زياد ماجد والثورة السورية «اليتيمة»: عندما يكتب الرفي – عبدالله أمين الحلاق
كثيرة هي الكتابات والمؤلفات التي كتبـــت وطُبعــــت بعد الثورة السورية وعنــــها، من كتّاب سوريين وعرب وغربيين. وهــذه، وإلى جانب كونها دليلاً بالغاً على قـــوة حضور الحدث السوري في الشأن الثــــقافي والسياسي المكتوب، فإنها تبدو أكـــثر دلالة عندما تصدر عن كاتب ومثقف مـــثل زياد ماجد. مرد ذلك الى لبنانيته على ما تحتـــمل تلك اللبننة من تأويلات سورية مختلــفة، وثانياً الى تاريخه المناصر لقـــضية تحرر الشعبين السوري واللبناني مـــن سلطة الأسدين وحق الشعب الفلسطـــيني في التحرر وإقامة دولته، وثالثاً كمّ الجــهد الذي يبذله ماجد لإيصال رسالــــة الثورة السورية إلى الغرب عبر منابر هذا الغرب وإعلامه التي يتحدث عبرها.
في ما خص انتماءه اللبناني المختلف عن لبننة آخرين، فإن إرثاً ثقافياً وسياسياً، يسارياً ونهضوياً في حالة زياد ماجد، هو الذي يجعل الثورة السورية ونجاحها في إسقاط الأسد، على صعوبات وتعقيدات ذلك اليوم، فاتحة تغيير في بلدان هذا المشرق. وبناء على ذلك، لم يكن كتاب زياد ماجد الأخير «سورية – الثورة اليتيمة»، والصادر عن دار شرق الكتاب أوائل 2014، إلا واحداً من كتابات تخالها سوريّةً لفرط علاقتها بالحدث السوري ورصانتها ودقتها، واستشراف آفاق هذه الثورة اليتيمة حقاً، وسبر يومياتها.
يُتم الثـــورة السورية والمعنون به الكتـــاب، وهو استعارة من مقاربة فاروق مردم بك وتوصيفه للثورة، يتحدث عنه زياد ماجد بإسهاب في فصلين، مركزاً على مقـــولات الخوف والحكمة: الخوف مـــن الثـــورة وما بعدها، والحكـــمة الشكلية المدّعــاة في النظر إليـــها. عن الخوف، يتحدث الكاتب عن «خوف الاقليات من الاستبداد الافـــتراضي او المحتمل مجيئه»، وفي هذا مدعـــاة دعم للاستبـــداد الفـــعلي القائم منذ 4 عقود، والخــوف الثاني «الخوف المزعوم علـــى سورية وعلى السلم الأهلي، وليس على القتلى واحتمال تزايدهم اليومي».
أما الحكمة، فتتجلى في أن «محايدين مزعومين ادعوا الحكمة وهي تختزن كراهية لأكثرية السوريين، عبر اختصارهم بإسلاميين، أو عبر ادعائهم تأييد حقوق السوريين لو لم يدافعوا عن وجودهم بالسلاح، أو عبر زعْم أن ما أصابهم يمكن هضمه خشية انكشاف سورية على التدخل الخارجي والفوضى وغياب بديل للأسد، أو عبر تحميلهم مسؤولية دفع القاتل إلى قتلهم والتنكيل بهم، وكأنهم يقولون إن الثورة على المجرم لا تصح لأنه بالتحديد مجرم».
هذا المجرم، هو نظام صادر الحيز العام ومساحات التعبير وكل فسح التجمع والانتظام السياسي، وفرض التنظيم والطـــاعة القســـرية لرأس النظام، وبها حكمَ حافــظ الأسد «فابتنى نظماً وهياكل بعضها منسوخ عن تجارب ديكتاتورية كلاسيكية – ستالينية وتشاوتشيسكية وكيم إيل سونغية – وبعضها الآخر منطلق من ديناميات بعثية تتخطى الحدود «القطرية» لتصـــيب فلسطيــــن ولبنان وقضايا المنطقة، ولتجرى ترجمتها إلى سياسات وممارسات وفرت للنظام دعاية وأوراق تفاوض إقليمي ودولي، ومداخيل عظيمة الأثر في تأمين استمراريته وتطوير علاقاته، لغاية رحيل مؤسسه وتوريثه المُلك لابنه».
