حوار مع زكريا تامر وقصص من مهمازه -زياد ماجد
أتمنى قبل رحيلي أن أقعد في مقهى دمشقي وأشتُم بصوت عالٍ كل المسؤولين السوريين
من دون أن أشعر بالخوف أو أخشى الاعتقال
ولد زكريا تامر في دمشق عام 1931، وعاش في حاراتها الشعبية حيث عمل منذ سن مبكّرة في الحدادة وفي مهن يدويّة عرّفته مسالكها بمجتمعه وبالناس من حوله وظروفهم وعقليّاتهم المختلفة.
في العام 1957، قرّر الانخراط في عالم الكتابة، واختار القصّة القصيرة مذهباً أدبياً له.
وابتداءً من العام 1960 ولغاية العام 1978، ثم بين العامين 1994 و2005، صدرت لتامر عدّة مجموعات قصصية منها « صهيل الجواد الأبيض » و »ربيع في الرماد » و »الرعد » و »دمشق الحرائق »، و »النمور في اليوم العاشر » و »نداء نوح » و »سنضحك » و »الحصرم » و »تكسير ركب » و »القنفذ ». كما صدرت له أعمال قصصية للأطفال، أبرزها « لماذا سكت النهر » و »قالت الوردة للسنونو ».
عالجت معظم قصص تامر قضايا اجتماعية وسياسية (وإنسانية) ذات صلة بالواقعين السوري والعربي بأسلوب سرديّ أخّاذ ولغة ساخرة ومخيّلة مدهشة في مخزونها، وبغير تقليد. ولعل وصف الشاعر محمد الماغوط له يختصر جانباً من جوانب سيرته المستمرة، إذ يقول عنه: « بدأ زكريا تامر حياته حداداً شرساً في معمل، وعندما انطلق من حي البحصة في دمشق بلفافته وسعاله المعهودين ليصبح كاتباً، لم يتخلّ عن مهنته الأصلية، بل بقي حداداً وشرساً ولكن في وطن من الفخار، لم يترك فيه شيئاً قائماً إلا وحطّمه، ولم يقف في وجهه شيء سوى القبور والسجون لأنها بحماية جيدة! »….
في شهر كانون الثاني الماضي، قرّر زكريا تامر، المقيم في أوكسفورد في بريطانيا منذ العام 1981، خوض غمار « الفايسبوك »، فأنشأ صفحة « المهماز » وراح ينشر عليها يومياً نصوصاً تستكمل مسيرته الأدبية (بأبعادها السياسية والثقافية)، مواكباً الثورة السورية بأسلوبه البديع.
النص التالي هو حوار معه يصدر بالفرنسية في ملحق « لوريان الأدبي » (L’Orient Littéraire)، تليه ستّة نصوص منتقاة من « المهماز »، إضافة الى قصة « النمور في اليوم العاشر ».
زياد ماجد
———-
ز.م.: عبّرت كتاباتك، قصصك القصيرة، بأسلوبها الأدبي ولغتها والبعد الرمزي فيها عن مواقف واضحة من قضايا الحرية والعدالة والمساواة والسلطة والتسلّط، من دون وعظ أو « حِكم » مباشرة. ولعلّك تعرف أن قصة « النمور في اليوم العاشر » أضحت، إضافة الى كونها مادة دراسية في الكثير من المقرّرات التعليمية في المدارس في أكثر من بلد، عنواناً للبحث في مسائل القمع والترويض والمواطنة ومسألة التطبيع مع الاستكانة و »العادة ». كيف وازنت في عملك بين المستوى الفني وبين الالتزام الانساني؟ ولماذا اخترت هذا المذهب الأدبي؟
زكريا تامر : من يرغب في ابتكار أي جديد في مجال العلم، ينبغي له أن يطلع على كل ما أنجزه العلماء من ابتكارات حتى يتمكن من إضافة ما هو جديد إذا كان من الخلاقين المبدعين.
وأزعم أني قبل أن أحاول الكتابة قد قرأت معظم ما تشتمل عليه المكتبة العربية من كتب مؤلفة أو مترجمة، ولم أقرأ الكتب الأدبية فقط بل قرأت كتباً متنوعة الموضوعات.. سياسية وفكرية واقتصادية وعسكرية وحتى الكتب ذات الموضوعات المتعلقة بالزراعة وشؤونها لم أهملها وحظيت بقدر كبير من اهتمامي، ولكن قراءاتي كانت قراءة من يمتلك معدة سليمة قادرة على هضم كل ما يفد إليها من طعام وتحويله إلى مادة تقوي الجسم وتنميه، وكان ما قرأته هو الأرض الصخرية التي انطلقت منها كي أكتب على الورق رؤيتي للإنسان والحياة محاولاً التعبير عن صوتي الخاص لا أن أكون صدى لأصوات الآخرين معتقداً أن الأديب حين يكون مجرد صدى، يفقد مسوغ وجوده كأديب، ويصبح استمراره في الكتابة نوعاً من جرأة غير مستحسنة لا تخلو من وقاحة وغباوة.
