سلام الكواكبي حول صدور كتاب « طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد » بالفرنسيّة، ونمو خطابات الرُهاب من الإسلام في الغرب، والمسألة السّوريّة بعد حلب.
24يونيو 2017بقلم أوس داوود يعقوب
حوار مع الكاتب والباحث سلام الكواكبي
حول صدور كتاب « طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد » بالفرنسيّة، ونمو خطابات الرُهاب من الإسلام في الغرب، والمسألة السّوريّة بعد حلب.
في هذا الحديث مع الكاتب والباحث في العلوم السّياسيّة والعلاقات الدّوليّة: سلام الكواكبي؛ مدير بحوث ونائب مدير في « مبادرة الإصلاح العربيّ » الّتي تتّخذ من باريس مقرًّا لها، نتطرّق إلى صدور كتاب « طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد » لجدّه المفكّر التّنويريّ: عبد الرّحمن الكواكبيّ، في طبعة فرنسيّة – هي الأولى من نوعها – بعد مرور أكثر من مائة وثلاثين عامًا على صدورها باللّغة العربيّة، كما يأخذنا الحوار معه إلى التّطرّق لقضايا الرّاهن السّياسيّ، في وقت تشهد فيه سوريا ومنطقة الشّرق أوسطيّة تغيّرات تاريخيّة تتصارع فيها تصوّرات عدّة للمستقبل.
ضيفنا متابع نشط لشؤون ثورة شعبه كونه باحثًا ومحللًّا مرموقًا، ويُعدّ من المثقّفين السّوريّين الّذين يحملون الفكرة النّقديّة أساسًا في نتاجهم المعرفيّ والإيديولوجيّ، وهو ما يدعونا إلى الوقوف معه على جملة من المسائل الّتي فجّرتها أسئلة انتفاضات الربّيع العربيّ عامَّةً، والثّورة السّوريّة خاصَّةً، هذه الثّورة الّتي تحوّلت من ثورة شعب ضدّ الاستبداد، من أجل الكرامة والحرّيّة، إلى مناسبة لتصفية الحسابات، ورسم – أو إعادة رسم – دوائر النّفوذ الإقليميّة والدّوليّة، الأمر الّذي ربط مصير الثّورة بمصير التّنافس بين الأطراف المختلفة المتنازِعة للسّيطرة على سوريا.
يرى الكواكبي في حوارنا هذا؛ أنَّ المؤرّخين سيشتغلون طويلًا حول ما حملته وستحمله سنوات الحراك السّوريّ من تداعيات، واختلاطات، واختراقات، واستقطابات، معتقدًا أنّ طلبة العقود القادمة في التّاريخ السّياسيّ، سيجدون المواد الكافية لخطّ مئات الكتب المتعلّقة بهذه الحقبة الزّمنية.
هنا نصّ الحوار..
أوس يعقوب: مرحبًا بك على منبر مؤسّسة « مؤمنون بلا حدود »، بداية: مَن سلام الكواكبي؟ كي يتسنّى لقرّاء ومتتبّعي موقعنا التعرُّف إليك أكثر.
سلام الكواكبي: أنا باحث في العلوم السّياسيّة والعلاقات الدّوليّة، درست الاقتصاد في « جامعة حلب »، والعلوم السّياسية والعلاقات الدّوليّة، دراسات عليا، في « جامعة إكس أون بروفانس » جنوب فرنسا، أعمل مدير بحوث ونائب مديرة في « مبادرة الإصلاح العربيّ » مقرّها المركزيّ في باريس، كما أنّني أستاذ مشارك في « جامعة باريس الأولى » لطلّاب الدّراسات العليا في مادّة « التّنمية والهجرة »، وكنت أستاذًا في العلوم السّياسيّة في « جامعة أمستردام » لسنتين متتاليتين، وأنا باحث غير مقيم في مراكز بحثيّة أوروبيّة وأميركيّة عديدة، منها، على سبيل المثال، « مركز جامعة سانت أندروز للدّراسات السّوريّة » في إسكوتلندا، و »مجلس الأطلسي » في واشنطن، إضافة إلى نشاطِيَ العلميّ، فلديّ مسؤوليّات في منظّمات ثقافيّة ومدنيّة متعدّدة، منها: ترؤّس مجلس أمناء « مؤسّسة اتّجاهات لثقافة مستقلّة »، وعضويّة مجلس أمناء « منظّمة اليوم التّالي »، وترؤّس منظمة « من أجل سوريا جديدة »، وعلى المستوى الدّوليّ: أنا عضو في مجلس أمناء « جامعة الأمم المتّحدة »، وعضو مؤسِّس في مجلس أمناء « مؤسّسة مجلس مواطنِي ومواطنات البحر الأبيض المتوسط ».
