انفصام اليسار العربي – سليم البيك
للثورة السورية وبمراحلها الأخيرة تحديداً الفضل في تبيان الرخاوة في تيارات يسارية عربية، أحزاباً وتنظيمات وأفرادا، وتحديداً بمراحلها الأخيرة لأن تنظيماً طائفياً ببنيته وسياساته المحلية والعربية وولاءاته كحزب الله صار سنداً رئيسياً لجيش النظام السوري في عملياته بتنويعاتها من السّكين إلى القذيفة. لأن تنظيماً كهذا صار طرفاً أساسياً فيما يحصل في سوريا، ولأن هذا الحزب عينه كان، وما يزال، المثال المقتدى عند كثير من اليساريين العرب، بغض النظر عن ماضيه بحق مثقفين والإقصائي بحق تيارات من اليسار اللبناني.
مع الاعتراف التدريجي للحزب عبر خطابات أمينه العام حسن نصرالله بالمشاركة العسكرية مع نظام الأسد، ظهر -كذلك تدريجياً- كثير من التهليل اليساري للحزب والنظام الذي يدعمه هذا الحزب. قد نتخطى هنا انتقاد هذا ‘الكثير من اليسار’ في تأييده ودون خجل للنظام السوري في قتله للسوريين والفلسطينيين، لنحكي عما تخطى التأييد لندخل في حالة الولاء لكن لحزب الله، في انسجام تام مع عقيدته وأدبياته الطائفية، الأبعد (في بؤسها) من الدينية، والموالية بكل الأحوال لفقيه الجمهورية الإسلامية في إيران.
في خطابه الأخير حكى نصرالله عن التكفيريين في كلام حسبته صادراً عن ‘أغنوستيك’ لولا العمامة السوداء. فليقل السيد ما يريده بعد أن مارس على الأرض ما هو أقذع من تكفيرات لفظية تلحقها تصفيات فردية ‘نبّهنا إليها’ نصرالله، السيد يقتل ثم يكفّر ثم يظهر في خطاب مقلوب. مشكلتي ليست في خطابه بل في الـ ‘لبّيك لبّيك’ التي تلفّظ بها هذا ‘الكثير من اليسار’، كأنه سيدهم ملأ بكلامه هذا فراغاً عتيقاً تركه مفكّرون يساريون اجتهدوا في نقد الدين والتديّن كالشهيدين حسين مروّة ومهدي عامل، فكانا ضحايا هذا التديّن وهذه ‘السيادة السوداء’.
مشكلتي أقول مع علمانيين يساريين يهتفون ‘لبّيك ôالخ’ كلّما حكى سيدهم بعمامته السوداء، وتحديداً حينما ‘نبّهنا’ فجأة وفي خطابه الأخير إلى إسلاميين تكفيريين قتلة اتخذوا من سوريا أرضاً للجهاد، هو وحزبه ومهامه الجهادية في سوريا أشبه بهم مع خلط بسيط في الأولويات: أيهما يسبق، التكفير أم القتل؟
هل هنالك حقاً أي فارق جوهري عقائدي بين تنظيمات جهادية حصل أن كانت سنّية، وبين تنظيم جهادي حصل أن كان شيعياً؟ كونهما ينطلقان من خلفية غيبية دينية واحدة والفارق الطائفي بينهما تفاصيل تاريخية لا تمسّ البنية العقائدية والدافعية للجهاد والإيمان بأنه، أي الجهاد، الطريق إلى الجنة ؟ أليست الاستماتة في الاستشهاد لنيل الجنة ليضع الله المقتولَ في ميزان الحسنات، أليس هذا الأساس وهو ما يجمعها جميعها كتنظيمات دينية تحمل سلاحاً وتسمّي أي قتال تقرّره قياداتها بأنه جهاد؟ أي تأييد يساري يكون بالضرورة نقدياً لجهاد كهذا!
بالكلام سياساً، حزب الله قاتل إسرائيل، اعترفَ بالخطأ لاحقاً لما جرّه من مصائب وقعت على رؤوس اللبنانيين. لكنه بالنهاية كسب فئة من الناس في غير بيئته المحدودة ضمن العائلات الشيعية في جنوب لبنان، في جميع البلاد العربية. لبنان انتكس، فلسطين اختطفت، فكرة المقاومة بل والمفردة ذاتها تم الاستئثار بها وفوق ذلك -أو ربما لذلك- هتف هذا ‘الكثير من اليسار’: ‘لبّيك لبّيك’ لحزب عرف كيف يكسب ولاء اليسار ويمحي هويته ويحتوي تنظيماته.
اليوم، وقد كان الكثير منا متعاطفاً مع الحزب كونه كان الطرف الوحيد من غير الفلسطينيين الذي ضرب طلقة أو قذيفة على إسرائيل في السنين الأخيرة، اليوم نعرف أن ذلك لم يتعدّ كونه مصلحة حزبية في لحظة تاريخية انسحبت بهدوء، ‘لعبها صح’ الحزب في حينه وما زال يحصد حتى اليوم. كثير منا كان مع الحزب في لحظة ظهر لنا فيها أنه مقاوم، مصلحته الحزبية تقاطعت مع آمال الكثير منا، اليوم المصلحة ذاتها صارت في مكان آخر، اليوم كثير منا لفظ الحزب بعد ما تلوثت بنادقه بدماء أهالي القصير وغيرها، بعدما عرفنا أن حمص هي التي تقع ما بعد (بعد) حيفا لا كما خمّنا، تل أبيب. حيفا إذن وما قبلها وما بعدها تحددها ولاءات الحزب ومصالحه الحزبية في لحظات تاريخية محددة، لا أهلها الصامدون فيها أو اللاجئون عنها في مخيمات ضربها النظام وقد تطالها يوماً بنادق الحزب وسكاكينه.
بعد كل ذلك يأتينا أحد ‘الكثير من اليسار’ ليبني موقفاً مؤيداً للحزب كبنية تنظيمية عقائدية عسكرية وبالمطلق، ما أودى بهم لولاء عقائدي في دعم الحزب، لا مواقف معينة له، ودون المناقشة بما يمكن أن يخطئ أو يجرم به هذا الحزب الإلهي. هنا تكمن مشكلتي مع هذا ‘الكثير من اليسار’، يسار لم يطق مجرد تحالفات سياسية، هجينة بكل الأحوال، مع هذا التنظيم الطائفي بل جرّته إمكانات الحزب المادية وما لحق ذلك من إمكانات عسكرية وإعلامية ودعائية إلى الهتاف ‘لبّيك لبّيك’.
لينين بجلالة قدره لم يكن يحلم بولاء عقائدي كهذا.