حمص ……غروزني … ستالينغراد.. أثّر الأسطورة المدن العظيمة لا تسقط – د.خولة الحديد
لم يخطىء الثوار السوريون عندما أطلقوا عليها اسم “عاصمة الثورة ” .. اسم استحوذت عليه بامتياز وبكل طيب خاطر ومحبة تبناه ثوار محافظة “درعا ” مهد الثورة السورية العظيمة “. إنها محافظة حمص ..مدينة وريفاً وبادية .. حمص التي مرّ عليها من الغزاة والطامعون ما لا يعدّ ولا يحصى .. حمص التي احتضنت عبر التاريخ الإنساني الطويل أجمل ممالك ومدن الحضارت القديمة في المنطقة…من تدمر إلى قادش وما بينهما … إنها حمص التي ضربت مثلاً لمدن العالم في تعايش سكانها بانتماءاتهم المختلفة على أرضها عبر التاريخ .حمص المدينة الأكثر ريفية وبداوة وحضارة بين المدن السورية في آن واحد .. حمص التي يأبى أي نظام سياسي يملك أدنى ذرة من الأخلاق والوطنية أن يقصفها ويحاصرها ويدّمرها ،لأنها رمز التعايش والمحبة ..ورمز السوري الفخور بانفتاحه على الآخر المختلف، وبتسامحه وقدرته على تقبل كل الأعراق والأديان والمذاهب … حمص المدينة السورية الأولى التي تكاد تخلو من المتسولين ولا يوجد فيها معاق يتسوّل بفضل جهود أهلها وتكاتفهم مسلمين ومسيحيين .
إنّها حمص .. “أميسا” ..المدينة التي يعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، والتي سجّل فيها التاريخ أول حضور لقبيلة عربية أعطتها اسمها هي قبيلة “أميساني” .. “أميسا” التي انتقلت عبادة إله الشمس منها إلى روما ..والتي أنجبت أول الحكام العرب وآخرهم الذين حكموا “روما” في قمة مجدها …لم تعرف عصابة النظام الحاكمة في سوريا تاريخ حمص هذا….ولا مجد وعظمة أهلها .
منذ بداية الثورة السورية وانطلاقها في قرى وبلدات ومدن محافظة حمص ، كان رهان عصابة النظام على هذه المدينة لإجهاض الثورة، نظراً لحساسية تركيبتها الاجتماعية التي طالما شكّلت فخراً لأهالي المدينة والتي تسمى شعبياً ” أمّ الفقير” ، ولعبت عصابة النظام لعبتها القذرة في ضرب التعايش الاجتماعي الذي عرفته المدينة عبرّ تاريخها الطويل، من خلال التجييش الطائفي – المذهبي واللعب على المشاعرالدينية واستثارة الغرائز، وإجراء عملية فرز بين أحياء المدينة بين موالاة ومعارضة ، وإقامة الحواجز والمتاريس بينها ، وتعّمد خروج عصابات الشبيحة وقصف أحياء المدينة الثائرة من الأحياء التي سميت ” موالية ” ،ولا أحد في الحقيقة يعرف ماذا يدور حتى داخل تلك الأحياء، بسبب سيطرة عصابات النظام بشكل كامل عليها واتخاذها مقرّاً مستقرّاً لها لتواصل أعمالها الوحشية ضدّ سكان المدينة انطلاقاً منها ، مما يزيد الاحتقان بين الناس ويراكم الحقد ويغزي مشاعر الثأر والانتقام ، كون غالبية من ارتكب الجرائم بحق أبناء مناطق المدينة وأحيائها الثائرة هم من الشبيحة المرتزقة ورجال الأمن والجيش الذين ينتمون إلى طائفة بعينها ، هذا بالإضافة إلى عمليات الخطف المتبادل التي تتم بطريقة منهجية من قبل عصابات الشبيحة لتغذية هذا الاحتقان واستثارته لبلوغ ذروته ، في حين يتحدث العديد من الناشطين من أبناء هذه الأحياء عن اختطاف عصابة النظام لهم، ولأحياءهم وأخذهم رهينة، والعمل على زجّهم بكل جرائمه مما حدا الكثيرين منهم إلى هجر هذه الأحياء والعودة إلى القرى التي أتوا منها تاركين أعمالهم وبيوتهم وأرزاقهم ،وذلك تجنباً لأن يكونوا طرفاً في حرب أهلية سيكونوا هم وأبناءهم وقودها بلا شك، وتمت محاولات حثيثة من قبل بعضهم لإلغاء هذه الصورة من مثل إصدار البيانات الموقعة بأسماء الناشطين منهم ومن قبل مشايخهم ،والعمل على تأسيس جماعات مدنية داعمة للثورة كتجمع “نبض” و” شمس” ومشاركة هذه التجمعات في مظاهرات أحياء الخالدية والقصور والبياضة ، رغم التضييق الكبير عليهم، وملاحقتهم المتواترة من قبل أجهزة الأمن ومرتزقتها وحتى أفراد من محيطهم الاجتماعي ، ولا شك أن عصابة النظام نجحت في تخويف هؤلاء من الثوار، وأوحت لهم بأنهم مستهدفون ، وإنّ عمليات انتقامية كبيرة ستتم ضدهم بمجرد تخلي النظام عنهم ، فكان هؤلاء بين مطرقة خوفهم من جماهير الثورة وسندان خوفهم من وحشية النظام وبطشه، وكانوا جميعاً ضحية حمل وزر بعض منهم ممن شاركوا النظام إجرامه وكانوا أداة طيّعة بيده ، وللأسف شاركوا في أفعال النهب والسرقة والتنكيل والقهر .. وهؤلاء لابدّ لمجتمعهم المحلي من أخذ موقف حازم تجاههم، وإلا فإنّهم يجرون البلاد كلها إلى الهاوية.. …ولا يلوم أحد أولياء الدم والكرامة المهدورة ولا يتبجح أحد حينما يحين وقت القصاص بطرح قضايا “الطائفية” و”الوحدة الوطنية ” .. من يهمه كل ما يجري عليه أن يبادر الآن في هذه اللحظة إلى العمل على إيقافه ، وتدارك أثر ومفاعيل كل ما سبق .
