رشا عمران: ما أحتاجه هو الشعر القادر على امتصاص بؤر الغضب والعجز في داخلي – راشد عيسى
لم تتردد الشاعرة السورية رشا عمران في الوقوف مع ثورة بلدها، ربما لم يحن وقت الشعر بعد، لكنها وجدت ضالتها في صفحتها على الفيسبوك لتقول وتتابع وتعلن غضبها ووقفتها مع الشارع. والحديث إليها الآن ليس فقط إطلالة على موقف لشاعر أو مثقف، كيف يرى مجريات الأحداث في بلده، بل هو كذلك إطلالة على مشهد ناصع قدمته نساء سوريا، أمهات وطالبات ومبدعات. بل لعله حوار مع شاعرة تعيش مواجهة محتدمة على أكثر من صعيد، كما سنرى في هذا الحوار
غالباً ما نسمعك تقولين قبل الثورة وبعدها، لا بدّ أن أشياء كثيرة تغيرت لديك؟
لم أعد أتذكر نفسي ونمط حياتي قبل منتصف آذار، تشبه حالتي حالة المصاب بفقدان للذاكرة حيث تبدأ ذاكرته من وقت محدد، كل ما يسبق هذا الوقت ملغى ومحذوف، ليس بالضبط هكذا، ولكن إلى حد ما، نعم، ثمة شيء اختلف في الذاكرة، أسقطت أحداثاً وأشخاصاً ومواقف، وراكمت أحداثاً واشخاصاً ومواقف، شيء يشبه عملية التصفية حيث لم يبق مما قبل إلا ما يحفز على الاستمرار. بمعنى آخر، كانت حياتي تمشي بإيقاع واحد تقريباً، كتابة وقراءة ووظيفة وصداقات وعلاقات، والتفكير سنوياً بطرق لإنجاح مهرجان السنديان والتفكير بتمويله، وسفر ومقاه وسهر، حياة في جانب إيجابي منها أنها كانت حصيلة خيارات ووعي، وفي جانب آخر أقل إيجابية كانت نوعاً من الخلاص الفردي والنجاة من خراب عام ساد المجتمع السوري ومؤسساته بكاملها، وأقول أقل إيجابية لأن الخلاص الفردي رديف لليأس، اليأس من إمكانية تغيير حقيقي وفعلي في بنية المنظومة السياسية التي راكمت من الفساد المعمم والمنظم عبر أربعين عاماً ما لا يمكن استئصاله إلا بثورة كبيرة، وكان مجرد التفكير بثورة في سوريا وهماً من أوهام الخيال، كان الاعتصام تضامنا مع شعب عربي يتعرض للقمع هو مخاطرة كبرى وبطولة استثنائية، فكيف التفكير بالثورة! لكن ما حدث منذ 15 آذار كان مفاجئاً للجميع ومخيباً ليأس الكثيرين مثلما كان مخيباً لاحتياطات النظام وتصريحات أركانه بعد ثورتي تونس ومصر ثم اليمن وليبيا. كان على الذاكرة، ذاكرتي أن تتفاعل مع الثورة التي اشتعلت شرارتها في داخلي أيضاً، وبدأت عملية قلب للكثير من المفاهيم والبديهيات والأفكار المتوارثة. في البداية كان ثمة اشتباكات في داخلي، وصراعات بسبب انتماءات لم أن أنتبه لها سابقا، أو أنها لم تكن تثير لدي أسئلة واستفسارات، كانت من المسكوت عنه بداعي الاعتياد واليأس، إذن ما تغير أولا هو أنا، علاقتي مع ذاتي، رؤيتي للعالم، موقفي من التغيير، موقفي من الانتماءات وأولويات هذه الانتماءات، كانت لحظة خيار جذرية في حياتي، وانحياز جذري، هذا استلزم تغييراً في سلوكي اليومي، في نمط علاقاتي مع الآخرين، في صداقاتي أيضا، مع أن من خيبوا ظني بمواقفهم كانوا قلة جدا، في تقبلي ما لم أكن أقبل به أبدا، الأهم هو في معرفتي الجديدة لسوريا وللسوريين، اكتشافي لأبناء وطني، اكتشافي للجيل الشاب، هذا الجيل الذي ظنناه استهلاكياً، لا قضية لديه ولا مسؤولية ولا وعي. الخوف أيضاً، خوفي من أشياء كثيرة، خوفي متعدد الأوجه سقط مع الثورة. هكذا، هناك أنا الجديدة الآن، أنا المنحازة بكلي إلى الثورة لم أعد أتذكر نمط حياتي قبل منتصف آذار
