوروبا والعالم بأسره من الهواجس الأشدّ خطورة، وإقامة تآخٍ صحي بين الشعوب على خلفية تجديد مسيحية القرون الوسطى؟ ها قد حان الوقت لحملة صليبية جديدة. وأؤكد لكم أنّ ضريح المسيح سوف يتحرر. ومن خلال أحزان اللحظة، سوف ينبلج فجر جديد’!
تلك، بدورها، وقائع تُستدعى لفهم عبارة البابا فرنسيس، في نصّ دعوته إلى الصيام والصلاة من أجل سورية: ‘أقول لكم إن صور الأيام المنصرمة البشعة ما زالت منطبعة في الذهن وفي القلب. هناك دينونة الله، وهناك أيضا دينونة التاريخ وفق أعمالنا، وهي دينونة لا يمكن الفرار منها’. بالطبع، فإلى أين؟ وكيف، أصلاً، المفرّ؟