حوار مع ياسين الحاج صالح الثورة السورية دفاع عن الحياة قبل الخبز والحرّية

Article  •  Publié sur Souria Houria le 6 octobre 2013

حاوره دارا عبدالله

إشكاليَّة خطابه وجديَّته ودقَّته، هي التي دفعتني لإثارة هذا النقاش مع الكاتب السوري ياسين الحاج صالح. المثير في خطاب ياسين بالضبط، هو تناوله لكلّ القضايا الشائكة والصّعبة في الشّأن السوري بجرأةٍ حادَّة، بعيدة تماماً عن كليشيَّهيات « الحياء الوطني » و »التعفُّف المعرفي »، ياسين يحاول كَسر حواجز التقيَّة الدلاليَّة التي انتشرت بكثرةٍ في الخطاب السياسي والفكري السوري، تلك التقيَّة التي شكَّلت فُصاماً بين الشفوي المنطوق في السر والمكتوب المُقرُّ بهِ في العلن. بمعنى آخر، ياسين يكتب تماماً ما يفكّر به تماماً، لا نقاشات خاصَّة ولا كلام لا يُقال

(دارا عبدالله ـ ألمانيا)
[ برأيك ما هي الأسباب الرئيسيَّة وراءَ انطِلاق الثورات في العالم العربي بشكلٍ عام والثّورة السوريَّة بشكلٍ خاص، هل هي طبقيَّة اقتصاديَّة، أم سياسيَّة حقوقيَّة؟ بمعنىً آخر، هل هذه الثورات هي ثورات خُبز أم ثورات حريَّة؟
ـ إذا فرقنا بين وعي الفاعلين والمشاركين في الثورة، عند انطلاقها بخاصة، وبين ما يحتمل أن يكون بحثا مُترويا فيها، نحصل على صورتين مختلفتين. من وجهة نظر المشاركين تظهر أكثر أسباب مباشرة، تحيل إلى ما هو سياسي وحقوقي، لكن ربما تظهر أمام نظر ة متروية محركات اجتماعية أكثر خفاء وأطول أمدا. في بداية الثورة السورية كان يجري الكلام أكثر على اعتقال أطفال درعا ومعاملة ذويهم، وعلى الاعتقال السياسي عموما، وانتهاكات حقوق الإنسان، وعلى حالة الطوارئ والمحاكم الاستثنائية، وعلى المهانة التي يعانيها السوريون من قبل أجهزة الأمن وعلى حكم الحزب الواحد….إلخ. في وقت لاحق، تطورت مقاربات أكثر تعقيدا، تنظر في التحول نحو اقتصاد السوق، في تهميش الأرياف وضواحي المدن وأحيائها الطرفية، في تكوّن طبقة جديدة ملتحمة بالسلطة وفاحشة الثراء، وفي كون النظام السياسي ووحشيته حاضنة لضرب من التراكم الأولي لا يختلف في شيء عن الاستعمار

وعدا أن هذا بدوره ليس الكلمة الأخيرة في شرح الثورة، لسنا في سوريا حيال مجتمع متشكِّل، تتمايز فيه منازل السياسة والحق والإيديولوجية والاقتصاد. نظام الاستثناء البعثي والأسدي كان الإطار الذي تشكلت فيه الطبقة الجديدة، التي لذلك بالذات لا تملك أي كمون ديموقراطي، بل التي عرضت كمونا فاشيا كبيرا أثناء الثورة. الحرمان من الحرية يجعلك عاجزاً عن الاحتجاج حين يخلو بيتك من الخبز، وغير قادر على الإضراب أو التعاون مع أشباهك في عمل عام. فهل يكون الحرمان من الحرية مسألة حرية فحسب؟
وحين تُقصف طوابير الواقفين أمام أفران الخبز بالطائرات، هل ذلك قمعٌ للحرية، أم هو حرمان من الخبز؟ أليس تدميراً للحياة، بالأحرى؟
وحين يجري تجويع المعتقلين الذين يتعرضون لتعذيب وحشي في مقرات الأمن الفاشية، ويموت بعضهم من الجوع والمرض، هل هذا حرمان من الحرية أم تجويع من الخبز؟
أليس بالأحرى تدميراً للحياة، تدميراً الشروط الحياة البشرية ولإمكانية أن تكون سورية بلداً يعيش الناس فيه معاً؟
وما يتعيّن استخلاصه أن الثورة دفاع عن الحياة، قبل أن تكون طلبا للحرية أو للخبز