الشعر
هل تجدين الوقت للشعر؟
ليست المشكلة مشكلة وقت أبداً، المشكلة هي في مزاج الكتابة الشعرية، الشعر يحتاج إلى شحنة شعورية عالية كي يظهر، هذه الشحنة توجد بكثافة ويومياً، غضب وحزن وقهر وإحساس بالعجز فادح، وأمل وفرح وطاقة جديدة للحياة، لكنها شحنات لا تتخزن ولا تشكل تراكماً يعول عليه في الكتابة الشعرية الآن، هذه الشحنة تتفرغ في الحديث اليومي عما يحدث مع الاصدقاء، تفرغها الفضائيات المختلفة، الموالية والمعارضة، يفرغها المتحدثون من الطرفين، تفرغها الصورة. الصور اليوم هي المحرض الأهم للاستمرار، وهناك الفيسبوك أيضاً. على صفحتي أكتب يومياً ما أشعر به، مخاوفي، قلقي، غضبي، أسئلتي، رأيي، رؤيتي، موقفي، كل هذا يخفف إلى حد ما من الكتابة، يجعل الشعر يختفي، يحرن ويغيب، رغم أن أكثر ما أحتاجه حالياً هو الشعر، هو الوحيد القادر على امتصاص البؤر السوداء التي تتشكل داخلي، بؤر يشكلها الغضب والعجز قد تتحول إلى مناطق خصبة للحقد، وأنا لا أحب أن أصل إلى منطقة الحقد ابداً، الشعر يزيل هذه المنطقة إذا وجدت ويفتح مكانها مناطق للتسامح والغفران وللعدالة، أحيانا أقول لحسن حظي أنني شاعرة وأنني قادرة أحيانا على رؤية ما يحدث من زاوية الشعر، لهذا أحاول أن لا أنسى أنني شاعرة، حتى لو لم أكتب كثيراً، الآن، أنا أكتب يومياً، بعيداً عن صفحة الفيسبوك، لكن ليس ما يجعلني راضية عنه، اكتب بما يجعلني لا أنسى عادة كتابة الشعر، قد تفاجأ بأنني أكتب نصوصاً قصيرة عن الحب، مع أنني نادراً ما أكتب عنه، هو نوع من التعويض ايضاً، للحب فعل الشعر في فتح مناطق للغفران والعدالة، لكنه مثله حالياً عصي وحرون، لست قلقة كثيراً، أعتقد أن التغيير طال حتى مفهومي للشعر وللكتابة، مع أن أدائي اللغوي تغير حتى قبل بداية الربيع العربي، صار أكثر سهولة ويرتكز نصي على الموضوع اكثر من ارتكازه على اللغة، أقصد، لم تعد اللغة هي فقط ما أشتغل عليه، صرت أبحث في الموضوع وأبحث عنه، ربما هو استشراف الشعر، لا أدري، ولكن من المؤكد أنني لن أكتب شعرا ثوريا أو تحريضيا، سأكتب عن هذه المرحلة المفصلية من تاريخي ومن تاريخ ابناء بلدي ومن تاريخ سوريا، سيأتي إلي الشعر هذا مؤكد والحب أيضا، جزء من التغيير داخلي هو هنا، الإيمان بما أحب حتى أتمكن من تحقيقه، والإيمان بما أنا عليه حتى أتمكن من الاستمرار
في رسالة لوالدك، الشاعر محمد عمران، كنت تتحدثين عن ثلاثة أجيال، أي توصيف تقدميه لتلك الأجيال؟
