د. خطار أبودياب – لعبة روسيا وإسرائيل من المتوسط إلى القوقاز
مع الدخول الروسي الكثيف إلى سوريا أواخر صيف 2015، برز اطمئنان في إسرائيل إزاء هذه القوة الدولية التي أخذت تحل مكان واشنطن في الإقليم، وبرز التنسيق بين الجانبين.
تتبدل الوقائع على رقعة الشرق الأوسط وجوارها تبعا لحراك ومناورات اللاعبين الأساسيين، ومما لا شك فيه أن قرارات موسكو بخصوص الانسحاب النسبي من سوريا، وبدء تسليم منظومات صواريخ أس 300 إلى إيران، انعكست على صلاتها مع إسرائيل التي ستبدل تكتيكاتها لمواجهة التغييرات واستمرار الاستفادة من خلط الأوراق في الإقليم، دون أن تنجح، بالضرورة، إبان آخر سنة من ولاية باراك أوباما في بلورة استراتيجية ناجعة على المدى المتوسط وسط تعقيد النزاعات وانتشارها.
تحافظ “اللعبة الكبرى” في القرن 21 على زخمها انطلاقا من الأراضي السورية: تتفاعل المسألة الكردية؛ يتأزم الوضع في العراق؛ تحتدم أزمة اللاجئين؛ تسحب روسيا جزءا أساسيا من قواتها في سوريا عشية الجولة الثانية من جنيف 3؛ يضرب الإرهاب بروكسل؛ ويحصل اختبار قوة جديد في أوائل هذا الشهر عبر مواجهة دامية في أعالي جنوب القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا، ويحضر في هذا المشهد نفس اللاعبين وعلى الأخص روسيا وتركيا وإيران وإسرائيل، وفي القلب منه توجد بالطبع الولايات المتحدة إلى جانب الأطراف الأخرى العربية والأوروبية.
مع الدخول الروسي الكثيف إلى سوريا أواخر صيف 2015، برز اطمئنان في إسرائيل إزاء هذه القوة الدولية التي أخذت تحل مكان واشنطن في الإقليم، وبرز التنسيق بين الجانبين، واتضح أن روسيا ترى في إسرائيل لاعبا إقليميا مهما في المنطقة، وتحترم توجهاتها حيال الصراع القائم في سوريا مع احتمال التوافق بخصوص تركيبة سوريا المستقبلية ومصير منظومة الأسد.
لكن الخطوات العملية التي وعدت بها موسكو كانت تتمثل في التعاون من أجل ضمان المصالح الإسرائيلية هناك، وعلى رأسها عدم تركيز نفوذ لإيران وحزب الله على الحدود، وأخذ هامش حرية مطلق لمنع نقل سلاح كاسر للتوازن إلى لبنان، وفي الوقت ذاته تنسيق العمل المشترك ضدّ الحركات الجهادية.
لكن هذه الوعود لم تطبق كليا، وتمكن حزب الله بالتعاون مع إيران والنظام السوري في الالتفاف عليها، إذ نقلت صحيفة بيلد الألمانية استنادا إلى مصدر استخباري، معلومات تفيد بأن حزب الله بات يملك منظومة دفاع جوي من نوع “SA-17” روسية الصنع تسلمها الجيش السوري من روسيا العام الماضي. وفي الأسبوع الماضي ذكرت صحيفة كيهان الإيرانية أن “الأسد تجاهل خلال حرب 2006 طلب موسكو بعدم تزويد حزب الله بأسلحة روسية وأنه نفذ ما طلبته منه إيران”.
بناء على ذلك وبعد الانسحاب الروسي الجزئي، تسقط الضمانة الروسية وهذا سيدفع بالجانب الإسرائيلي إلى الاعتماد على نفسه في الحفاظ على ما يعتبره أمنه الإقليمي، وهذا ما يزيد الخشية من احتمال حصول اختبار قوة نتيجة تعزيز الوجود الإيراني في سوريا وقدرات حزب الله. بيد أن إسرائيل رحبت بالتغييرات التي حصلت في شمال سوريا بفضل التدخل الروسي وخاصة لجهة صعود الدور الكردي. والملفت تقييم مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي الذي دعا حكومة بنيامين نتنياهو، إلى دعم مخططات روسيا الهادفة إلى تقسيم سوريا. وفي ورقة تقدير موقف صدرت عنه ونشرت على موقعه نوّه المركز إلى أن “تقسيم سوريا يسمح بتمكين إسرائيل من مواجهة المحور الشيعي، وفي الوقت ذاته بالتقليص من مخاطر الحركات الجهادية في المستقبل”.
قبل زيارة نتنياهو المرتقبة إلى موسكو في الأسبوع المقبل (في موازاة زيارة أوباما إلى الرياض)، أعلنت طهران عن بدء تسلم منظومة الدفاع الصاروخي الروسي المجمدة منذ 2010، وربما أرادت موسكو طمأنتها وممارسة التقرب أو الابتزاز مع الدول العربية في الخليج. لكن الأوساط الأوروبية تنظر إلى هذه المسألة المعطوفة على تعزيز الوجود الإيراني في سوريا، على أنها عملية خلط أوراق وكسر توازنات، يمكن أن تؤدي إلى تسريع التطبيع بين تركيا وإسرائيل، والذي أرجأته تل أبيب أملا في مقايضته مع روسيا التي كانت حريصة على عزل أردوغان.
وتدور لعبة التقاطع والتجاذب الروسي- الإسرائيلي على مسرح آخر في جنوب القوقاز المحاذي لإيران وروسيا؛ تدعم إسرائيل حكومة إلهام علييف في باكو بينما تدعم إيران أرمينيا، وفي هذا السياق يعلو صوت أردوغان الداعم لأذربيجان، بينما تعتمد إسرائيل الصمت الوقائي حتى لا توتر علاقتها مع موسكو علما بأنها تزود باكو بالسلاح النوعي، فيما تقوم مصانع السلاح الروسية بتزويد البلدين بالسلاح، ولعب دور الحكم لمنع انتشار الحريق في هذا النزاع المجمد منذ 1994. وبالإضافة إلى ذلك يشكل اليهود الروس في إسرائيل عاملا يعزز من أوراق إسرائيل في اللعبة مع بوتين.
للتذكير، عشية زيارة بوتين إلى إسرائيل في يونيو 2014، اعتبرت صحيفة فيدوموستي الروسية أن بوتين يعد من “أشد المناصرين لإسرائيل في أوساط النخبة الروسية الحاكمة”. وخلال هذه الزيارة صرح الرئيس الروسي أن “التاريخ اليهودي محفور في حجارة القدس”. قبل تسع سنوات من “حج” بوتين إلى القدس، أكد أرييل شارون في آخر زيارة له إلى موسكو في نوفمبر 2003، أن إسرائيل تعتبر روسيا “أحد أهم اللاعبين على الساحة الدولية. وأن بوتين صديق حقيقي لإسرائيل نثمن ضماناته الشخصية التي غالبا ما يكررها بصدد أمن دولة إسرائيل”.
تغيرت المعطيات بين 2003 و2012 و2016، وأصبح بوتين في موقع أقوى في حقبة التردد الأوبامي، لكن يستمر استعراض العضلات في إطار اللعبة الكبرى ويبقى الموقع العربي هو المهدد في الأساس، أسير ضعف بنيوي وجدل بيزنطي حول الحدود، وتغريد أغاني العروبة في وقت تقاسم استراتيجي يمكن أن يمرّ على حساب سوريا والعرب.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس