ثقافة »الأجندات » – سلام الكواكبي
الثورات والانتفاضات العربية تتابع مسارها المتعثر في كثير من الأحيان وتواجه، إن هي وصلت إلى قلب نظام الاستبداد القائم، ثورات مضادة من بقايا »العقلية » الحاكمة السابقة، كما في مصر، أو فوضى مسلحة تصعب السيطرة عليها من قبل مجلس انتقالي غير تمثيلي للقوى الفاعلة على الأرض والتي ترغب في فرض سطوتها، على الأقل في المرحلة الانتقالية، كما في ليبيا، أو أنها تعيش مخاضاً ديمقراطياً يغلب عليه طابع محافظ فاز في انتخابات شفافة كما في تونس· ومن جهة أخرى، يصعب التكهن بمآلات قصيرة الأمد لديناميكية ثورية قائمة تسجل يومياً، ومنذ أشهر تسع، مزيداً من الدماء والضحايا والتعذيب والاعتقال، تواجه به سلطة قائمة انتفاضة سلمية لم تؤت أوكلها بعد كما في سوريا· وعلى الرغم من أن الضغط الدولي والإقليمي على النظام السوري قد بدأ بالتبللور، فإن ذلك لم يستطع حتى الآن طرح تصور واضح يُبيّن السبيل الأنجع لكيفية الخروج من دوامة العنف· هذا العنف الذي يستمر من طرف واحد منذ تسعة أشهر في دوامة عبثية تحصد أرواح المتظاهرين المدنيين، بدأ بحصد أرواح من الطرف الآخر من المعادلة من خلال منطق حتمي لا يمكن له أن يتحمل سلمية مثالية طوال أشهر أمام مسار قمعي ممنهج يستند إلى رغبة واضحة في عدم فهم مسار التاريخ الجاري والابتعاد عن منطق الدولة أو المشروع للغرق في منطق الهيمنة والبقاء
في ضوء هذه التحولات الحذرة أو المتفائلة أو المتشائمة أو المقموعة، فإن خطابات أصحاب السياسية الاستبدادية التي لم تسقطها بعد انتفاضات مواطنيها، أو تلك التي تشعر بأنها بمنأى عن الانخراط في المسار الحتمي للتغيير، أو أبواق متعيّشة على بقايا موائد ثقافة القمع والإقصاء، أو عقليات يختلط فيها الخوف من التغيير بالمنفعة الذاتية و بالاقتناع بموقف سياسي فقد مصداقيته ومعناه وقيمته ورموزه وأخلاقيته، تذخر كلها بثقافة »الأجندات »
غابة الأجندات التي يرسمها جزء من العقل العربي في مخيلته السياسية والثقافية منذ عقود، ترتبط بهزيمة نفسية تدفع بالمقاومة الذاتية إلى التحصّن خلف شعارات ممجوجة أو تاريخ مضى، يُخيّل للبعض بأنه كان مزدهراً، ليبنوا عليه قصوراً من الرمال المتحركة باتجاه مقالب قمامة الفكر والمنطق والأخلاق
في هذه الغابة، توجد أجندة إيرانية في ثورة مصر، وعندما ظهرت سخافة الطرح لدرجة الفكاهة، تحولت الأبواق للتحدث عن أخرى إسرائيلية ومن ثم أميركية· الأخيرة تثابر على تلويث ألسنة من يرغب في متابعة مواجهة مظاهر حماية الثورة التي يحاول من خلالها شباب وشابات مصر الحفاظ على مكتسباتها بعد أن شعروا، عن حق، بأنها في طريقها إلى القولبة في إطار عسكري / إداري يمكن أن يفقدها معناها إن هو تطور· فالأجندات ما زالت متوفرة في مكتبات السياسة والإعلام المصري حتى يومنا هذا بعد أن ظن الكثيرون بأن الخطاب سينتقل إلى مرحلة وعي أكثـر تقدماً ويبتعد عن لغة الخشب والحجر والرصاص· ولدى الإسلاميين المتطرفين (من يحدد الدرجة؟)، توجد أجندات إلحادية بمجرد أن يتناهى إلى سمعهم عبارات مثل: العلمانية أو الديمقراطية· ولدى العلمانيين المتطرفين أيضاً، فالأجندة الوهابية متوفرة وبصفحات كثيرة إن هم واجهوا صعوداً سياسياً »ديمقراطياً » لخصومهم التاريخيين من الإسلاميين أو المحافظين· ولدى السلطة السورية، تطويرا متشابكا لمفهوم الأجندات الموسادية ـ السلفية ـ القاعدية ـ الأمريكية ـ الفرنسية ، القطرية (تحالف أممي تقريباً) لشرح ما يجري على أرض الاحتجاجات الشعبية