كما كتبت له؛ ما يحدث في سوريا اليوم جعلني أستعيد سيرة أربعين عاماً ماضية، أربعين عاماً من الهزائم والخيبات مرت على سوريا وعلى أمة العرب، أربعين عاماً كانت نتاج ثورة يوليو في مصر، ثورة العسكر، على أهمية تلك الثورة تاريخياً ومجيئها كرد فعل على النكبة وقيام كيان غاصب وقميء سمي بدولة إسرائيل واحتلال جزء كبير من الأراضي العربية، انتقلت عدوى هذه الثورة إلينا أيضاً في سوريا. ثورة آذار قام بها العسكر. في ليبيا أيضاً وفي السودان وفي العراق وفي اليمن، ثورات عسكرية أنتجت أحزاباً تميل إلى اليسار وتعتمد على الفكر القومي العروبي. ولكن ما الذي أنتجته هذه الأحزاب والثورات: هزيمة الـ 76، نصر خلبي في الـ 73، معاهدات صلح منفردة مع العدو، سيطرة الفكر الشمولي على الحياة السياسية العربية، والأهم القمع وأمننة مؤسسات الدولة والقضاء المبرم على أي حراك مدني والاتكال على تحالف مشبوه بالنسبة لي بين السلطة السياسية والسلطة الدينية تمّ من خلاله إقصاء أي حركة وطنية علمانية وتكريس للحركات الدينية والمذهبية التي استولت لاحقاً على راية المقاومة، ثم الفساد ومنهجته وتعميمه وظهور طبقات مالية جديدة في المجتمع العربي بسبب الفساد دخلت لاحقاً في التحالف السياسي الديني. جيل الستينيات في سوريا كان نتاج هذه الأحزاب. معظم مثقفي سوريا في تلك الفترة جاؤوا مع ثورة آذار، ومعظمهم اشتغلوا في مرحلة النضال السري لحزب البعث وللأحزاب اليسارية الأخرى، هؤلاء ونتيجة الهزائم المتلاحقة أصيبوا بهزائم شخصية وبخيبات حوّلتهم إلى أفراد منكفئين عموماً، منهم من دخل لعبة الفساد وصار جزءاً من منظومة أوصلت سوريا إلى ما هي عليه الآن، ومنهم من نأى بنفسه عن كل هذا، واشتغل على مشروعه الفكري او الابداعي الشخصي، لكنهم صمتوا جميعاً عما يحدث من خراب أمام أعينهم، من المؤكد أن ثمن قول كلمة الحق يومها كان فادحاً، كان يعني قضاء سنوات طويلة من الحياة في عتم السجون أو النفي خارج سوريا أو الموت. لكن لنعترف أنهم كانوا محبطين ويائسين، وهذا عموما تجده في كتاباتهم الآن، كلها تنذر باليأس وبالخراب دون أن تقدم أي حل، ابتعدوا عن الشارع بحجة النخبوية وتركوا الشارع للفاسدين والانتهازيين والمتملقين، وكان ما أكثرهم
جيلنا نحن ورث عنهم كل هذا، ورث سوريا ضمن منظومة خراب كبيرة، ومثلهم أيضا دخل منا من دخل في اللعبة، وانكفأ بعضنا يبحث عن مشروعه الشخصي والفردي، غير أننا ورثنا عنهم ما هو أشد قتامة: الخوف من أي خطوة أو من أية مبادرة، كنا نرى موات الأرواح والضمائر أمامنا ونحن صامتون، كنا نرى كيف تتغلغل الطائفية في النفوس ونحن صامتون، كنا نرى كيف يستشري الفساد ويصبح سرطاناً يخنقنا ونحن صامتون. كانت سوريا تشبه قنبلة على وشك الانفجار ونحن صامتون. جيل أبنائنا وبسبب تغيير معطيات الحياة عموما رفض هذا الخوف وتحداه. ربيع الثورات العربية كان لا بد أن ينتقل إلينا، كما انتقلت ثورات منتصف القرن الماضي، التعامي عن أن سوريا مختلفة ولن يحدث بها شيء