وبعد أكثر من عامين ونصف يبدو لي أننا حيال عملية إعادة تشكل تاريخية واسعة، تطال الدولة (كياناً ومؤسسة حكم) والدين والمجتمع والسكان، وتفيض كثيرا على الثنائية المُضمّنة في السؤال

[ في ورقةٍ طويلةٍ لك بعنوان « صُعود العدميَّة المقاتلة في سوريا »، مُستوى التحليل فيها فكري ويدورُ في حقل الثقافة والمجتمع، تقول: « التيَّارات العدميَّة لها قابليَّة اختراق مميَّزة من قبل أجهزة الاستخبارات »، وهذا الكلام أتّفق معك به تماماً، وينطبق على الكثير من العدميَّات المقاتلة التي ذكرتَ بعضها في الورقة المنشورة. وفي مقال آخر لكَ نُشر في « موقع الجمهورية للدراسات » بعنوان « في شأن جبهة النصرة والسياسة الملائمة تجاهها »، مستوى التحليل فيها سياسي مباشر، تقولُ فيها: »الصراع مع النظام أساسي ووجودي، ومع النصرة ثانوي، ويعالج بالسياسة »، وترى هذا الخيار « متوافقاً مع الثورة »، السؤال يكمن عن التناقض بين رؤية فكريَّة ترى في التيارات العدميَّة مداخل لأجهزة المخابرات، ورؤية سياسيَّة ترى الصراع مع تيار عدمي كجبهة النصرة يُفترَض أن يكون مُخترقاً من أجهزة الاستخبارات حسب الرؤية الأولى، « أمر ثانوي ويعالج بالسياسة »، وكيف نقول لا سياسة مع النظام ونقبل السياسة مع أدواته؟
ـ دعني أوضح السياق المخصوص للمادة الثانية، في شأن جبهة النصرة…، وهي مكتوبة ومنشورة في الشهر الأول من هذا العام. كانت المقالة تعترض على شيئين. أولاً على دعوات إلى التوافق مع الأميركيين في شأن اعتبار جبهة النصرة تنظيماً إرهابياً ومواجهته، ومعلوم أن ممثلين « للائتلاف الوطني » وجدوا حينها أنهم غير قادرين على تحمل تبعات الموقف الأميركي واعترضوا عليه. وأعتقد أنهم كانوا على حق. الشيء الثاني هو الاعتراض على فتح معركة جانبية مع جبهة النصرة، بينما تخوض الثورة معركة صعبة مع النظام، وبينما النصرة لا تفتح جبهة ضد أحد في الثورة. قلت في المقالة: « حين تختلف الظروف، كأن يسقط النظام أو تنقلب النصرة إلى مواجهة مجموعات المقاومة المسلحة الأخرى، يتغير التقييم والموقف »