وعندما بدأت كتابة القصص لم أحاول التقليد أو الخضوع لأساليب سائدة.. كتبت ما أطمح إلى قوله مؤمناً بأن ما يُظن بأنه غير واقعي هو الواقعي بحق، وكنت حين أكتب قصة ما، أتمتع بحرية أفتقدها في عالم الحياة اليومية، فتحاول قصصي ألا تعترف بأية حدود بين مختلف العوالم، فلا حدود بين الموت والحياة والوهم والتخيل والحلم والخيال والواقع الشديد القسوة، وهذا الإلغاء لتلك الحدود هو في رأيي من أهم ما حققته في قصصي لأنه الأصدق في تصوير الأعماق الخفية لتلك المخلوقات البشرية التي تعيش على سطح الأرض العربية.
ز.م. : إكتشفنا بفرح منذ ستة أشهر، صفحة على الفايسبوك عنوانها « المهماز »، مخصّصة لكتاباتك المواكِبة للثورة السورية ولربيع الحرية السوري. لماذا الفايسبوك؟ وكيف ترى تجربتك في هذا العالم الافتراضي-الواقعي حيث تتفاعل مباشرة مع القرّاء-الأصدقاء ومع الأحداث والصور، وحيث تصلك التعليقات و »اللايكات » وتردّ عليها أحياناً؟
زكريا تامر : ما إن بدأ الكومبيوتر في الانتشار عربياً حتى بادرت إلى استخدامه، ولكن استخدامي له كان محدوداً، واقتصر على الكتابة وقراءة الجرائد والمجلات والبحث عن معلومات والإطلاع على الجديد من الأخبار، ولم أقترب من المدونات أو الفايسبوك أو تويتر بل نفرت منها بسبب الاستخدام العربي لها إذ حولها إلى تبادل للهراء والتمادي في التفاهة الصلفة.
وعندما خرج السوريون إلى الشوارع مطالبين بالحرية والتغيير لم تكن لي آنذاك أية صلة بأي وسيلة إعلامية، ولم تتصل بي جريدة أو مجلة أو إذاعة أو محطة تلفزيونية لمعرفة رأيي وموقفي مما يحدث، وتجاهلني مدمنو العرائض، ولم تعرض علي أية عريضة حتى أني اقتنعت أن ثمة تنفيذاً دقيقاً لمخطط مدروس غايته إلصاق أشخاص معينين بالثورة السورية، وليست غايته التعريف بمواقف الشخصيات السورية الأساسية في مجالات الثقافة والأدب والفن والسياسة.
باختصار وجدت نفسي محروماً من كل فرصة للتعبير عن موقفي المؤيد للثورة السورية، وهو موقف بديهي بالنسبة إلي وامتداد لما كتبته طوال خمسين سنة، فلم أجد مهرباً من اللجوء إلى الفايسبوك، وتلاءمت معه بسرعة إلا أني لم أستخدمه للحوار والنقاش بل استخدمته كوسيلة لنشر ما أكتبه من نصوص سواء أكان قصيراً أم طويلاً كأني أتعامل مع جريدة أو مجلة، وأشعر الآن في صباح كل يوم بأني أصدر جريدتي اليومية الصغيرة التي أنشر فيها ما أشاء من دون رقابة أي رقيب، ومن دون أن تستغلني أية جهة من الجهات.
ويجب الإعتراف بأن الفايسبوك قد نجح في مباغتتي، فقد جعلني أحياناً أشعر أنه أرض ليست أرضي، وأني شيخ وقور ذو عمامة ولحية مدعو إلى سهرة صاخبة ماجنة ملأى بالسكارى ومدمني المخدرات، فثمة صفحات مغرقة في تفاهتها وسوقيتها وابتذالها وتحظى بالرواج الهائل والمعجبين، ولكن ثمة صفحات أخرى جادة جديرة بالاحترام والتقدير تعبر عن الوجه الجميل الوضاء للإنسان العربي.