قبل قدومي إلى فرنسا سنة 2006، عملت لسنوات طويلة مديرًا لـِ « المعهد الفرنسيّ للشّرق الأدنى » في حلب الشّهيدة.
أوس يعقوب: أبدأ معك هذا الحوار بسؤالِك عن التّرجمة الفرنسيّة لكتاب « طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد » لجدِّك المفكّر التّنويريّ: عبد الرحمن الكواكبيّ، التي صدرت العام الماضي (2016)، عن « دار آكت سود » في باريس: ما معنى صدور هذا الكتاب – اليوم – بلغة « موليير »، ونحن نعلم أنّه لم يصدر سابقًا بأيّ لغة من اللّغات الأوروبيّة، وأنّه مجهول تمامًا من قبل قرّاء الثّقافات الأخرى، مادام لم ينقل إلى لغاتها؟ وما أهميّة صدوره بالنّسبة إلى قرّاء الفرنسيّة في فترة مهمّة وحساسة، خاصّة، وأنّه تزامن مع ما شهدته باريس من أحداث إرهابيّة في العامين الماضيين، خاصّة، حادثة صحيفة « شارلي إيبدو »؟
سلام الكواكبي: لقد صدر الكتاب في مرحلة حسّاسة فعلًا تمرّ بها الدّول الأوروبيّة، كما يمرّ فيها الإسلام – في أوروبا على الأقل؛ حيث تنتشر من جهة الانغلاقات العقائديّة نحو التّطرّف، ومن جهة أخرى؛ تنمو خطابات الرّهاب من الإسلام الّتي تخلط الأمور، عن قصد أو دونه، ويجب التّنويه إلى أنّ أعمال الكواكبي يعرفها الباحثون الغربيّون في تاريخ المنطقة، كما العالمون بالسّياسة وحركات الفكر المعاصر فيها، كما في الثّقافة الإسلاميّة، وأكاد أقول: إنّ انتشار المعرفة بالكواكبي لدى النّخبة المثقّفة في الغرب، أكثر تطوّرًا من معرفة بعض أبناء جلدتنا من مُدّعي الثّقافة، أو المولجين بمفاتيحها، بالمقابل، فقد كان الجهل بأعماله منتشرًا في أوساط غير المهتمّين بالمنطقة، والشّباب خاصّة، إضافة إلى أنّ هناك أهميّة قصوى لنشر الفكر التّنويريّ في أوساط الشّباب المسلم الّذي لا يتحدّث العربيّة، وتسيطر على توجّهاته الفكريّة بعض الحركات المتطرّفة، عن دراية أو عن جهل، وقد كانت هذه الفئة كثيفة الحضور في النّدوات الّتي أقيمت بمناسبة صدور الكتاب، كما حضر الباحثون عن فهم جذور التّطرّف والابتعاد عن الفكر الدّينيّ السّليم، أو على الأقلّ، الفكر المدنيّ الّذي صدر عن رجال دين، ولا يمكن أن يُشكك أحد، من المتبحّرين الجدّيّين في العلوم الدّينيّة، في مصداقيتهم وعلمهم.
أوس يعقوب: أرجو أن تحدّثنا عن الشّيخ عبد الرّحمن الكواكبي؛ الّذي قُتل مسمومًا في القاهرة عام 1902م، من أجله قضيّته المركزيّة، وهي: الإطاحة بالاستبداد، وإقامة نظام دستوري تعدّدي، وعن كتابه « طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد » الّذي لايزال يمثّل أحد عوامل النّهضة في تاريخ العرب الحديث، ويرشدهم إلى التّخلّص من الاستبداد، رغم مرور نحو 115 سنة على صدوره.
سلام الكواكبي: لقد عالج الشّيخ الكواكبي – بدقّة وتفصيل – مسألة الاستبداد والحكم المطلق في كتابه « طبائع الاستبداد »، وحاول أن يتخيّل مجتمعًا إسلاميًّا في مؤتمر يبحث حال المسلمين ودينهم، فكان كتابه الثّاني « أم القرى »، وفيه تعبير صريح عن رغبته بوجود مؤسّسات يتبادل ضمنها أهل العلم الآراء، ويعملون على الاجتهاد والتّفسير بأسلوب جماعيّ منتج؛ « فالجمعيّات المنتظمة يتسنّى لها الثّبات على مشروعها عمرًا طويلًا، يفي بما لا يفي به عمر الواحد الفرد، وتأتي بأعمالها كلّها بعزائم صادقة لا يفسدها التّردّد »، لقد آمن الكواكبي – مبكّرًا – بقضيّة الحرّيّة؛ حيث « (…) أطلقت الأمم الحرّة حرّيّة الخطابة والتّأليف والمطبوعات مستثنيةً القذف فقط، ورأت أنّ تحمّل مضرَّة الفوضى في ذلك خير؛ لأنَّه لا مانع للحكّام من أنْ يجعلوا الشّعرة من التّقييد سلسلة من حديد، ويخنقوا بها عدوّتهم الطّبيعة؛ أي الحرّيّة »، وفي خطابه مناداة واضحة لفصل السّلطات داخل جهاز الدّولة، لتجنّب أن تتحوّل السّلطات، إذا اجتمعت، إلى مصدر استبداد وظلم، فيتساءل: « هل تجمع سلطتَين أو أكثر في شخص واحد؟ أم تخصّص كلّ وظيفة من السّياسة والدّين والتّعليم بمن يقوم بها بإتقان؟ ولا إتقان إلّا بالاختصاص، ولذلك؛ لا يجوز الجمع منعًا لاستفحال السّلطة »، وفي هذا الإطار؛ تبنّى نموذج الحكومات الدّستوريّة العادلة القائمة على الفصل بين السّلطات، ونادى بإلغاء الدّولة الدّينيّة – كدولة سياسيّة – داعيًا النّخبة المثقّفة إلى نشر مسألة التّمييز بين الدّين والدّولة بين العامّة، وعند دعوته إلى عودة الخلافة إلى العرب؛ فهو حصر مهامّ الخليفة في حلّ المسائل الدّينيّة، والتّجديد، وإزالة الزّيادات الباطلة، وقد حمله صراعه الفكريّ مع الاستبداد على تشريح طبائعه في تعريف الاستبداد؛ ما سببه؟ ما أغراضه؟ ما سيره؟ ما علائمه؟ ودواؤه؟ ما طبائع الاستبداد؟ لماذا يكون المستبدّ شديد الخوف؟ لماذا يستولي الجبن على رعيّة المستبدّ؟ ما تأثير الاستبداد في الدّين، العلم، المجد، المال، الأخلاق، التّرقّي، التّربية، العمران؟ من أعوان المستبدّ؟ هل يُحتمل الاستبداد؟ كيف يكون التّخلّص منه؟ بماذا ينبغي استبداله؟
أوس يعقوب: ماذا عن حضور فكره النّهضويّ التّنويريّ في الدّراسات الجامعيّة في الجامعات الغربيّة عامَّة، والفرنسية خاصَّة؟
سلام الكواكبي: احتفظ بنسخة أصليّة من كتاب للباحث الفرنسيّ « فرانسوا تابيرو »، صدر في بداية خمسينيّات القرن الماضي حول فكر الكواكبي، وأعتقد أنّه المرجع الأوّل والأهمّ غربيًّا عن هذه التّنويريّ، إضافة إلى أنّ الكتب التّخصّصيّة تاريخيًّا وسياسيًّا تُفرد لأفكاره مساحة مهمّة، مُشيرة إلى ريادته الفكريّة، وهناك ترجمات لمقتطفات من كتابيه ومقالاته إلى الألمانيّة والإنكليزيّة والرّوسيّة والإيطاليّة، وأسعى – حاليًّا – إلى إصدار ترجمة كاملة لكتاب « طبائع الاستبداد » باللّغة الألمانيّة.