ضد هذا النظام، نظام الأسد الأب والأسد الابن، اندلعت الثورة السورية، وهو ما ذهب زياد ماجد في شرحه مفصلاً، وفي الكتابة عنه بنيةً وسياسات داخلية وخارجية من جانب النظام وتحديداً في البلد الجار لبنان. نظام فردي قوامه ومركزه شخص واحد سيستحيل مركزاً لكل سورية التي تدور في فلك نظامه لعقود طويلة. عبادة الفرد هي المسألة الاساسية والتي تذهب شريحة من السوريين في التضحية بنفسها فداءً له في أحيان كثيرة، وإن بعد انكسار هيبته وتماثيله وتحطيم قدسيته وأبَده في كـــل سورية. هكذا تتحدث الباحثة ليزا ويدين عـــن هذه الظاهرة: «بالإضافة إلى السلاح وغرف التعذيب، تهدف عبادة الأسد إلى تطويع الناس وفرض مناقبية عليهم يقومون بموجبها بالتصرف وكأنهم يعبدون قائدهم ضمن فلسفة «التصرف وكأننا مصدقون» من خلال سياسة العبادة هذه».
لا يغفـــل الكاتب التحولات التي شهدتها الثورة السورية في كل أطوارها، إذ «نحا الكـــفاح المسلح شيئاً فشيئاً نحو راديكالية إسلامية غذّاها معينوها بالموارد ليشتد قوامها، في وقت لم يقم المجتمع الدولي بواجبه قبل صعودها لحماية الشعب الســوري من آلة قتل النظام المسلح روســياً وإيرانياً، والمدعوم بألوف المقاتلين الطائفيين العراقيين واللبنانيين، ولم يأتِ لاحـــقاً ظهور جماعات عدمية مرتبطة بالقـــاعدة إلا ليزيد مصائب السوريين، إذا اندفـــع طرف من خارج دائرة الصراع ليجلب سلاحه وعدّته الإيديولوجية ويقضم بعـــض المساحات التي حررتها الثورة من النظـــام، ويقـــضم معها كثراً من محرريها».
ومع الكفاح المسلح في الثورة، ارتبط السلاح بهوية الداعمين اكثر من هوية المدعومين بهذا السلاح، وعن ذلك وعن ضعف استقلالية المعارضة عن مصادر تسليحها، يقول زياد ماجد:
«إن كل الثورات وحركات التحرر في العالم الثالث تلقت دعماً خارجياً من قوى وجهّات لم تكن مرة مثالية، وأن النجاح كان يقاس وفق أداء الثورة او حركة التحرر وقدرتها على استقلالية نسبية في قراراتها، وليس وفق نزاهة داعميها».
وبعد كل ذلك العنف المديد الذي لحق بسورية نتيجة ما بدأه النظام الأسدي من حرب ضد الثورة، يبقى من الصعوبة البالغة التسليم بعلاج سريع للمجتمع السوري قد تقوم به مصالحة ما، أو تسوية سياسية، حيث «لا يمكن التكهن بما ستنتجه ثقافة صور القاتل والضحية على حد سواء… وحيث العالم يرى الموت يتدفق من أفواه وأيادٍ وأصوات، ويراه يهبط من أشخاص يمكن سوريين أن يعرفوهم وأن يعرفوا أماكن عيشهم، وفي نزع القناع عنهم، ما ينهي فرضيات بقائهم في المتخيل الجمعي كائنات مجهولة تصعب ملامسة تفاصيل وجوهها، والتنبه الى كلماتها، والتطبيع المفترض اللاحق في الحياة اليومية مع ذويها… إنّ صور سورية هي تمرين على التسامح المستقبلي المطلوب مع أطفال القتلة السافري الوجوه، وليس معهم هم، وهي بذلك محاولة شاقة للرؤية بالعقل أولاً وآخراً، ولو من خلف الدموع أو الذهول، إلى أن تتيح الأزمنة المقبلة رؤية من خلف افتخار بطي صفحة دموية مروعة، إلى الأبد».
يصعـــــــب إيجاد تصور واضح او قريب من الواقع في المآلات المحتملة للثورة السورية ومعها سورية بأسرها، بعد 3 ســـنوات من اندلاعها، وهي الثورة الجذرية الـــتي هدمت كل المنظــــومات التي سحقتها لعــقود طويلــــة وأخرجــــت أحشاء المجتمع مع ما أخرجته وما أزاحته من غطاء وقشوـــر وطبائع ونزعات كانت مخبّأة في هذا المجتمع بفعل القبضة الأمنية للنظام، «وفي هذا أيضاً واحد من مكامن خطورتها، إذ صار فيها اليوم عنف بمقدار ما كان فيها من طاقة على احتمال العنف ونبذه سابقاً». وهي تفتقر إلى حسابات الربح والخسارة، شأنها شأن الثورات التي قامت في وجه المستحيل، وحققت عودة الناس إلى الحرية وتمرينهم عليها بجزء كبير على رغم اليتم والآلام، «ولا يبدو بأي حال من الأحوال أن هذه الثورة ستتوقف».