يتعلق الأمر في كل حال بتحديد أولويات، مما لا يستغني عنه أي تفكير سياسي، وليس بانحيازات فكرية أو عقدية. أفترض أن الأمر لا يحتاج إلى توضيح، وأن قراءة المقالة نفسها أفضل من السماع عنها. هذا عنوان الموقع
http://therepublicgs.net/
وكي أزيد الأمر سوءاً، أعترف بأنني بعد أكثر من ثمانية شهور على نشر المقالة، لا أزال على موقفي الأول: لا لتبني الموقف الأميركي من النصرة، ولا لفتح جبهة صراع معها، طالما كان هذا ممكناً. كنت ذكرت في المادة نفسها أنه يستحيل على المقاتلين على جبهات المواجهة أن يمتنعوا عن التعاون مع النصرة، دع عنك أن يواجهوها، وأنّ من شأن قبول الموقف الأميركي توريد صراع إلى قلب القوى التي تقاتل النظام، وهو ما يناسب النظام وحده. ومن معاينة الواقع على الأرض في غير منطقة، بعد كتابة المقالة بشهور، يبدو لي هذا صحيحا تماماً.
وأرى أنك تقوم بقفزة استدلالية غير وجيهة حين تستخلص من مبدأ قابلية المنظمات العدمية للاختراق المخابراتي، وهو ما قلتُه في « صعود العدمية المقاتلة… »، إلى أن « المنظمة العدمية » التي هي « جبهة النصرة » مخترقة مخابراتياً، وهي تالياً أداة للنظام السوري. القابلية لشيء لا تعني وقوعه حتماً، وحتى وقوع اختراق لا يعني أن الجهة المخترَقة أداة للجهة المخترِقة

وأجد مضيئا جداً التساؤل عن كيف نقول لا للسياسة مع النظام، ونعم مع أدواته
ترى متى فُتح باب السياسة؟ هل فتح النظام في أي يوم باب التفاوض مع محكوميه؟ بحدود ما أعلم أنه هو من بادر بالحرب، وهو المستمر فيها، وهو الذي لم يتوقف عن القتل منذ أكثر من 900 يوم، وهو الذي لم يظهر أدنى استعداد للتنازل عن 2% من سلطته لأي كان؛ هو نفسه الذي كان سياسيّا جداً مع كل من هم أقوى منه

ومن باب تقليب الأمر على وجوهٍ قد تظهر بعض المضمرات، من المشروع التساؤل: كيف يرْفض السياسة مع التابع، النصرة، من يريدونها مع السيّد، النظام؟
بالمناسبة، ما جرى اقتباسه في السؤال، عن أن الصراع مع النصرة ثانوي ويعالج بالسياسة، والصراع مع النظام وجودي، لم يأت بالصورة التقريرية الواردة في السؤال، بل في صورة عرض لاحتمالات ثلاثة، كي نتبيَّن أيّها الأكثر ملاءمة

ووقت كتابة المقالة، لم تكن في بالي تطورات وقعت لاحقاً، وبخاصة ظهور « الدولة الإسلامية في العراق والشام » (داعش)، والتمايز الحادث بينها وبين النصرة، بخاصة من حيث أن أكثر « المهاجرين » تحولوا إلى « داعش »، بينما تعرض النصرة وجها سورياً أكثر. أفترض أن أي طرف سياسي سوري سيأخذ علما بهذا التمايز، ويُفترَض أن لا يخص قوتين غير متماثلتين بالسياسة نفسها

لكن يبدو أن هذا التساؤل يندرج ضمن صنف من الخطابات الدارجة في سوريا، اليوم والأمس، تتعامل مع الآراء والتقديرات المرتبطة بسياقات زمنية وسياسية محددة كأنها عقائد ثابتة وغير زمنية، ووفقا لمنطق ثنائي القيمة، بحيث تكون أي ظاهرة تاريخية، جبهة النصرة في سياقنا، إما « دح » أو « كخ »، وإذا لم تشتمها وتردح ضدها، فأنت إذن معها أو محاب لها. هذا مسلك « طائفي »، يفيد في بناء مُعسكر أو عصبة ضد معكسر أو عصبة، وليس في فهم أو شرح أي شيء. نتكلّم من مواقع وأوضاع محددة، وفي إطار سياسي وتاريخي متغير وكثيف التغيرات، وما نقوله اليوم قد نقول ما يغايره بعد حين، أو ما يناقضه. هذا طبيعي. ولا أعِدُ شخصياً بغير المثابرة عليه