كان ضرباً من الوهم. كانت العودة إلى الماضي تكفي ليرى أي أحد كيف تنتقل الثورات العربية. أنظمة متشابهة ومجتمعات متشابهة وظروف موضوعية وحياتية ولوجستية متشابهة، الاختلاف هو في موقع كل بلد ومكانه وارتباطه بملفات إقليمية ودولية كبيرة، جيل أبنائنا تحدى الخوف فعلاً، ومستعد لتقديم حتى حياته ثمناً للتغيير، وهذا ما نراه اليوم. هذا الجيل استطاع أن يحول الأفكار العظيمة والقيم الكبرى إلى حقيقة، الحرية كقيمة كبرى صارت حقيقة والتضحية كقيمة كبرى صارت حقيقة والتغيير كمفهوم عام صار حقيقة، هؤلاء الشباب يدفعون ثمن تخاذلنا وخوفنا وخشيتنا، هؤلاء يصنعون مستقبلهم بأيديهم، بدمائهم، بعذاباتهم، رفضوا الوصفة الجاهزة للمستقبل واعتمدوا وصفتهم هم، يصنعون الكرامة لحياتهم ولما تبقى من حياتنا
هل يمكن القول إن نينار، ابنتك، هي التي جعلتك بشكل مبكر على تواصل مع الثورة حين جرى اعتقالها في أيام الثورة الأولى؟
أعتقد أن في قلب كل شاعر حقيقي يختبئ ثائر ما. الشعر بحد ذاته ثورة، الشعر الذي لا يشتغل على التغيير ليس شعراً، ليس التغيير هنا سياسياً بالضرورة، وليس شرطاً أن يكون كبيراً، قد يشتغل هذا التغيير على الذائقة فقط، على خدش بديهيات ما، على رؤية العالم من منظار جديد، هذه ثورية بطريقة من الطرق، فكيف حين تصبح الثورة واقعاً وأمراً حقيقياً. قبل أن تشتعل الشرارة السورية، كنت في قلب الحدث العربي، صرخت من السعادة يوم رحيل بن علي، أبكاني حتى الرقص ذلك المحامي الذي كان يهتف في شوارع تونس الفارغة أن تونس أصبحت حرة. مع الثورة المصرية كنت كما لو أنني في قلب ميدان التحرير، تابعتها لحظة بلحظة على الفيسبوك وعلى الفضائيات وعبر الهاتف مع أصدقائي المصريين، لحظة بلحظة. يوم أعلن مبارك تنحيه اتصلت بأصدقائي السوريين مهنئة ونزلنا إلى أحد المطاعم شربنا نخب مصر واحتفلنا. تابعت بداية ثورة اليمن. شاركت في الاعتصام أمام السفارة الليبية أنا ونينار، حين أعود إلى أرشيف صفحتي على الفيسبوك منذ بداية عام 2011 أكتشف أنني لم أكتب شيئا خارج هذا الموضوع، ولكن لأعترف لك وبصراحة؛ حين كنت أفكر بثورة سورية كنت أشعر بالخوف، خوف من نتيجة ما قد يحصل من القمع وخوف آخر متعلق بمسلمات لم أفكر بها سابقاً، حول السلفيين والاخوان المسلمين والشارع المتزمت وغير ذلك كله. يوم عدنا من اعتصام السفارة الليبية كنت أتحدث مع نينار عن سوريا وأحذرها من الاشتراك بأي شيء في حال انتقلت الثورة إلى سوريا، مبررة هذا بأنني أعرف ماهية القبضة الأمنية عندنا وأعرف طبيعتها، يومها أجابتني: ماذا سيكون موقفي من ابنتي أو ابني في المستقبل إن صار لديّ أولاد وبقيت سوريا على ما هي عليه، إن واجهني أحدهما بالقول: لماذا لم تغيروا؟ لماذا تخاذلتم عن التغيير؟ قالت لي التغيير ليس فقط من أجلنا الآن بل من أجل أولادنا لاحقاً، وهذا ما لم تفعلوه أنتم. أقولها لك بصدق؛ شعرت وكأن ابنتي صفعتني صفعة قوية أمام جموع من البشر، شعرت بمهانتي ومذلتي وبصغري أمامها وأنا أقنعها أن تبتعد عن أي حراك سوري. وفي الوقت نفسه شعرت بالفخر أنني ربيت ابنة لها شخصيتها المستقلة ولها حلمها بالتغيير ولها طموحها المشتعل ولديها إحساس عالي بسوريتها وبانتمائها إلى هذه الـ « سورية »، لا إلى دين، أو مذهب، أو طائفة، أو عائلة. ثم جاء اعتقالها مع بداية الانتفاضة في مظاهرة في الحميدية هي ومجموعة من أصدقائها. شباب علمانيون ومثقفون وخريجو جامعات وينتمون إلى مختلف طوائف سوريا وثقافاتها
دعينا نتحدث عن تجربة الاعتقال تلك؟ لا بد أن نزاعاً كبيراً دار بينك كأم وبينك ثائرة؟
للخوف هنا مذاق آخر، كان يوم الجمعة 25 آذار وكنت عدت ليلة الخميس صباح الجمعة من المغرب، كانت نينار تنتظرني مع أصدقائها، سهرت معهم قليلاً، وتحدثنا عما يحدث في درعا وقالت لي قبل أن أدخل لأنام إنها قد تستيقظ باكراً غداً، وقد تذهب في موعد مع أصدقائها. لم يراودني الشك أبداً في أي شيء، استيقظت صبيحة تلك الجمعة متأخرة قليلاً، ولم أجدها في البيت. جهزت قهوتي ودخاني وفتحت جهاز الكومبيوتر ودخلت صفحتي على الفيسبوك، أول خبر قرأته كان اعتقال مجموعة من الشباب في مظاهرة في الحميدية، وكان اسم نينار ابنتي هو الأول، ثم أسماء أصدقائها. لم أستوعب بداية، اتصلت برقمها كان مغلقاً. رقم صديقها أيضاً مغلق، أرقام بعض أصدقائها. كل الهواتف مغلقة. لا أعرف ما حدث لي. لا أستطيع الحديث عن ذلك الشعور. عادت لي كل القصص التي أعرفها عن المعتقلات السورية، صرت أتخيلها تتعرض للتعذيب. تخيلت أنني لن أراها بعد الآن. دخلت إلى غرفتها لأشم رائحتها على السرير، أمسك ثيابها بين يدي، دخلت في نوبة بكاء هستيري، خوف وألم لم أعرفه بحياتي كلها. عجز عن فعل أي شيء لها. مرعب هذا الإحساس بالعجز. مئات الاتصالات من أصدقائها ومن أصدقائي في سوريا وخارج سوريا تلقيتها. اتصالات من وكالات أنباء عالمية بعد أن ذكرت إحدى الفضائيات خبر اعتقال نينار حسن ابنة الشاعرة السورية رشا عمران. رفضت التحدث مع أية وسيلة إعلامية عن الأمر، قلت إن هذا شأن سوري لا أريد التحدث عنه مع محطة أو وسيلة إعلام خارجية. دعم الأصدقاء لي ولها جعلني أقوى، رغم أن أصدقائي قالوا لي لاحقا لم نتخيلك يوماً أن تكوني ضعيفة هكذا. كنت وقتها مجرد أم لا أكثر. أم فقدت ابنتها الوحيدة في لحظة، ولا تعرف أين هي ولا تعرف أي شيء عنها، وفي الوقت نفسه كان هناك في مكان ما شعور خفي بالفخر وبالتحدي وبالإيمان بحق هؤلاء الشباب بمستقبل جديد وحر وبسوريا جديدة وحرة وخالية من التعسف والظلم. من الصعب جداً علي أن أتحدث عن الانقلابات التي حصلت لي ذلك اليوم، شيء واحد ربما يختصر كل ما حدث يمكنني قوله: شعرت أن على سوريا أن تتغير وعلينا جميعاً أن نساهم بهذا التغيير. أما ما حدث يومها حين أفرجوا عنها، وما حدث معها في المعتقل حيث كانت، وما حدث لها بعدها، فوقت الإفصاح عنه لم يأت بعد
