تركيا، جرابلس، وداريا – أيمن الصفدي
ليس من أجل محاربة « داعش » عبرت القوّات التركيّة الحدود السوريّة وطردت التنظيم الإرهابي من جرابلس. فعلت أنقرة ذلك من أجل منع الأكراد من إطباق سيطرتهم على الشمال السوري المحاذي لها. فـ »داعش » متمركزٌ على الحدود التركيّة ويتزوّد المقاتلين والسلاح والمال عبرها منذ اقتحم الثورة قبل ما يزيد على ثلاثة أعوام. سكتت تركيا على ذلك إلى حين اقترب الأكراد من السيطرة على جميع النقاط الحدوديّة معها ومن ربْط مناطقهم في سورية جغرافيّاً، ما يسهّل لاحقاً استقلالهم كياناً ذا حكمٍ ذاتيٍّ أو دولة.
حينذاك استنفرت تركيا. فتمكّنْ الأكراد درجة امتلاك القدرة على الاستقلال يمثّل الخطّ الأحمر الوحيد في المقاربة التركيّة إزاء سورية. ما عدا ذلك متغيّرٌ قابلٌ للمساومة في سوق المصالح التي يرى سماسرتها الإقليميّون والدوليّون إلى المواطن السوري أقلّ مكوّناتها قيمة.
تركيا بدأت عمليّة مستعدّة للقيام بكلّ ما يلزم من أجل منع أكراد سورية من بناء ظروف قيام دولتهم، وبالتالي تحفيز الشعور القومي لدى أكرادها. وقد يشمل هذا إعادة إحياء اتّفاق أضنة للعام 1998، والذي اتفقت تركيا والنظام السوري وفقه على التعاون في محاربة الأكراد، حسب صحيفة « الحياة »، التي تحدّثت في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي أيضاً عن احتمال زيارة وفدٍ أمنيٍّ سوريٍّ أنقرة لبحث هذا التعاون.
وفي تأكيدٍ على أنّ منع الأكراد تكريس نفوذهم هو السبب الفعلي لتحرّك أنقرة العسكري الأخير، أكّد وزير الدفاع التركي أنّ لبلاده الحقّ في إرسال قوّاتها إلى سورية إذا لم ينسحب الأكراد إلى شرق الفرات، أي بعيداً عن الحدود التركيّة. كيف تفسّر أنقرة هذا الحقّ قانونيّاً في ضوء أنّ الأكراد سوريّون ويتحرّكون في بلدهم غير مفهوم.
لكنّ تفسير عدم تحرك أنقرة ضدّ « داعش » منذ سيطر على جرابلس في العام 2013 إلّا حين بات الأكراد على وشك انتزاع السيطرة على المدينة واضحٌ لا لبس فيه.
فذات حلمٍ بالزعامة الإقليميّة في وسط فوضى ما سمّي بـ »الربيع العربي »، ظنّ أردوغان أنّ حسم الصراع في سورية بإسقاط النظام المستبدّ سيكرّس زعامته المنشودة تلك، فدعم « النصرة » رغم اعترافها بتماهيها مع إرهابيّة « القاعدة »، وغضّ الطرف عن استخدام « داعش » حدود بلاده خطّ الإمداد الأول له.
بيد أنّ الظروف تغيّرت: برز الأكراد قوّةً تدحر « داعش » وتفرض سيطرتها على المناطق الحدوديّة السوريّة التركية، كسّرت التغيّرات في المنطقة أحلام السلطنة الأردوغانيّة، ووجّه « داعش » إرهابه نحو تركيا، ردّاً على تشديدها الخناق عليه مع تغيّر مقاربتها للأوضاع.
نتيجة حسابات المصالح، بدأت تركيا عملية الاستدارة السياسية في سورية، في ما يبدو أنّه عمليّة مراجعةٍ أشمل للمواقف، أدّت أيضاً إلى إعادة النظر في علاقتها مع إسرائيل، التي أقرّ البرلمان التركي اتّفاق إعادة تطبيع العلاقات معها الأسبوع الماضي.
ولأنّ الحرب في سورية تخضع لحسابات المصالح هذه، دعمت واشنطن العمليّة التركيّة في جرابلس، رغم أنّها شملت قصف الأكراد، حليفها الأكبر في الحرب ضدّ « داعش ». هدّدت واشنطن النظام السوري حين قصف قوّات الحماية الكرديّة في الحسكة. لكنّها دعمت العمليّة التركيّة في سورية، رغم أنّها استهدفت حليفها الكردي. وطالبت واشنطن « قوّات سورية الديمقراطيّة » الانسحاب إلى شرق الفرات، امتثالاً لمطالب حليفها التركي، في سياق لعبة التوازنات التي لن يكون من السهل الإبقاء عليها إن تصاعدت المواجهات الكرديّة التركيّة مستقبلاً، وهو المنتهى المؤكد للصراع بين الطرفين.
ما حدث في جرابلس فصلٌ صغيرٌ في الانحدارات القادمة لحكاية الموت التي صارتها سورية. وهو مؤشّرٌ على الصراعات التي ستُمعن في استباحة البلد بعد القضاء على « داعش »، وبعد حسم الحرب ضدّ النظام، خصوصاً إذا ما سقط النظام خارج ترتيبٍ سياسيٍّ يحمي البلد من الوقوع في الفوضى الكليّة.
المستقبل مفتوحٌ على احتمالاتٍ عديدةٍ كلّها بائسةٌ على المديين القصير والمتوسّط. لكن مهما كانت المآلات التي ستأخذها الأزمة، ثمّة ثابتٌ يترسّخ بوجع: حقّ الشعب السوري في الحياة بات الأقلّ ثقلاً وأهميّةً في حسابات الأزمة.
ولعلّ في التهجير الذي تشهده « داريا »، وفي مشاهد أطفالها وهم يبكون وداع بيوتهم تذكارا أنّ أحداً غير السوريين من أطراف الأزمة الفاعلين لا يفقد نوماً إن أصبح كلّ أطفال سورية « عمران » الحلبي.