ولدى السعوديين خوف من أجندات إيرانية إن تحركت المطالب الشعبية المحقة في مناطق الفقر والحرمان، أو إن طالب الشعب البحريني باسترداد حقوقه السياسية المصادرة· وفي المغرب، فأنت بالتأكيد تحمل أجندة جزائرية إن طرحت مسألة الصحراء الغربية ولو على سبيل النقاش أو التساؤل عن طبيعة الموقف· أما في الجزائر، فبالتأكيد أن أجندتك فرنسية أو مغربية إن تناولت المسألة الديمقراطية من دون التوقف عند المحرمات أو إن تحدثت عن ضرورة الإصلاح السياسي الحقيقي الذي يمكن أن يمتص توجهاً عاجلاً أم آجلاً نحو الاحتجاجات الشعبية أوالتحركات المطالبية
ثقافة (أو سخافة) الأجندات تغمر الساحة العربية، فهناك بالتأكيد أجندة فتحاوية في وجهة نظر حماس إن انتقدت ممارسات بعض أطرافها الظلامية على مجتمع غزة، وهناك بالتأكيد أجندة حمساوية في وجهة نظر فتح إن تم تسليط الضوء على فساد بعض رموز السلطة الفلسطينية· وفي لبنان، فالحديث عن أجندة إسرائيلية أو انهزامية أو حريرية أو سعودية ينبثق بمجرد أن تنتقد، بخجل وباحترام لماضٍ مقاوم عتيد، سيطرة السلاح على المنطق السياسي للبعض· والعكس صحيح، فأنت متهم بالتعبير عن أجندة إيرانية أو سورية إن واجهت رأياً وتعبيراً سيطرة المال على منطق البعض الآخر السياسي· ويمكن أن نستعرض الكثير من الأجندات التي تُسيّر عقلية التحليل السياسي والتخطيط الاستراتيجي في المنطقة العربية
من المؤكد أن المكتبات تحتوي على عديد من أنواع الأجندات والتي يمكن الاستفادة منها بشكل إيجابي بحيث تساعد على تنظيم الأعمال والمواعيد· وكذا السياسة، فهي تضم في ثناياها أجندات تملي على من يتبناها سياسات واعية لمصالحها في كل الاتجاهات· أما أجندات المؤامرات، فوجودها ضئيل بالمقارنة مع الحجم الهائل المتخيل الذي تتلظى خلفه مياعة من لا يريد أن يواجه الموقف السياسي والفكري بموقف مماثل يعتمد على العقل والعمل· وانهزامية من يبحث عن قميص عثمان يخفي وراءه ضحالة حجّته
لن تنتج غابات العالم ما يكفي من ورق لكل هذه الأجندات التي تملأ العقل والخطاب والممارسة السلطوية والإقصائية العربية· إنها مبنية على الهروب من مسؤولية التفكير وحتمية التغيير وواجب مساءلة الذات عن الإنجاز في كل المجالات· وحتى على مستوى الفرد، تنبثق ثقافة الأجندات من كل حدب وصوب، فهل منكم من لا يعرف صديقاً فشل في دراسته في الغرب الأوروبي أو الأميركي ولم يلقي بالللائمة على أجندة »صهيونية أو صليبية » تتحكّم بتعامل أستاذه المشرف معه؟ ربما
http://www.djazairnews.info/trace/37-trace/31623-2011-11-28-16-57-27.html
الجزائر نيوز – الاثنين، 28 نوفمبر 2011