لا يمكن لأحد أن ينكر نجاح عصابة النظام في خلق ردّات فعل ذات طبيعة طائفية ، وبالرغم من كل الخطط الممنهجة والجهود الحثيثة التي بذلتها العصابة الحاكمة في هذا المجال ، فإنّ ذلك بقي في إطار فردي غير ممنهج وغير مخطط ولا يمكن اعتباره ” حرب أهلية” كغيرها من أشكال هذه الحرب ، وهنا يسقط رهان النظام ويكسب الثوار الرهان ..وسيحافظون على هذا المكسب إذا ما استطاعوا ضبط الحالات الفردية والعمل على عدم تعميمها، ومحاولة تطويقها ، مع التأكيد على المحاسبة في كل لحظة ، فلا مهرب لكل من شارك ودعم إجرام النظام مهما كان انتماؤه العرقي والمذهبي .
عندما فشل النظام وعصاباته في جعل الثورة تسقط في مستنقع الحرب الأهلية ، بادر إلى حصار الأحياء والبلدات الثائرة في المدينة ، وارتكب المجازر التي هدف منها إلى خلق حالة من الرعب والرهبة تؤدي إلى انكفاء الثورة .. ولا يمكن حصر مجازر النظام وحصاره فيما جرى في حي “باباعمرو” فقط ..بالرغم من فظاعته ، لأنّ حصار الحي وصموده لمدة شهر معزولاً عن العالم ويفتقد أبسط مقومات الحياة ، لم يكن إلا صورة عما جرى من قبل في عدة مناطق تحيط بالمدينة : الرستن وتلبيسة والحولة والقصير وتلكلخ ..وغيرها، والعديد من أحياء المدينة نفسها ..كحي الإنشاءات والخالدية وكرم الزيتون ، والحميدية ، وما الفظائع التي ارتكبت في هذه الأحياء والتفنن بطرق القتل لعائلات كاملة أطفالاً ونساءً وشيوخاً من ذبح وطعن ..وغيرها من أساليب لا تمت للإنسانية بصلة إلا تشريعاً للقتل بأي طريقة ، ودعوة للطرف الآخر لأن يمّارسه ؟؟ وكأنهم يقولون إن كان ليس لديكم سلاح ودبابات ..عليكم بالسكاكين ؟؟ …….. ومع ذلك كله بقيت المدينة صامدة ..وسقط رهان النظام الذي كان ينتظر سقوط “محافظة حمص” .. حمص لم تسقط ..ولن تسقط .لأنّها مدينة عظيمة ، والمدن العظيمة لا تسقط … وحدهم الطغاة يسقطون ..
