حيونة الإنسان – سلام الكواكبي
»
منذ عدة أيام، ينتشر كالنار فى الهشيم مقطع فيديو يظهر فيه وحش بشرى يُخرج قلبا لجثة جندى سورى ويهم بالتهامه متقيئا تعابير همجية. أبرزت الخبر مع الصور والتعليقات كل وسائل الإعلام العربية والعالمية، إضافة إلى شبكات التواصل. وقد ساعدها هذا الحدث/الجريمة بأن تتحوّل عن الاهتمام الخجول الذى كان قائما بالمجازر المتعاقبة منذ أشهر وآخرها ما نجم عنه من عشرات القتلى فى قرية البيضا. ونأت بنفسها عن الحديث حول المجزرة التى يُعد لها بسواعد «المقاومة حزب الإلهية» فى مدينة القصير. فقد أتاح لها هذا المجرم المجال وساعد من حيث درى أو لا يدرى، فى البصق على تضحيات عشرات الآلاف من السوريين والسوريات.
إن كان المقطع مركّب وفيه تزوير ما فقد نجح مخرجه «الموهوب» تماما فى مسعاه الشيطانى وفى تأليب رأى عام عالمى يسكنه الخوف من «المجهول السورى» أو تسيطر عليه اسلاموفوبيا ديناميكية تنتقل من حظائر أقصى اليسار إلى ثكنات أقصى اليمين على من يتضامن مع ثورة أرادها السوريون للحرية وللكرامة.
وإن كان حقا هو انتقامٌ، كما صرح به هذا «الكائن» إلى صحيفة أمريكية، لما عاناه من قمع واضطهاد ولما رآه من صور فظاعات على هاتف الضحية المحمول فقد نجح فى وضع الثورة فى موقع الدفاع أو التبرير أو الإدانة.
●●●
هذه الجريمة تدخل فى سياق متراكم من ممارسات وتجاوزات وجرائم ترتكب باسم الثورة تجعلها لا تقع ضحية التشويه والحرب الإعلامية الآتية من الطرف الآخر، فحسب، بل تُظهر بوضوح بأن جزءا ممن يدّعون وصلا بها يقومون بما يلزم من التشويه والإساءة، وبل حتى أكثر.
لقد أثارت هذه الجريمة/الحدث اشمئزاز جزء كبير من المراقبين الدوليين والمحليين. واستتبعت إدانات عديدة من قبل المنظمات الحقوقية الدولية ومن قبل المؤسسات السياسية والعسكرية للمعارضة السورية. وبالمقابل برزت تبريرات عدة، بالأخص فى شبكات التواصل الاجتماعية، يحاول أصحابها إيجاد الأعذار المخففة أو حتى تأييد هذا العمل. فتراهم حينا يهاجمون المنظمات الحقوقية الدولية التى لا ترى ما يحصل فى الضفة الأخرى وتركّز على انتهاكات القوى الثورية. وفى هذا، إجحاف عميق ينمّ عن جهل أعمق بطبيعة هذه المنظمات ومنهجية عملها. فبعضنا يعتقد أنها وجدت لتدعم ما نراه حقا أو ما ننتمى إليه من قيم ومرجعيات. وإن حادت عن هذا الخط المرسوم فى أحلامنا، ومارست عملها بناء على رسالتها فى رصد الانتهاكات والإشارة إليها، ننعتها بما لذ وطاب من مركبات التخوين والمؤامرة.
أما التركيز على أن الحدث/الجريمة فجاء كرد فعل «طبيعى» على ما تقوم به قوى السلطة والشبيحة من انتهاكات ومجازر، فهذا ينقلنا إلى تطور «نوعى» فى المخيال السورى الذى طالما حدثتنا عنه الروايات الوردية بأنه محبٌّ للسلام وبعيد عن العنف الذى ما فتئت أقلامنا تترصده فى المجتمعات الأخرى وتصرّ على تميّزنا الحضارى عنه. إنه تطور نبت من خلال العنف الوارد مع نظريات سياسية أحادية النظر وأكاد أقول الخلية، والتى تغوّلت فى مجتمعنا «اللطيف» و«السلمى».
●●●
لقد أسهم فى رفع منسوب العنف فى المجتمع، سياسات الخوف والإفقار والاحتكار والتديين المجتمعى المستند إلى ظلامية بعثوية/إسلاموية متكافلة ومتضامنة ومتكاملة. وما تحمله أيضا من عنف حكومى، إدارى، ثقافى، عائلى، مجتمعى وسلطوى. وهى أيضا توضّحت من خلال العنف الدموى الذى قوبلت به المظاهرات السلمية المطالبة بالحرية وبالكرامة فى الأشهر الأولى للثورة السورية. وقد تبيّن جانبها الآخر فى سير السجون التى بدأ السوريون اكتشافها بعد انقضاء زمن طويل من انطلاق مسار عنفها المادى والمعنوى المقيت.
ولكن العنف اليومى والقائم على القتل والتهجير والاغتصاب واستهداف الأطباء والعاملين فى الإغاثة والمستمر منذ أكثر من سنتين أتى «ليطوّر» غرائز لا إنسانية كان لقوى القمع «السبق» فى تبنيها وتطويرها، ولكن بعض شظاياها انتقلت إلى قوى ثورية أو قوى متسلقة على الثورة وستؤدى بها، إن تجاهلها العقلاء، إلى إعادة انتاج جحيم من لون وطعم مختلفين.
قبل عدة سنوات أصدر الراحل ممدوح عدوان كتابا مرّ بصمت فى مكتباتنا المليئة بكتب الطبخ والنصوص الدينية المتطفلة على القرآن والحاملة تشويها منهجيا لرسالته وأكاد أقول بأنه منع من التداول أيضا مع عدم تأكدى. ولكن كتاب «حيونة الإنسان» أيقظ حينذاك فى نفسى الخوف من الوصول إلى هذا اليوم.