أوس يعقوب: عاد اسم الشّيخ عبد الرحمن الكواكبي للتّداول – سياسيًّا – في مطلع الألفيّة الثّالثة، بعد اقتصار ذكره على الجانب التّاريخيّ والتّراثيّ لسنوات طوال، وذلك عبر مجموعات شبابيّة سلميّة للحوار، في بداية ما سمّي بـ « ربيع دمشق » عام 2000م، هل لكم أن تفسّروا هذا بوضوح؟
سلام الكواكبي: إنّ استعادة النّصّ الّذي أتى به تكاد تجعل تاريخ كتابته مجال التباس، فقد اتّصلت إحدى الصّحفيّات الفرنسيّات، بعد صدور التّرجمة، طالبة الحديث مع مؤلّف الكتاب، ولم تصدّق أنّ هذه النّصوص كُتبت في نهاية القرن التّاسع عشر، اطلاعها محدود طبعًا، لكنّ هذا الاستغراب مؤشّر مهمّ على راهنيّة ما طرح؛ حيث ما زلنا اليوم نعيش في ظروف ربّما أسوأ من تلك الّتي واجهها في كفاحه؛ فالاستبداد، وإن تطوّرت أدواته، مازال يرتع في ربوع العديد من الدّول العربيّة والإسلاميّة، والظّلاميّة في بعض من الفكر والممارسة الدّينيّة ما زالت تمارس ضغطًا على الإبداع والفكر والتّعبير.
لقد وجد أيتام الحرّيّة مرجعيّة فكريّة واضحة وسلسة التّوصيل في كتابات الكواكبي، فتبنوها سياسيًّا وفكريًّا، وقد مثّل فكره قاسمًا مشتركًا – في فترة « ربيع دمشق » – بين كلّ السّاعين إلى الانعتاق من الاستبداد، وعُدَّ قادرًا على إيجاد الأرضيّة المناسبة لالتقاء الاتّجاهات الوطنيّة كافّة؛ من قوميّة، إلى يساريّة، إلى ليبراليّة، إلى إسلاميّة، وبعد أن اُطلق اسمه على أحد منتديات الحوار الرّبيعيّة المُجهضة، وجدنا – أيضًا – أنّ العديد من مؤسّسات الفكر وجمعيات الحقوق في دول عربيّة وغربيّة، اختارت أن يحمل عنوانها اسم هذا السّوريّ الّذي كتب « مانيفستو » مؤسّس ضد الاستبداد، ظانًّا أنّه سيُنسى بعد سنوات قليلة، منتظرًا تغييرًا لم يحصل، وحيث تدهورت أمور الحرّيّات بشكل كارثيّ في بلده، وفي البلدان الشّبيهة.
الحراك الاحتجاجيّ الشّعبيّ، وجحيم المقتلة السّوريّة:
أوس يعقوب: أنتقل معكم إلى الحديث في الشّأن السّوريّ، وسؤالي هو: برأيكم من يتحمّل مسؤوليّة انجرار الحراك الاحتجاجيّ الشّعبيّ السّوريّ، الّذي بدأ في منتصف آذار/ مارس 2011م، إلى كلّ هذه المآسي الّتي يعيشها أبناء الشّعب في طول البلاد وعرضها، فضلًا عن نمو الجماعات المتشدّدة دينيًّا، وتمدّد أصحاب الرّايات السّوداء، واستجلاب جماعات وقوى – إقليميّة ودوليّة – إلى الأراضي السّوريّة، ما ضاعف جحيم المقتلة السّوريّة؟
سلام الكواكبي: سيشتغل المؤرخّون طويلًا بما حملته، وستحمله، سنوات الحراك السّوريّ من تداعيات واختلاطات، واختراقات، واستقطابات، وأعتقد أنّ طلبة العقود القادمة في التّاريخ السّياسيّ سيجدون المواد الكافية لخطِّ مئات الكتب المتعلّقة بهذه الحقبة الزّمنيّة، أمّا فيما يخصّ الانتقال من الحراك السّلميّ إلى العمل العسكريّ، فالمسؤوليّات واضحة – على الرّغم من أنّ الاتّهامات متبادلة – وفي ألف باء سيكولوجيّة العمل السّياسيّ؛ فإنّ استخدام العنف يؤدّي إلى تأجيج ردود الفعل العنفيّة، وتدخل المجموعات البشريّة في حلقة مفرغة من العنف والعنف المقابل، المسؤوليّات تتوزّع، نظريًّا، على أكثر من جهة، لكن لها أساسٌ، لا يمكن تجاهله، وهو: القمع العنيف، واللّجوء إلى استخدام القوة المسلّحة في وجه الحراك السّلميّ، فيما تلا ذلك، صارت السّاحة مفتوحة أمام ردود الفعل، واستغلالات إقليميّة ودوليّة لها، كما أسّست سنوات التّصحير الثّقافيّ، الّتي خاف فيها الحاكم من أيّ بادرة تنوير دينيّ أو سياسيّ، وعدّها تشكّل خطرًا على استقراره، أسّست لظلاميّة اجتماعيّة جرت رعايتها بطريقة شبه رسميّة لحرف الأنظار عن المجال السّياسيّ، والغوص في تفاصيل الممارسات الدّينيّة في أدقّ دهاليزها، بعيدًا عن تطوير الفكر النّقديّ مجتمعيًّا وسياسيًّا.
وأذكر فيما أذكر، الاستدعاءات والتّحقيقات الّتي جرت معي إثر تنظيم مؤتمر فكريّ بمناسبة مئويّة وفاة الكواكبي، لم يُعجب المسؤول – حينذاك – أن تطرّقنا إلى ضرورة تجديد الفكر الدّينيّ، وإعمال العلوم الإنسانيّة الحديثة في فهم النّصّ، وتأريخه، ووضعه ضمن سياقه، كما فعل مجموعة من المفكّرين برقيّ كبير، أثناء هذه النّدوة، ومنهم: الرّاحل الصّديق نصر حامد أبو زيد، وقد أسرّ لي بوضوح وشفافيّة أحد المحقّقين: أنّه « لا ضرورة لتنوير ما عملنا على تظليمه لسنوات طويلة ».
إنّ الاعتقاد المهيمن لدى الأنظمة غير الدّيمقراطيّة، بأنّها ستتمكّن، في مغازلة التّطرّف الدّينيّ سعيًا إلى استيعابه أو استخدامه، من السّيطرة على المجتمع بشغله عن المجال السّياسيّ، وقد أثبت هذا الاعتقاد خيبته دائمًا، والتّاريخ مليء بالعبر.
من جهة أخرى؛ في حالة الضّغط العنفيّ، تلجأ المجموعات البشريّة المحرومة من أي تأطير سياسيّ حداثيّ، إلى الانكماش والانسحاب إلى الهويّات الأساسيّة، وفي مجتمعاتنا هي: الدّين والمذهب، إضافة إلى القبيلة طبعًا، لقد وضعت حكومات ما بعد الاستقلال تلاوينها، وبفشلها في وضع عقد اجتماعيّ، وبناء دولة/ أمّة، مجتمعاتها في عرين كلّ أشكال التّطرّف الدّينيّ أو سواه، استغراب وصولنا إلى ما وصلنا إليه؛ هو المستغرب في هذه الحالة، وليس العكس.
