حلم كردستان: فردوس عراقي أم كابوس سوري؟- صبحي حديدي
صالح مسلم، زعيم ‘حزب الاتحاد الديمقراطي’ الكردي PYD، يستطيب نموذج كردستان العراق، لتسويغ وامتداح ما تفعله ميليشيات حزبه ـ التي استقرّت اليوم تحت مسمّى ‘وحدات الحماية الشعبية، أو PYG في الاختصارات الكردية ـ على امتداد المناطق ذات الأغلبية الكردية، الكبيرة أو الساحقة. وهو، في ذلك، يتغنى بما يتنعم به إقليم شرق كردستان من استقلال ذاتي، ورخاء اقتصادي واستثماري، واستقرار أمني وسياسي؛ الأمر الذي يتيح لميليشياته، وفق محاكمته للقياس المقارن مع كرد سورية، أن يفرض بقوّة السلاح نماذج هجينة من الاستقلال الذاتي، والهيمنة العسكرية، تمهيداً لبلوغ الرخاء الاقتصادي، وتحويل مدينة القامشلي إلى نموذج مستنسَخ عن مدينة أربيل!
وميليشيات مسلم تواصل الإمعان في هذه الخيارات، حتى إذا كانت غالبية الإجراءات على الأرض تخلق حالات متزايدة من الاحتكاك المجتمعي السلبي، والعنفي، ليس مع العرب والفئات المسيحية (من السريان والآشوريين وبقايا الأرمن)، فحسب؛ بل كذلك مع شرائح واسعة من الكرد أنفسهم، جماهيراً وأحزاباً. وما جرى مؤخراً في مدينة عامودا، حين فتحت وحدات الـPYG النار على تظاهرة سلمية كردية، فأردت ستة قتلى، وجرحت عشرين آخرين؛ ليس سوى استئناف منطقي لأعمال التنكيل السابقة، التي أكسبت هذه الوحدات صفة ‘شبيحة الكرد’، وهذا كان توصيفاً قدحياً بامتياز، لم يصدر عن أيّ ‘شوفيني عربي’، كما كانت كوادر الـPYD ستسارع إلى القول، بل اجترحها الكرد أنفسهم.
فلنعدْ، مع ذلك، إلى حلم ‘حزب الاتحاد الديمقراطي’ بكردستان غربية، جارة لكردستان العراق، لكي نتبصّر ما إذا كان الحلم جديراً بالتحقق، ليس من زاوية شرعيته، إذْ أنّ صيغة الحكم الذاتي للأكراد ضمن متحد البلدان التي يعيشون فيها، أمر مشروع ومستحبّ؛ بل من حيث الملابسات الذاتية والموضوعية، المحلية والإقليمية والدولية، التي تتيح أو تعيق تحقيق الحلم. ولنتذكّر، قبل الدخول في التفاصيل، أنّ الـPYD، ومثله ‘حزب العمال الكردستاني’ PKK الأمّ، ينظران بعين الريبة إلى مواقف مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لجهة علاقاته الإقليمية، وخاصة مع تركيا، بخصوص مطامح الكرد الأتراك والسوريين تحديداً.
وفي أواخر العام 2010، كانت تصريحات البرزاني، أثناء افتتاح مؤتمر ‘الحزب الديمقراطي الكردستاني’، حول حقّ أكراد العراق في تقرير المصير، قد أثارت الكثير من الأسئلة المشروعة، التي تستبطن سلسلة مخاوف يسهل تفهّم منابعها. ورغم أنّ الرجل أعاد التشديد على ما كان قد نطق به، هو وسواه من قادة الكرد، فإنّ التصريحات بدت وكأنها جديدة مستجدة، وتطوراً نوعياً في مواقف الفصائل الكردية بصدد وحدة العراق، والمشاريع الفدرالية، ومسألة الانفصال تحديداً. آنذاك كان وضع العراق في ظلّ الاحتلال الأمريكي، والتجاذبات المذهبية العنيفة، والخلافات مع الحكومة المركزية حول النفط، وأعمال منظمة ‘القاعدة’ الإرهابية… سلسلة عوامل تتيح تلك الأنساق الشعورية من التخوّف، المزعوم أو الصادق.