المرأة
حضور مدهش للمرأة في مشهد الثورة السورية. برزت أسماء نسائية عديدة في الاعتصامات والمظاهرات، وفي المعتقلات بالطبع. كيف تفسرين؟
كتبت على صفحتي قبل ثلاثة أشهر: إن نضال المرأة السورية في هذه الانتفاضة هو نضال على مستويين، نضال ضد الاستبداد السياسي والأمني ونضال ضد الاستبداد الذكوري الاجتماعي والديني. بدأت المرأة السورية تستعيد دورها في الفعل السياسي والاجتماعي، عد إلى تاريخ سوريا في خمسينيات القرن الماضي ومنتصف ستينياته، كانت المرأة السورية جزءاً أساسياً من الحركة السياسية والاجتماعية. الفكر السياسي الشمولي وتحالفه مع المؤسسة الدينية أعادا المرأة السورية إلى عصر الانحطاط، عصر الجواري والحريم، احتفاء المؤسسة الدينية السورية بمسلسل مثل « باب الحارة » قدم المرأة الشامية بنمطية وبصورة واحدة ثابتة ومتخلفة دليل على دور هذه المؤسسة في إفراغ المجتمع من حيويته وفعاليته المدنية. هذا لا يتم عبر المؤسسة الدينية وحدها، هذا يشتغل عليه عقل سياسي يريد تحويل الجميع إلى مجرد أتباع لا مواطنين لهم حقوق مثلما عليهم واجبات وهذا حتماً ليس جديداً، بدأ مع تحويل المجتمع السوري إلى منظمات بعثية ببغائية، بصوت واحد وبلون واحد، ما الذي فعلته منظمة كمنظمة الاتحاد النسائي في سوريا وما الذي قدمته للمرأة؟ دورات خياطة وتريكو وصوف وطبخ. أكيد، كي لا نكون مجحفين، أنها ساهمت في بعض المناطق النائية في محو أمية المرأة هناك، ولكن هذا لا يشكل شيئاً مقابل التحولات التي طرأت على المرأة السورية وهي بالعموم تحولات طالت كل المجتمع وليس فقط المرأة، غير أنه كان للمرأة النصيب الأكبر منها، أعباء أخرى أضيفت على حياتها، الأخطر برأيي هو تحويل المرأة إلى كائن شكاء من الظلم الذكوري وعليها أن تنتزع حقوقها من هذا الرجل الذكر الذي بدوره استمرأ هذا السيناريو وصار يتعطف على المرأة ببعض حقوقها، لكن الهدف من كل هذا هو تغيير بنية المجتمع بما يتلاءم مع الاستبداد وفكره، انشغال الجميع بتأمين أبسط متطلبات الحياة المادية والنفسية كي لا ينتبه أحد إلى الخراب الممنهج والهادف إلى بسط سيطرة الاستبداد ومؤسساته الأمنية والاقتصادية والثقافية وطبعاً الدينية وملحقاته من حكم مافياوي يتصرف بسوريا كما لو أنها مزرعة والسوريون مجرد أجراء يعملون في هذه المزرعة. مع الانتفاضة شعرت المرأة بأهمية دورها ووجودها، وصرخت أول ما صرخت في وجه الرجل؛ أنا مثلك، أتعرض للاعتقال مثلك، وأتعرض للتعذيب مثلك، وأتعرض للقتل مثلك، وأتعرض للعنف مثلك، وأتعرض للتشهير بسمعتي وللتخوين. أتعرض لكل شيء مثلما تتعرض أنت. إذن أنا وأنت شريكان في هذا البلد وشريكان في هذا المجتمع. يقيناً من الصعب جداً أن تعود المرأة السورية على ما كانت عليه قبل 15 آذار، ونتائج هذا ستظهر لاحقاً
هل تعرضت لمضايقات؟
