حكومات.. وثورات شعبية – عاصم حمشو
حكومات.. وثورات شعبية
بدأت معالم مرحلة جديدة تتشكل مع انطلاق موجات الحراك الشعبي في العديد من دول العالم، هذا الحراك الذي لم تكن دول المنطقة العربية بمنأى عنه، نظراً للظروف التي تعيشها، من حيث تفاقم أزماتها الاقتصادية وارتفاع نسب البطالة فيها المتزامنة مع نيوليبرالية متوحشة وزبائنية، وانسداد آفاقها السياسية مع ظهور مشكلة التوريث الذي بدأته سوريا وكاد أن يصبح عرفاً في غير دولة عربية، وما رافق هذين العاملين من مشكلات اجتماعية وديموغرافية وانفجار سكاني وتشوهات عمرانية شهدتها المدن والأرياف على حد سواء.
تظافرت هذه العوامل لتستكمل ما شهده العالم من انهيارات سابقة في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، وبما أن أنظمة العالم العربي تعتبر امتداداً للنماذج السوفيتية المنهارة قبل ربع قرن، كان من الطبيعي أن تكون الرغبة في التغيير هنا أكثر إلحاحاً وضرورةً من غيرها، لتنذر باستكمال انهيار العالم القديم وما رافقه من أيديولوجيات ومرجعيات سياسية وثقافية وفكرية، فلا راديكالية اليسار « المناهضة للغرب الامبريالي » في عالم باتت تجمعه صفحات الانترنت وتختصره وسائل التواصل والاتصال تنفع، ولا نماذج النيوليبرالية وجيوش العاطلين عن العمل والتنبؤ بصراع الحضارات يمكن لها أن تشكل بديلاً لجيل ذاق نتيجة هذه الويلات بطالة وفقراً وهجرة وحروباً وعمليات انتحارية، وغدت خبراته في التواصل والاتصال بالعالم ومتغيراته ميزة أساسية له.
وبالعودة إلى بداية موجة الحركات الاحتجاجية على الساحة الدولية، إذ شهدت روسيا في العام 2011 مظاهرات عمت أرجاء العاصمة موسكو احتجاجاً على نتائج الانتخابات البرلمانية، التي أفضت إلى حصول حزب روسيا الموحدة على أغلبية مطلقة في البرلمان، وشهدت هذه التظاهرات عمليات قمع واعتقال قادت خلالها السلطات أكثر من مئتين وخمسين شخصاً إلى المعتقلات، فيما لم تكن ردة فعل السلطات البريطانية على متظاهري مدينة توتنهام المحتجين على سوء الأحوال المعيشية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة بأحسن حال، بل واجهت السلطات المحتجين بخراطيم المياه والرصاص المطاطي واعتقال أكثر من ألف متظاهر عدا عن سقوط قتيل بينهم.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية كانت حركة « احتلوا وول ستريت » قد بدأت في هذه الأثناء عبر مجموعة من الناشطين على موقعي فيس بوك وتويتر، واستطاعت أن تحشد لمظاهرات صغيرة في البدايات ما لبثت أن استقطبت عدداً أكبر من المحتجين والمتظاهرين في الشوارع، ما دفع السلطات للبدء بحركة قمع واعتقال ممنهجة أسفرت عن اعتقال أكثر من 700 شخص بحجة عرقلة المرور!!
وبالتزامن شهدت عدة مدن عالمية حراكاً شعبياً متنامياً مثل مظاهرات مونتريال في كندا ومسيرة روما في ايطاليا ولشبونا في البرتغال، وسادت هذا الحراك أفكار وقيم واحدة عالمية الطابع مرتبطة بثقافة حقوق الإنسان والحريات والسلام والعدالة الاجتماعية، وكان عمادها فئة واسعة من جيل الشباب الراغب في تغيير الموروث القديم من آليات الحكم والتحكم بالسلطة، وكان لوسائل التواصل الاجتماعي و منجزات التكنولوجيا الحديثة دوراً هاماً في إيصال صوته للعالم واطلاعه على تجارب أقرانه في أماكن مختلفة وفي ذات لحظة الحدث، وهو ما لم تستطع الحكومات الديمقراطية أو الأنظمة الديكتاتورية كبح جماحه والسيطرة عليه.