[ تنتشرُ في تحليلات بعض النقّاد بأنَّ الإسلام السوري هو إسلام وسطي ومُعتدل، وبأنَّ « تنظيم القاعدة » هو جسم غريبٌ طُبق من فوق على المجتمع السوري، برأيك إلى حد هذه المقولة دقيقة مع العلم أن كثيراً من المقاتلين الجهاديين في العراق كانوا سوريين، وهل المجتمع السوري لديه آليات ذاتية خاصة به تقاوم تطرف « تنظيم القاعدة »؟
ـ على افتراض أن تدينه أصلاً وسطي ومعتدل، لا يبقى المجتمع السوري بالمزاج نفسه مهما تكن الأحوال والأهوال التي يواجهها. تعرضت قطاعات واسعة من المجتمع السوري، بيئات سنية أكثر من غيرها، لاقتلاع عنيف، ونُزِعت إنسانية ما لا يعد من الناس. لديك نحو ثلث السكان اضطروا لهجر مواطنهم، ومليونين خارج البلد، ومئات الألوف اعتقلوا وعذبوا بحقد، ودمّرت بيئات الحياة في عشرات المناطق خارج البلد، ولم تحمِ السوريين المنكشفين لا رابطة وطنية محليّة ولا قواعد وقوى دولية

لا تستطيع أن تنزع إنسانية الناس، ثم تتوقّع ألا تخرج من دواخلهم وحوش وأشباح متنوعة، أن يبقوا أناساً رائقين مبتسمين، لا يحرّكون ساكناً قبل التفكير بآثاره على… « الوحدة الوطنية ».
توفرت بيئة أنسب لمنظّمة القاعدة في بلدان تعرضت للتحطيم، أفغانستان تحت الاحتلال السوفييتي، والعراق تحت الاحتلال الأميركي، وسوريا تحت الاحتلال الأسدي. هذا ينتج عدداً كبيراً من الناس الغاضبين الذين لديهم شعور شديد بالظلم، ويرون العدالة في صفهم لأنهم مظلومون. وهم أيضا أناس لا يثقون بأحد، لا بالمعارضة ولا بالغرب ولا بالمؤسَّسات الدوليَّة، وأعتقد أن لديهم كل الحق في ذلك. في الوقت نفسه جرى تحطيم أية قوى تحرُّرية على يد المحتلين أو الطغيان، فلم تبق إلا النبتات الصحرواية التي تستطيع العيش مهما تكن ظروف البيئة قاسية بفعل اعتيادها قسوة البيئة وعمق جذورها. في المقام الثالث لدينا فكر ديني إسلامي، تطبيقي وتشريعي وأوامري، مسكون بخيال الامبراطورية التي تشكلت أصوله في ظلها. ثم هناك خميرة قريبة نشطة، تتمثل في القاعدة في العراق، وكان للنظام الأسدي « أياد بيضاء » في تنميتها وتوفير سبل الحياة والاستمرار لها

توفرت في الثورة السورية فرص كبيرة ولوقت كافٍ لتلاقي الشروط الأساسية الأربعة: الوحشية ونزع إنسانية ملايين + اللاثقة الجذرية + الفكر الأصولي المتشدد + الخميرة تفضّل، إليك غول مكتمل الملامح

الآن، الدروب التي كانت سالكة من الشام إلى العراق صارت سالكة من العراق إلى الشام. هل كان يمكن ألا تنعكس الدروب؟ أن يواصل الغول الأسدي اللعب بغول عدمي صغير في العراق، وغويل آخر في لبنان، دون أن تكبر الغيلان الصغيرة، وتبدأ بالانقضاض عليه، عندما تتاح الفرصة. الطرفان يكرهان بعضهما كراهية مميتة، وكانا يعرفان جيّداً أنهما يلعبان معاً لمصلحة مشتركة عارضة.
واليوم، الدروب المطروقة صارت اليوم إقليماً مفتوحاً، عراقياً شامياً، ينتشر فيه الغول « داعش »