شبّه البعض مدينة حمص ب “ستالينغراد” التي صمدت منذ شهر آب اغسطس وحتى فبراير/شباط عام 1943 أمام ضربات الجيش النازي … لكن ستالينغراد كانت تحت حماية الجيش السادس “السوفياتي” بكل قوته وعتاده ، و القناصين الروس كانوا داخل المدينة يعدّون العدّة للألمان ونجحوا في إلحاق ضرراً كبيراً بهم، وقد خلّد القناص السوفيتي “فاسيلي زايتسيف“ والذي تحول إلى أسطورة نتيجة العدد الكبيرمن الجنود الألمان الذين استطاع قنصهم خلال معركة ستالينغراد, وتحول من مجرد قناص عادي إلى أسطورة ورمز لنضال الجنود السوفييت من أجل تحرير ستالينغراد، وقد قلّده ستالين أعلى وساماً عسكرياً، كما أنّ سلاحه لايزال في متحف ستالينغراد الحربى كتكريم أزلى له، ويبدو إنّ خبرة الروس الكبيرة في هذا المجال هي التي تعمل في المدن والساحات السورية ، لكن أهدافها ليسوا الجنود النازيين وإنّما رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ العزل، ورغم عظمة سالينغراد فإنّ مأساة أهالي مدينة حمص تجبّ مأساة ستاليغراد كون جميع من تعرضوا للقصف والحصار فيها هم من المدنيين العزل ، وحتى الذين صمدوا على مدار شهر كامل في أحد أحيائها “باباعمرو” لم يكن بينهم من يدافع عنهم إلا عدد من جنود الجيش الحر بأسلحتهم الخفيفة بما لا يقارن مع الهجوم البربري لجنود الأسد وأسلحتهم الثقيلة ، ورمزالصمود فيها لم يكن قناصاً ، إنما كان طالباً جامعياً اسمه خالد أبو صلاح بصدره العاري و شهاداته الإعلامية التي توثق لجرائم يندى لها جبين الإنسانية يوازيه صمود أسطوري لأهالي الحي والمدينة عموماً .
حمص لم تسقط ..ولن تسقط …لأنّ المدن العظيمة لا تسقط ..وحدهم الطغاة يفعلون، والروس أكثّر من يعرف هذه الحقيقة ، الروس الذين دمروا “غروزني” بالعمليات القتالية الوحشية في تسعينات القرن الماضي وأكثر من مرة خلال عقد ،إذ دخلتها القوات الروسية، و سيطرت عليها مرتين في عامي 1994 و1999، ارتكبت خلالها أبشع المجازر بحق أهلها ، ..”غروزني” التي أدى “ميخائيل ليرمونتوف” و”ليف تولستوي” فيها الخدمة العسكرية وكتبا روائع أدبّهما تحت تأثير الأصالة القوقازية التي تتمتع بها ، سقط الروس ولم تسقط “غروزني” فها هي المدينة التي كانت بالأمس القريب عبارة عن كتلة من الدمار والمباني المتهدمة ، وبؤرة مآسي إنسانية وحكايات رعب وتطهير ديني عشعشت في الذاكرة ،تبدو اليوم في قمة الجمال والحداثة ، وقد أمست واحدة من أجمل المدن الأوروبية، تتباهى أبنيتها بلونها الأزرق المميز الذي يدعو إلى حياة أفضل ومستقبل مضيء.، وتمّ إنجاز بناء المسجد الجامع “قلب الشيشان ،و الأكبر في أوروبا، الذي يتسع لعشرة آلاف شخص، خلال عامين فقط، وإلى جانبه أقيمت الجامعة إلإسلامية ودار الإفتاء، غرست في شوارعها آلاف الأشجار ، وزيّن شارع النصر فيها بخضرة لا تزول .
“غروزني” لم تسقط ..سقط الروس ، وحمص لن تسقط وسيسقط الأسد وعصاباته ، وستبقى حمص شاهدة على إجرامهم ، وكل من دخلها من الأجانب ومنهمالجرّاح الفرنسي جاك بيريه أحد مؤسسي أطباء بلا حدود الذي قال :” إنّ الأوضاع في حمص تستدعي إلى ذاكرتي مأساة غروزني عاصمة جمهورية الشيشان الروسية عندما قصفتها القوات الروسية في ذروة حرب الشيشان الثانية في نهاية التسعينات، مساحة المدينتين متماثلة وهناك مزيج من الحضر والريف وعدد قليل جداً من الأقبية… وهناك شدة القمع التي لا هوادة فيه.”.. لبيريه نقول إن مقارنتك حمص بغروزني لم تخطىء ..و حمص ستعود كما غروزني ..ستعود لتعمّر ما تهدم من أبنيتها ومساجدها ولتزين مآذن جوامعها وأجراس كنائسها ، وستعود الخضرة إلى باباعمرو .. وكل أحياء المدينة ..ولكل شهيد سنزرع شجرة وآلاف الزهور .. لتعود أميسا ..حمص البهية …بكل عظمة تاريخها ومجد حاضرها .. وسيذهب الأسد وأزلامه وعصاباته إلى مكان قصي في ذاكرة التاريخ هو سجل القتل والإجرام وخونة الأوطان فقد حجزوا مكانهم فيه بجدارة … المجد لحمص الصامدة وأهلها الصامدين …المجد والعزة لسوريا العظيمة ولأبنائها البررة … والرحمة والخلود لشهداء الثورة السورية ..
كاتبة سورية
AlHadara – MARCH 23, 2012
http://www.alhadarah.com/articles/حمص-غروزني-ستالينغراد-أثّر-الأسطور/