سرعان ما أدرك النظام العالمي ومؤسساته المتحكمة بوسائل الاتصال والاعلام والاقتصاد الخطر المحدق من شبح الثورات الشعبية، فسارع للإحاطة بها تارةً بالتماهي مع رغباتها وتارةً بضربها في نقاط ضعفها، وكما كان لوسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في تفعيل الحراك الشعبي إلا أنه أصاب هذه الثورات في نقاط ضعفها وذلك من خلال خلقها لدوائر مجتمعية مغلقة فيما بينها تحوم كل دائرة في فلكها الخاص وتنشغل بما يشغلها، خاصة مع غياب حالة التنظيم والقدرة على خلق تجمعات سياسية وغلبة الصفة الفردية على مستخدمي وسائل التواصل والاتصال. وفي نقد ذاتي للثورة السورية ومنابرها كان هناك خلاف كبير بين اللجان الإعلامية للتنسيقيات العاملة على الأرض وبعض المنابر الإعلامية التي تكرست بفعل انعدام الخطر على مشغلي هذه المنابر بالخارج مع أن الكثير من ناشطي الثورة السورية في الداخل كانوا ينشرون الأخبار بأسمائهم الحقيقية متحدين بذلك كل أشكال القمع والإرهاب التي كانت تستخدمه السلطة، ففي الشهور الأولى للثورة حصل صراع كبير بين التنسيقيات والكثير من صفحات الفيس بوك حول تسمية أيام الجمعة إلا أن بعض هذه الصفحات وبمساندة مؤسسات إعلامية عربية وعالمية كانت تستحوذ على جمع أكبر عدد من المتابعين، مما أدى إلى صنع فجوة بين الحراك الشبابي على الأرض وبين منابر الثورة الإعلامية، وبقيت فكرة المواطن الصحفي التي امتهنها جيل واسع من الشباب السوري محاربة من كثير من الكيانات والجهات الساعية للعب دور سلطوي سياسياً وإعلامياً، وفي سياق مختلف كان النظام ومنذ البداية يعي جداً أهمية الإعلام ودوره الفعال في تحشيد الرأي العام العالمي، حيث سارع لعقد مؤتمر حضره وزراء إعلام وشخصيات دبلوماسية لدول الألبا “التحالف البوليفاري “ ومنه انطلق العمل في مؤسسات دولية لإيصال فكرة أن ما يحدث في سوريا ما هو إلا تدخل امبريالي أمريكي في شؤون دولة يسارية علمانية وأن هناك مؤامرة كونية تحاك لهذا البلد الحليف لليسار العالمي، وساعد في تثبيت الصورة في الكثير من المجتمعات هو تبني قنوات إسلامية كثيرة لخطاب الجهاد ورفض الآخر وإذكاء الصراع الطائفي.
نظرة عامة للأحداث ومسارها إعلامياً وسياسياً يوضح حال الاستعصاء القائمة اليوم ما بين أنظمة سلطوية قديمة ومتقادمة، وثورات شعبية لا تزال تحاول أن تبتكر خطها الجديد ورغم كل ما تلقته مسيرتها من ضربات خلال الفترة الماضية، إلا أن مسار الأحداث ما زال ينبئ بالجديد، ذاك أن طاقة متجددة لا تزال تنشط في عمق الأحداث تؤكد على المضامين الديمقراطية والأهداف الأساسية التي انطلق لأجلها الحراك في عديد الدول العربية، فإسقاط أنظمة الاستبداد والفساد، وصياغة نماذج لدول تحترم فيها حقوق الناس الأساسية في العيش بحرية وكرامة لا زالت هي الأهداف الأساسية الي خرجت الثورات لأجلها رغم كل الحواجز التي حالت دون الوصول إليها.
عاصم حمشو