حكمة وصور القتلة – عزت القمحاوي
الشهداء لا يذهبون إلى الجحيم: يُحكى عن ملك إفريقي أنه كان إذا اشتاق إلى أبيه الميت يأمر بفك قيود أسير وإحضاره بين يديه. يلقنه الرسالة التي يريد أن يبلغها إلى أبيه في العالم الآخر، ثم يأمر بجز رقبته.
لم أقع على هذه الحكاية في كتب الانثربولوجيين الغربيين؛ فليس من الحكمة الوثوق بروايات أولئك الموكلين بتثبيت عجائبية التوحش في الممالك الإفريقية، لكنني وقعت عليها عند عبدالفتاح كيليطو، ومن حسن الفطن ـ كذلك ـ ألا نثق في رواية ممسوس بألف ليلة تأكله الغيرة من خيال شهرزاد، ويحلو له دائما المزايدة عليها بتصور حكايات أكبر خيالا.
ومن غير المعقول أن يكون بشار الأسد قد قرأ هذه الأسطورة، لكن الإبداع يتشابه في ممالك الدم. ويبدو أن شوقا غير طبيعي إلى أبيه هو الذي يدفعه إلى أن يبعث إليه برسالة في كل لحظة.
الرئيس السوري، الذي لم يرضع في طفولته لبنا، استطاع بحسه الدموي إعادة إنتاج الأسطورة بدون معلم، ولكن غابت عنه أشياء؛ فالأسرى حاملو الرسائل قد يجدون طريقهم بسهولة إلى والد الملك طبقا لتصور مبسط للعالم الآخر، بينما لا يذهب الشهداء إلى الجحيم في الديانات السماوية التي لا يعرف الرئيس أيا منها.
وبعد كل هذا القتل لن يتسنى للأسد الأب الاستماع إلى الرسائل إلا من فم الابن شخصيا.
حكمة لم ولن تنفع
نشرت صحيفة مصرية، نقلا عن مقربين من مبارك، أنه قال بضرورة تنحي بشار حقنا للدماء. حكمة لم يكن مبارك ليعمل بها لو طاوعه الجيش المصري.
ولكن من يستعيد أشرطة العروض الكوميدية للقمة العربية، سيرى أن مبارك كان الأكثر ضيقا بالطفل المعجزة، عندما كان يقرر أن يبز القذافي ويعطي دروسا في الاستراتيجية للملوك والرؤساء الآباء، الذين يعرفون كل ما يقول ولا يملكون من أمر بلادهم شيئا استراتيجية كان أو تكتيكا.
كان مبارك في جلسات القمة يضيق ببشار أكثر مما يضيق الآن بمرافعات محاميّ الشهداء في جلسات محاكمته. وهو يعرف في قرارة نفسه أن بشار لن يستفيد من نصيحته الغالية، لكنه يحقق رغبة في الانتقام منه، ولو بشطر حكمة عديمة النفع.
تماثيل الديكتاتور
زين صدام والأسد ساحات بلديهما بتماثيل تتكاره مع المارة، مبارك كان يرى نفسه أقل قليلا من إله؛ فاكتفى بالصور، أما القذافي المختلف دوما يؤمن أنه خالد ببدنه، ولا حاجة به إلى التماثيل مادام بوسع الليبيين أن يروه كل يوم بأزياء ملونة مختلفة بعكس التماثيل ثابتة الألوان من المعدن أو المرمر. ومع ذلك كــان لابد من التمثال.
وقد وجد الحل في الكتاب الأخضر، أقام تماثيل للكتاب الأخرق في كل مكان، ودفن نسخا منه محفورة على الرخام تحوطا لأي طوفان مائي أو نووي يضرب العالم.
القذافي هو الديكتاتور الوحيد في العالم الذي صنع التماثيل لهلوساته!
التمثال المعصوم
في ساحة عرنوس بوسط دمشق، يقف تمثال لحافظ الأسد مسيجا بالحديد مع حراسة عسكرية على مدار الساعة، وكأنه وحش حقيقي يمكن أن ينقضّ على مرتادي الساحة.
التمثال تحت الحراسة، وضع اعتاده الدمشقيون منذ سنوات، لكنه مدهش للعين الغريبة.
حدثني صديقي عن سخرية تعرض لها التمثال: عندما شهدت البلاد شحا في السمن والزيت، تسلل أحدهم بالليل وعلّق علبة سمن فارغة في ذراع الرئيس المطوية إلى أعلى، كان ذلك هو التذمر الأقدم الذي لم تتداركه أسرة الأسد، مثلما يعجز المستبد عن فهم بؤس تماثيل لا يحرسها الحب.
أموال الطغاة لا تُحصى، والأفران التي تصهر أجساد الشعوب تصلح لسبك تماثيل ترتعد، وتتسول دفئا غير موجود في قلوب ناظريها.
التمثال والصورة
مثل غريمه صدام، لم يكن حافظ الأسد واحدا، كانت تماثيله بالعباءة والعقال في مناطق البدو، بأزياء وحدات الجيش المختلفة على بوابات الوحدات العسكرية، وبالبدلة الأفرنجية في العاصمة، ولهذا استطاع الأسد الرئيس أن يتوازن على ظهر الأسد السلطة، حمل كل البطيخ في يد واحدة ومضى إلى مثواه الأخير محروسا بالخوف. بشار لم يمتلك مهارة أبيه، ولم تكن له غير الصور بالبدلة الأفرنجية وبعنق يتسع لعدة مشانق، لهذا حرنت السلطة تحته.
الفرق بين الأب والابن هو ذات الفرق بين التمثال ذي الأبعاد الأربعة والصورة الفوتوغرافية ذات البعد الواحد. ولم تعد أمام الابن فرصة للبقاء حتى تتعتق صورته وتتكلس فتصير تمثالا.
صورالابن الميت والابن الحي
لا تقتصر الصور في الفضاء العام السوري على الابن الرئيس، إذ تنتشر صور الابن الذي كان محتملا أن يصير رئيسا، بل إن صور باسل كانت تفوق في عددها صور بشار، بينما لا توجد صور لماهر، ربما لأن من يفعل يشبه الإله: دليل وجوده في أفعاله، ولا حاجة به لأن يكون ملموسا.
للتمثال حظ الثبات وللصورة حظ الانتشار، وهكذا كانت صور باسل وبشار تحاصر عيون الإنسان أينما حل في الديار السورية. لا يقدر قائد تاكسي على كلفة تمثال يخيف به شرطي المرور، ولا يقدر صرماتي أو بائع جوال على أكثر من صورة ببضع ليرات تقيه تنكيل الدركي.
والصورة لا تحتاج إلى مناوبات أمنية لحراستها؛ إذ لا يستطيع أحدهم أن يعلق علبة سمن فارغة في يد الصورة، إما أن يتركها أو يطمسها أو يمحوها.
وقد أزال الثوار الكثير من صور باسل وبشار، حتى قبل أن يسقط الأخير، وعندما يتنحى، سيكتشف السوريون أنه هش وعديم الأثر أكثر من صوره، وأن البنية التي وضعها حافظ في رسوخ التمثال، ستحتاج إلى جهد مضاعف لهدمها.