ما هو العنصر الديناميكي والمُفعِّل لهذا المُركَّب الغولي؟ وحشية النظام الأسدي المستمرة دون ريب. لا يمكن فعل شيء في وجه غول القاعدة، من دون التخلص من الغول الأسدي. كل يوم إضافي من عمر هذا النظام يحمل قوة وتمكنا أكبر للغول الآخر. ولا ريب عندي أن هذا الغول الأخير سيفترس نظيره إن استطاع، أو ربما يتقاتل الغولان إلى أن يحطما سوريا نهائياً.
[ برأيك إلى أيّ حد يستطيع السجين السياسي السابق التحرُّر من مخزون الألم الهائل في الذاكرة أثناء التحليل السياسي أو الفكري في الشأن السوري، وهل تعتقد أن الذاكرة المرضوضة الموجودة في اللاوعي سوف تترك النظرة في هدوئها ودقِّتها وتوازنها المعرفيَّ؟ وإلى أيِّ حد ياسين يستطيع المراقب والمحلل للثورة السورية أن يخلق التوازن بين الانحياز الأخلاقي المطلق للثورة السورية والبرودة التحليليَّة اللازمة؟
ـ لطيف جدا
اسمح لي بالتعامل مع السؤال، والأسئلة الأخرى، كنماذج لخطاب غير شخصي، يحاول الإيحاء بأنه « متوازن » و »دقيق »… لكنه يحمل في الواقع الكثير من السياسة والمواقف السياسية الخاصة. أحاول خلخلة هذا الخطاب، وإظهار محمولاته السياسيَّة، مع التهكّم اللازم

لا أعرف كيف يُعرَف إن كان « السجين السياسي السابق » قد « تحرر » من « مخزون الألم الهائل ». وإذا كانت « الذاكرة المرضوضة » موجودة في « اللاوعي »، فكيف لي أن أعي ما تفعل! هل يحتمل لهذه الذاكرة أن تترك « النظرة » بسلام، دون أن تقض مضجع « هدوئها ودقتها وتوازنها المعرفي »؟ لا أعرفُ أيضاً. هل ترشدني إلى عينة من النظرات « الهادئة الدقيقة المتوازنة معرفيا » كي أستطيع المقارنة والحكم؟
طيب، أظن أن واقعة إني سجنت طويلا مؤثرة حتماً في توجهاتي الفكرية والسياسية. لكن هل تفسّر هذه الواقعة انحيازي للثورة وعدائي للنظام؟ وهل تقول عن « التحليل السياسي أو الفكري في الشأن السوري » الذي أقوم به شيئاً مغايراً جداً عما قد يقال عن « التحليل السياسي والفكري » لآخرين لم يُسجنوا، أو سجنوا واستطاعوا بطريقة ما التحرّر من « مخزون الألم الهائل »؟
عدا أني كنت معارضا حين اعتقلت قبل عقود، يبدو لي أن هذا النوع من النقاش يضمر أني وأمثالي معادون للنظام بسبب أحقادنا الذاتية، وليس لدينا قضية عامة عادلة فعلاً. أدعُ جانباً أن اعتقال الألوف وعشرات الألوف (وقتل مثلهم) في زمن سبق، ليس مجرد شأن ذاتي لهؤلاء الألوف، وأنه قضيّة عامة ووطنية، وأتساءل: لماذا يتوجب على سوري معارض تقديم ثبوتيَّات خاصة لإقناع أيٍ كان بأنه « هادئ ودقيق ومتوزان معرفياً »؟ ولماذا يبدو أن السوريين الأكثر جذريَّة في معارضة النظام هم بالتحديد المطالبون بالقيام بمثل هذا الفحص النفسي؟ ألمجرد التأكد من عدالتنا، ونحن نتكلم على شؤون البلد الذي قتل فيه حتى اليوم 120 ألف إنسان، وقُصِفَت الناس بالطائرات، وصورايخ السكود، والأسلحة الكيماوية؟
قد يفترض ملاحظ خارجي أنه يتعين، بالأحرى، فحص نفوس وضمائر من سكتوا على الجريمة المستمرة، أو التمسوا للقاتل الأعذار، أو تخصصوا في لفت الأنظار إلى تفصيل هنا وتفصيل هناك، بما فيها ما يقوله عن الجريمة أمثالي وكيف يقولونه!