والحال أنّ الإقليم كان يعيش، ومنذ سنوات، صيغة متقدمة تماماً من الاستقلال الذاتي، إذا وضع المرء جانباً ما يتمتع به الكرد من امتيازات سياسية وحكومية على الصعيد المركزي (رئاسة الجمهورية، وزارة الخارجية، نيابة البرلمان، رئاسة أركان الجيش…). وأغلب الظنّ، استطراداً، أنّ البرزاني أراد استباق ترتيبات المستقبل، فسعى إلى تثبيت مبدأ ناظم وحقّ مشروع، حين تأتي ساعة المحاصصة في المزيد من النواظم العليا والحقوق الدائمة. بيد أنّ إشكالية المسألة الكردية، في المنطقة عموماً، وفي شمال العراق بصفة خاصة (وهذا ما يرفض أمثال الـPYD التبصّر في، على نحو واقعي وموضوعي)، لا تنبثق من رغبة الكرد في ممارسة حقّ تقرير المصير، بل تشكل واحداً من الملفات الإقليمية الكبرى، حيث تتقاطع شبكة معقدة، متنافرة ومتضاربة، من مصالح الدول والقوى، وذلك لأسباب جيو ـ سياسية متعددة.
أوّل الأسباب أنّ الكرد ليسوا مستعدين للتنازل عن المكاسب التي أنجزوها في ‘كردستان المصغّرة’ هذه، والأرجح أنهم سوف يقاتلون بشراسة ليس دفاعاً عنها فحسب، بل لحيازة المزيد. ولعلّهم، هذه المرّة، لن يقبلوا خيانات أخرى معاصرة، بعد الخيانة الأولى الشهيرة التي وقعت في شباط (فبراير) 1991، حين دعاهم جورج بوش الأب إلى التمرّد على سلطة صدّام حسين، ثمّ تخلى عنهم. وفي الواقع يدرك الكرد أنّ تاريخهم الحديث هو سلسلة من خيانات الغرب لمطامحهم المشروعة في تقرير المصير وتأسيس دولتهم القومية.
ففي عام 1918 نصّت مبادىء الرئيس الأمريكي وودرو ولسون على حقّ تقرير المصير لكلّ الأقليات غير التركية في ظلّ الدولة العثمانية، وفي عام 1920 نصّت اتفاقية سيفر على إقامة دولة كردية، لكن اتفاقية لوزان للعام 1923 ألغت بنود اتفاقية سيفر وتمّ توزيع المناطق التي يعيش فيها الكرد على تركيا وإيران والعراق وسورية والاتحاد السوفييتي. وفي عام 1924 اعترفتبريطانيا بحقّ الكرد في تأسيس دولة مستقلة، دون أن تتخذ أية خطوة عملية في هذا السبيل. وفي عام 1975، وبعد أن توصل العراق إلى تفاهم مع إيران بموجب اتفاقية الجزائر، تخلّت إيران والولايات المتحدة (بناء على نصيحة مباشرة من وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، هنري كيسنجر) عن دعم الكرد. وفي عام 1988 سكتت الولايات المتحدة وبريطانيا عن قصف بلدة حلبجا الكردية بالغازات السامة، بذريعة أنّ المصالح الحيوية الأمريكية تقتضي الحفاظ على استقرار النظام العراقي…
السبب الثاني هو حقيقة أنّ أحلام الكرد في حقّ تقرير المصير وإنشاء دولة مستقلّة هي بمثابة كوابيس كارثية بالنسبة إلى تركيا، الجارة الأطلسية المعنية تماماً بما يجري في شمال العراق على وجه التحديد. والقوى المعنية بالملفّ الكردي لا تستطيع في واقع الأمر تغيير الكثير من معطيات هذا الملفّ، لأنّ الأتراك لن يتخلوا عن الحقّ في توغّل قوّاتهم داخل العمق العراقي ـ الكردي (بذرائع عديدة، على رأسها محاربة ‘حزب العمال الكردستاني’، والحيلولة دون تدفق أمواج الهجرة إلى الأراضي التركية)؛ في حين أنّ الميليشيات المقاتلة الكردية سوف ترفض هذا التوغل التركي، وستعتبره احتلالاً عسكرياً مباشراً، وسوف تقاتل بشراسة لصدّه وإيقافه. وأياً كان موقف حكومة إقليم كردستان من هذا الاستحقاق التركي المفتوح، فإنه سوف يسفر عن خلق جبهة قتال داخلية وخارجية على حدّ سواء، بين الكرد والقوات التركية من جهة؛ وبين الميليشيات والسلطة المركزية من جهة ثانية.
السبب الثالث تختصره كلمة واحدة: كركوك. فهذه المدينة تعتبر ‘أورشليم الكرد’، لأنهم استوطنوها منذ آلاف السنين، ولأنّها احتوت على الكثير من فصول تاريخهم القديم والوسيط والحديث، ولأنها العاصمة الحتمية لأية دولة كردية مستقلة قادمة. والحقّ أنّ الكرد لا يطمعون في احتلال كركوك، الواقعة اليوم تحت السيطرة المركزية العراقية، لأسباب تاريخية ـ ثقافية، فحسب؛ بل لأسباب اقتصادية أيضاً، وأساساً ربما. ذلك لأنّ المنطقة هي أقدم وأغزر مواقع لاستخراج النفط العراقي، ويعلم الجميع اليوم أنّ احتياطيها يبلغ عشرة مليارات برميل على الأقل. وليس مستبعداً، بالتالي، أن ينخرط الكرد أنفسهم في اقتتال داخلي من أجل السيطرة على المدينة وثرواتها النفطية الهائلة، إذْ من المعروف أنّ الوئام الحالي بين الحزبين الرئيسيين، ‘الحزب الديمقراطي الكردستاني’ و’الإتحاد الوطني الكردستاني’، يخفي خلافات حادّة وجوهرية دفعتهما في الماضي إلى مواجهات مسلحة دامية أسفرت عن الكثير من الخسائر البشرية والخراب المادي.