نعم تعرضت لتهديدات بالقتل من بعض أهل طرطوس. وصلتني رسائل تهديد مباشرة لي وعبر أصدقاء أيضاً. عدا عن الشتائم التي تلقيتها والإشاعات الكثيرة التي حيكت حولي من امتلاكي لمخزن أسلحة في بيت أهلي بالملاجة، إلى قبضي مبالغ خرافية من هنا وهناك، علماً، وللمضحك المبكي أنني لا امتلك شيئاً ابداً، لا بيت لي لا في طرطوس ولا في دمشق ولا في الملاجة ولا في أي مكان، لا سيارة طبعاً، لا أرض، لا شاليه، لا املك حتى حساباً في البنك، ولدي ديون مستحقة الدفع من آخر دورة في « مهرجان السنديان » ولا أعرف كيف سأسدّدها. أعيش من معاشي الوظيفي ومما اكتبه في الصحافة العربية فقط. لم أزر طرطوس طيلة هذه المدة، لم أر أمي منذ تسعة أشهر. قاطعني الكثير من أقاربي ومعارفي وأصدقائي هناك. ربما هي ضريبة وعليّ دفعها، وأدفعها بكل إيمان وحب. ثقتي كبيرة أن كل هذا سيتغير مع الوقت، وبأن ثمة جيلاً جديداً سينتبه أنه جزء أساسي من تكوين المجتمع السوري له ما للآخرين وعليه ما عليهم. لا أحقد على أحد منهم، حتى أولئك الذين هددوني بالقتل بشكل مباشر. علمتني هذه الثورة على التسامح وعلى التفهم وإيجاد المبررات. وهذا يكفيني
المستقبل
من الواضح أنك مطمئنة إلى مستقبل سوري لا ضيم فيه يلحق بالأقليات، من أين هذا الاطمئنان؟
سوريا بلد عمره سبعة آلاف سنة، عد إلى تاريخها، لن تقرأ فيها عن أي حرب أهلية. حدثت في التاريخ حوادث بسيطة لم تصل إلى حد حرب أهلية. تكوين المجتمع السوري لا يشبه تكوين المجتمع العراقي مثلاً أو اللبناني. لا تعادل لدينا في النسب بين الاقليات، لدينا أكثرية عربية بحدود 90% ولدينا أكثرية مذهبية بحدود 79% من عدد سكان سوريا، ولأكن أكثر صراحة ووضوحاً، لأول مرة منذ زمن بعيد تشعر الأكثرية المذهبية بقيمتها كعدد في الشارع السوري وبقدرة هذه الميزة العددية على التغيير، لأول مرة تشعر بقوتها كأكثرية. هذه القوة، مع الاختلافات الكبرى في قلب هذه الأكثرية، تجعل منها منفتحة ومسترخية مع الأقليات، عكس ما يحصل مع الأقليات التي انتبهت إلى حجمها الحقيقي فانكمشت وازداد خوفها، منها من التحق بالثورة ومنها من صمت ومنها من يدافع عن بقاء النظام وفي ظنه أنه يدافع عن وجوده. يمكن أن نضيف إلى هذه الأقليات أيضاً الفئات التي تنتمي إلى الأكثرية وتدافع عن النظام لارتباط مصالحها به، هو أيضا نوع من الدفاع عن الوجود، شخصياً، أؤمن أن الدولة المدنية والديموقراطية ودولة المواطنة والقانون هي الضامن الوحيد لكل السوريين، لا أحب فكرة الأقليات ولا أحبذ استخدامها، تعطي انطباعا أحيانا كما لو أن هذه الأقلية أو تلك وافدة على سوريا ويجب أن تطمئن على عدم تهجيرها، تبدو كما لو أنها طارئة على المجتمع السوري، الانتماء لسوريا أولاً هو ما يضمن حقوق الجميع، سوريا الجديدة قادمة، سوريا الحرة الديموقراطية المدنية العادلة مع جميع أبنائها قادمة، سوريا الحاضنة لكل قضايا الأمة، الحاضنة للمقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي والمناهضة