لكن لا. هذا اللغو الطبي المنحول عن رضوض الذاكرة واللاوعي، والألم الهائل، والهدوء والدقة والتوازن، هو خطاب طرف واعٍ جداً، يهمُّه أن يظهرك شاهداً غير ثقة على المذبحة لأنه لا يريد أن يقال شيء عن المذبحة. من وراء مظهره العلمي المتجرد، غرض هذا الخطاب هو نزع الشرعية عن المنحازين للثورة بذريعة الافتقار للهدوء الدقة والتوازن، وإن كان يتفهم أسباب ذلك. يضع أصحاب الخطاب أنفسهم في موقع علمي مزعوم متعالٍ على الشهود من أمثالنا، لحجب وقوفهم في صف القاتل. ويبدو أنه يسوؤهم بخاصة التعبير المباشر عن السخط الأخلاقي. هذا « شعبوية ». كلمات مثل مجرم وقاتل لا تليق بالعقول المتوازنة، خصوصا حين تكون في وصف معسكر النظام

ولغرض نزع الشرعية عنّا لا يناسب خطاب مبني على آراء وتقديرات وشهادات حية، يمكن التيقن من صدقها الواقعي وموافقتها « طبائع العمران » الأسدية (قصف الغوطة بالسلاح الكيماوي مثلاً، وقد شكَّك فيه، وشوَّش عليه بالضبط أمثال أصحاب هذا الخطاب). يلزم خطاب العلم لإظهار علاقة لا تكافؤ جذرية بين أقوال أطباء المجتمع والسياسة المتوازنين، الدقيقين والهادئين أيضا مثل « الدكتور » بشار الأسد، وأقوال شهود ومتابعين يحملون رضوضاً غائرة في لاوعيهم، بما يشكك في سلامة أحكامهم، وفي توازنهم المعرفي، من أمثالنا.
أعتقد أنه لو كان الأمر بيد هذا الصنف « المتوازن » من الناس لأحالونا إلى مصحات عقلية. الفاشية تتأسس بالضبط على خطابات ذاتية الصواب كهذه، وليس على شهادات وتحليلات جزئية

في حقيقته هذا خطاب كيماوي، إن جاز التعبير، خطاب إبادة، غرضه خنق الشهود العامين على نحو ما خنق الغاز السام الناس في الغوطة وغيرها. ولا أعتقد أني أسيء الظن بالقول إن أصحاب هذا الخطاب يفضلون لو اختنقت أصواتنا. ما أعرفه من عينات مشابهة لهذا الخطاب ينطوي على كراهية ضارية لا ترتوي، وبعض عيناته تعادل تحريضاً مباشراً على القتل

ولا أعرف بعد ذلك ما هي درجة الحرارة المناسبة للتفكير المتوازن، أريد عموماً أن أكون بارد التفكير وحار الوجدان. ولا أدري ما هو رأي أطباء الذاكرات المرضوضة بالتوازن الحراري الحاصل