غير أنّ ملفّ كركوك لا ينتهي هنا في الواقع، لأنّ تركيا لا تقلّ عن الكرد طمعاً في ثروات المنطقة، وهي تعتبرها أبرز الخطوط الحمر التي لا تسمح للأكراد بتجاوزها. والأتراك لهم ذرائعهم التاريخية والثقافية التي تجعلهم يبررون أطماعهم في المنطقة، لأنّ كركوك تضمّ أكثر من 350 ألف تركماني، وأنقرة تتحدّث عن مليون، يعودون في أصولهم إلى الأرومة التركية ذاتها، بل ويعتبرون كركوك عاصمتهم التاريخية أيضاً! وفي كلّ حال، إذا كانت تركيا لا توافق أبداً على مبدأ قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق، فإنها بالتأكيد لن تسمح للكيان الكردي الحالي بحيازة أرض تحتوي على ثروات خرافية، تجعل من الكرد قوّة اقتصادية عظمى على صعيد إقليمي.
أمّا في الأسباب الذاتية، أي تلك التي تخصّ سلطات إقليم كردستان ذاتها، فثمة ظواهر مثيرة للقلق أخذت تشير إلى ميول متعاظمة لممارسة الاستبداد والقمع ومصادرة الحريات العامة وقهر الرأي الآخر، على نحو يذكّر المواطنين الكرد بأسوأ ممارسات الأجهزة الأمنية في عهد دكتاتور العراق صدّام حسين. يُضاف إلى هذا ما يتردد على نطاق واسع، وفي أوساط الكرد أنفسهم قبل الآخرين، عن شيوع الفساد داخل مختلف أجهزة الحكم الذاتي، بحماية مباشرة وتشجيع صريح من القيادات السياسية للحزبين الرئيسيين. وغني عن القول إنّ هذه الظواهر تلحق بالشعب الكردي أذى مزدوجاً، في الداخل على صعيد عرقلة تطوير الحكم المحلّي والمساعي الديمقراطية الوليدة، وفي الخارج من حيث إضعاف التجربة أمام أعين العالم.
وقد كان مدهشاً بالفعل أنّ آلاف المواطنين الكرد في بلدة حلبجا، هذه التي حوكم صدّام حسين بتهمة قصفها بالأسلحة الكيماوية سنة 1988، تعرّضوا لتنكيل شديد من السلطات الكردية لمجرّد خروجهم في تظاهرة سلمية احتجاجاً على الفساد وسوء الإدارة وانحطاط الخدمات. وفي ميدان الحرّيات العامة، ولكن في جانب ثقافي وإنساني بالغ الحساسية، ثمة تقارير تتحدث عن مظاهر قمع بعض اللهجات الكردية، لصالح السورانية بوصفها اللهجة الطاغية في كردستان العراق. وقد وجّه عدد كبير من الكتّاب والمثقفين والصحافيين الكرد، بينهم نسبة طاغية من كرد سورية، نداء إلى البرزاني، يحثونه فيه على وضع حدّ لمحاولات إيقاف تعليم وتدريس اللهجة الكرمانجية (التي، مع ذلك، تعتبر لغة غالبية عظمى من الكرد، قد تبلغ 70 بالمئة!).
ورغم هذه الأسباب الموضوعية والذاتية، لعلّ البرزاني أدرك، مثل السواد الأعظم من الساسة الكرد العراقيين، أنّ إقامة دولة كردية مستقلة ليس في صالح الكرد على المدى الراهن، أو القريب المنظور؛ وهي بالتالي فردوس معلّق ينتظر إنضاج المزيد، والكثير، من الشروط المواتية. فهل يدرك رجل، مثل صالح مسلم، أنّ كردستان مصغرة في القامشلي وعامودا والدرباسية ورأس العين، قائمة أوّلاً على ميليشيات حزبية صرفة، وشبيحة تطلق النار على متظاهرين سلميين، في ظلّ انتفاضة شعبية سورية عارمة تنخرط فيها غالبية ساحقة من الكرد… يمكن أن تكون أقلّ من كردستان/ كابوس؟