لكل أشكال الهيمنة والتدخل الخارجي سواء أكان غربياً أم شرقياً قادمة، سوريا الموحدة بكامل أراضيها بما فيها الجولان ولواء اسكندرون قادمة، كأني أرى مستقبلاً سورياً لا تشوبه شائبة، قد لا يراه جيلنا ولكن حتماً ستراه أجيال سورية تستحق الكرامة وتستحق الحرية، سيسجل التاريخ أن الثورة السورية واحدة من أعظم الثورات في العصر الحديث، على الخائفين أن ينتبهوا إلى المتظاهرين وشعاراتهم ولافتاتهم، عليهم أن يروهم بحب أولاً، بإحساس بالشراكة والمواطنة، بعين الخائف على سوريا، لا على مصلحة ولا على مكتسب وهمي ولا على طائفة، تجربة اكتشاف سوريتي داخلي وسوريتي مع الآخرين لا تعادلها أية تجربة أخرى ـ أشعر بالأسى حين أرى أشخاصاً أحبهم يرفضون الخوض في هذه التجربة بذرائع مختلفة، لكن الجمال القادم ولو بعد حين سيشملهم أو سيشمل ابناءهم فيما بعد
الجرأة
ما الذي يدفعك للحديث بصراحة وجرأة إلى هذا الحد، فيما زملاؤك من المثقفين مختفون في معظمهم، كيف تنظرين إلى حال المثقف أمام ما يجري؟
لا أعرف عن أي جرأة تتحدث؟ أنا لا أقول إلا جزءاً بسيطاً مما يقال في الشارع. أنا شاعرة ومثقفة ربما، وهذا اقل الواجب، أن أساند ولو بالكلمة، ثم لا أعتقد أن هناك مثقفاً ممن أيدوا الثورة مختفٍ أو متوارٍ، الجميع يكتبون ويعبرون عن آرائهم، هناك شيء اكتشفته خلال هذه الفترة، أن للجرأة مستويات مثلما للخوف، وهي تتبع الطبيعة الشخصية لكل منا، اكتشفت أن منسوب الجرأة عندي أعلى كثيراً من منسوب الخوف وهذا إيجابي، على صفحتي على الفيسبوك أتحدث عن رأيي الشخصي، أنا لا أشتم أحداً ولا أخون أحداً ولا أقبل لا بالشتم ولا بالتخوين ولا بالتحريض الطائفي. حذفت من قائمة اصدقائي كل من يشتم او يخوّن أو يحرّض على صفحتي ومن الطرفين. أكيد أنا لست في الوسط. أنا منحازة كلياً إلى الثورة والتغيير، ولكن ربما من موقعي ككاتبة أعرف كيف أحافظ على نفسي دون أن أتعرض للأذى، وإن كان في مرحلة ما كلنا معرضون له بطرق مختلفة، أعتقد أيضا أنه من المرات النادرة التي يصبح المثقف السوري فيها جزءاً من الحدث اليومي، متلاصقاً مع الجميع، جزءاً من الشارع، أنظر إلى عدد الشعراء والكتاب والتشكيليين والموسيقيين والممثلين والصحافيين الذين نزلوا إلى الشارع أو الذين تم اعتقالهم أو الذين تم الاعتداء عليهم أو الذين خوّنوا وأسيء إلى سمعتهم وتاريخهم وحضورهم الاجتماعي والثقافي، ستدرك حينها أنني محقة. أكيد هناك مثقفون يقفون مع النظام، هذا حقهم طبعاً على أن يعترفوا بحقي في الوقوف مع الثورة، هناك مثقفون اختاروا الوسطية أو الصمت المطبق. شخصياً أرى الوسطية أو الصمت هو موقف اللا موقف. على المثقف أن يكون صاحب موقف، أياً كان موقفه، الصمت ليس موقفاً ولا الوسطية موقفاً، ليس في مفاصل تاريخية كهذه، ولا في حدث عظيم كهذه الثورة. عموماً هم يخسرون اختباراً استثنائياً لن يتاح لهم مرة أخرى
السفير – 11/11/2011