الفايسبوك عرفني إلى أصدقاء جدد رائعين أعتز بهم، ويساعدني حالياً على معرفة الناس وآرائهم ومشاعرهم، وتلك المعرفة لا غنى عنها لأي كاتب، وهي الزاد والوقود. أما التعليقات حول ما أكتبه، فلا يزال معظمها متسرعاً يجلب إلي الإحساس بأني في مستشفى مجانين حقيقي، فمن السهل القول لك إنك عبقري زمانك، ومن السهل أيضاً القول لك إنك خائن بعت نفسك لقاء حفنة من الدولارات.
وثمة أمر يفرحني هو أن غالبية أصدقائي في صفحة « المهماز » هم من الشبان.
ز.م. : ما الذي تثيره الثورة السورية فيك؟ هل هي مبعث للدهشة؟ وهل تغيّر علاقتك بسوريا وبناسِها؟
زكريا تامر : جوابي عن هذا السؤال قد يبدو متناقضاً، فالثورة السورية أدهشتني، ولكنها في الوقت نفسه لم تدهشني البتة، وهذا التناقض يرجع سببه إلى أني مؤمن بأنه لا وجود لمواطن سوري يؤيد هذه السلطة الغاشمة، ولكن كل مواطن سوري هو شخصان، شخص خفي يكره النظام المهيمن الكره الأعمى ويزدريه ويتمنى زواله السريع، وشخص آخر علني يؤيد النظام الحاكم ويمدحه ويطيع كل توجيهاته، وقد نجحت الثورة في توحيد هذين الشخصين في شخص واحد شديد الصلابة، متأهب للموت في سبيل ما يؤمن به، ولا مطلب له إلا الحرية والخلاص من الاستبداد.
ومن المؤكد أن علاقتي بسوريا سيطرأ عليها بعض التبدل غير المرئي بعد أن أثبت الشعب السوري بتضحياته أنه شعب خارق لا يلام المبدع إذا تفاخر بانتمائه إليه.
ز.م.: قلتَ لي منذ مدّة إن النمور تبقى نموراً. هل تظنّ أن يوماً حادي عشر يمكن أن يُضاف (اليوم) الى أيام النمور العشرة؟
زكريا تامر : يخيل إلي أن إضافة أي يوم جديد إلى الأيام العشرة هو إضعاف للقصة وشرح لها يسيء إليها فنياً، فما سيقال في اليوم الحادي عشر قد قيل في الأيام العشرة حين اختير النمر بطلاً للقصة، والنمر في عالم السيرك هو المفترس الذي لا يروض، وكل نجاح في ترويضه هو نجاح مؤقت.
ز.م. : هل ترغب بالعودة للعيش في دمشق إن سقط الاستبداد؟ وهل تخشى صعود تيارات الإسلام السياسي؟
زكريا تامر : السبب الظاهري لتركي دمشق هو منعي من النشر في داخل سوريا وخارجها، ولكن السبب الأعمق والأساسي هو أن معركة دامية نشبت قرب بيتي بين رجال المخابرات وعضو مطلوب من الإخوان المسلمين، وعندما نفدت ذخيرته، أقدم على تفجير جسده بقنبلتين يدويتين، وظلت أشلاؤه أكثر من ساعتين مرمية على أرض الشارع، ورأيت أطفالاً يلعبون بقطع اللحم الممزق ويتقاذفونها بأقدامهم، عندها شعرت أني أعيش في عالم أعجز عن فهمه، ولا صلة لي به، وأفضل ما أفعله هو الفرار منه. وهذا ما أقدمت عليه غير آسف أو نادم.
ليس مهماً أن أبقى في أكسفورد أو أعود إلى دمشق. ما هو مهم هو أن تتحرر سوريا من هذا النظام الوحشي الذي شوه المخلوقات البشرية وأفسدها فساداً لا نظير له.
أما التيارات الإسلامية، فلا أخشى صعودها ما دام الناس قد اختاروها، فإذا أخطأوا في الاختيار، فهم الذين سيدفعون ثمن خطئهم.
ز.م. : ما الذي تتمنّاه في المقبل من الأيام؟
زكريا تامر : كنت دائماً رجلاً يعيش بغير أمنيات، ويكتفي بأن يعيش اليوم تلو اليوم من دون تخطيط، ولكني اليوم وأنا في الحادي والثمانين من العمر أتمنى أن يتاح لسوريا أن تتحرر من الاستبداد والرعب اللذين تحكما بها طوال خمسين سنة.. أتمنى قبل رحيلي أن أقعد في مقهى دمشقي وأشتُم بصوت عالٍ كل المسؤولين السوريين مسؤولاً مسؤولاً من دون أن أشعر بالخوف أو أخشى الاعتقال.