لكن حين يسمي أولئك الأطباء المجرم باسمه، وحين تحرج ضمائرهم وقائع قصف أفران الخبز بالطائرات والأحياء بصواريخ سكود والنيام بالسلاح الكيماوي، أكثر من تسمية القاتل قاتلاً والمجرم العام مجرماً عاماً، عندها ربما نتكلم في شؤون « التوازن »، و »الهدوء » و »الدقة » أيضاً
جماعة النظام الصرحاء أكثر استقامة، بالمناسبة، من أصحاب هذا الخطاب. كانوا يقولون لنا بكل بساطة: أنتم حاقدون! غرضهم أيضا أنه ليس لنا قضية عامة وعادلة، لكن يقولونها دون لف ودوران، دون خطاب طبي ركيك، ودون رطانة الذاكرة المرضوضة واللاوعي والتوازن المعرفي
[ مع موجة « الضربة » الأميركيَّة المُفترضة ضد النظام السوري، وإبداء الرأي العام الغربي بشقيَّة الأوروبي والأميركي حساسيَّة ضعيفة تجاه قضية عادلة كقضية السوريين، مع العلم أن رفض التدخل كان يتم وفق برلمانات منتخبة واستطلاعات رأي ديموقراطية وشفافة، وليس عبر مراكز استخبارات ومؤسسات حكم. إلى أي حد تتحمل المعارضة السياسة السورية مسؤولية هذا؟ وهل يكفي تحميل المسؤولية للغرب وشتمه ووصفه بأنَّه إلى جانب النظام السوري؟
ـ لا يكفي تماما شتم الغرب وتحميله المسؤولية ووصفه بأنه إلى جانب النظام السوري، لكن لا بأس به، ولا أحد يتضرر منه
لم توجه قوى غربية ضربة للنظام السوري لأنها في الأصل غير راغبة في ذلك، وجاء استعداد النظام لتسليم السلاح الكيماوي يحررها من حرج الاضطرار لمعاقبة مجرم طائش، تجاوز حدوداً مرسومة. الجماعة لديهم رأي عام مضاد للتدخلات الخارجية بسبب المردود السلبي لآخر التدخلات، وأوضاعهم الاقتصادية المتعثرة. وحتى لو تفوّقت المعارضة السورية على نفسها في عرض قضيتنا، لما تحقّق لها في تقديري تعديل كبير في الموقف في الغرب. كان مهما أن يحقق معارضون سوريون اختراقات، ولو محدودة، في التواصل مع المجتمعات الغربية من باب التمرُّس بمخاطبة الرأي العام هناك، وعدم البقاء أسرى مناجاة أنفسنا واجترار إحساسنا بالعدالة الذاتية وظلم الغير. لكن ما كان لهذا أن يقلب الوضع لصالحنا في تصوُّري
ما كان يمكن أن يقلب الوضع هو وجود مصلحة مباشرة للقوى الغربية للتدخل. كانت قادرة على تعبئة الرأي العام في اتّجاه أكثر تقبُّلا للتدخُّل لو كانت لها مصلحة فيه. ربما تعرف أن نسبة أعلى من الرأي العام الأميركي، قاستها « استطلاعات رأي ديموقراطية وشفافة »، صارت مع ضربة للنظام السوري خلال الأيام القليلة التي بدا أن الإدارة الأميركية تعتزم فعلاً ضرب النظام. ظلت النسبة أقل من نسبة المعترضين، لكنها تكفي للقول إن فتور الرأي العام الأميركي يقبل التغيير بقدر ما. كانت الرسالة المضمنة في إحالة أوباما قرار الضربة إلى الكونغرس، وهو قادر على أخذ القرار دون العودة إلى الكونغرس، أنه متردد في أمر الضربة، وهو ما يثبت الرأي العام في موقع معارض لها
وقبل أن تبدأ بالتراجع احتمالات الضربة الأميركية كان رأيي أن ضرب النظام السوري لمجرد أنه قتل محكوميه بالسلاح الكمياوي شيء أعدل، وأكثر إنسانية وتقدمية، من أن يكون دافعاً أميركياً كافياً لمعاقبة النظام السوري

أيا يكن الأمر، لا يسعف في فهم الأحوال السورية واتّخاذ موقف عادل بشأنها استبطان توجهات ومواقف تلقي بظلال من الشك على كل ما له علاقة إيجابية بالثورة، ولا تعرض القدر نفسه من التشكك حيال أطراف أخرى، مخاصمة ومعادية لها. « التوازن » كويس.
[ هل تعتقد أن هنالك طوائف مهيكلة واضحة المعالم في الحالة السورية، كما في لبنان والعراق مثلاً؟ بمعنى آخر هل نمتلك طوائف منجزة لها خطاب سياسي قادر على رسم حدود هذا الانقسام؟ وهل تعتقد أن تسوية طائفية مثل « الطائف اللبناني » ممكن أن تكون حلاً للحالة السورية؟

http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=589960