وعندما تفشل الدّولة الوطنيّة في التّعامل – سلميًّا – مع مطالبات الإصلاح والتّغيير الدّيمقراطيّة، فمن البديهيّ أن تفتح المجال للتّدخلات الإقليميّة والدّوليّة الّتي تبحث، في غالبها، عن مصالحها، وليست معنيّة بقضيّة الحرّيّات والحقوق إلّا في إطار الحجّة، إنّ الطّغاة ينادون الغزاة.
أوس يعقوب: لماذا فشلت المعارضة – كأشخاص مستقلّين أو هيئات – في تقديم رؤىً جديدة بعيدة عن النّخبويّة، وغير بعيدة عن الواقع، وأقرب ما تكون إلى المطالب الشّعبيّة الدّاعيّة إلى تغيير النّظام السّوريّ، من نظام خاصّ بحزب واحد إلى نظام عامّ؛ أي وطنيّ؟
سلام الكواكبي: ربما أكرّر ما قيل ويقال: إنّ السّاحة السّياسيّة السّوريّة لم تعرف ممارسة طبيعيّة طوال العقود الخمسة الماضية، على أقلّ تقدير، وقد نمت معارضات سياسيّة في الظّلام، وفي ظلّ القمع الفكريّ والجسديّ المشهود له عالميًّا، بالتّالي، كان هذا النّمو غير طبيعيّ وغير صحيّ، وتأميم المجال العامّ من إعلام إلى العمل المدنيّ إلى النّشاط السّياسيّ، القائم في سوريا منذ عقود، نتج عنه ظهور جماعات سياسيّة عقائديّة تتقمّص عقليّة النّظام نفسها، وتستعمل أدواته السّياسيّة نفسها، وفي تهميش الأحزاب ودورها، تحوّل المرخّص منها إلى النّفاق والانتفاع، ومن هو غير مرخّص، إلى أقبية السّجون أو بلدان اللّجوء، أو حتّى في القبور، من هنا، أتت المعارضة، لذا؛ يجب أخذ الأمور بنسبيّة ممارستها المحدودة، وخبرتها المعدومة، عدا في الهروب والتّخفّي، ووقع على كاهلها تمثيل حراك شعبيّ عفويّ وغير مؤطّر بالمعنى التّنظيميّ، وقد فشلت الهيئات والأفراد في تأدية هذا الدّور، يجب الاعتراف بذلك، مع الإشارة إلى أنّ القول بعدم وجود الثّقافة السّياسيّة اللّازمة، أو الخبرة، أو العلم، غير واقعيّ؛ فطالب العلوم السّياسيّة يتعلّم في ثلاث سنوات ما لم يتعلّمه عتاة معارضينا في ستّ سنوات، إنّ الأنا الذّاتيّة المقتنعة الرّافضة للتّشاور والمشورة، والاعتراف بالنّقص، أو الحاجة إلى الاستكمال والإغناء، هي ظاهرة منتشرة، وأعتقد أنّ لها علاقة بثقافة سائدة أكثر ممّا هي مرتبطة بمعارضة أو بنظام، أمّا فيما يتعلّق بالنّخبويّة؛ فأنا أختلف معك قليلًا بالظّنّ أنّ تحوّل بعض منتجِي الفكر إلى محاكاة المشاعر ومحاباتها، سعيًا إلى شعبيّة مبتغاة، أو ظنًّا أنّ التّقرّب من الشّارع أطاح بفكرهم من جهة، كما أطاح بتأثيرهم المباشر من جهة أخرى، وأنا أكاد لا أجد في خطاب المعارضة السّياسيّة أية نخبويّة، لكن أجده فقيرًا من المشاريع ومن الرّؤية، ومن تّحليل الواقع والتّخطيط لما يُبتغى، وأكاد أعتقد أنّ استقالة بعض المثقّفين من دورهم التّوعويّ والتّعليميّ والتّثقيفيّ والإرشاديّ، وانخراطهم في العمل السّياسيّ أساء أكثر ممّا نفع.
أوس يعقوب: ما تقييمكم لسلوك المعارضة السّوريّة، سواء في الدّاخل أو في الخارج، الّتي نراها في الدّاخل عقيمة أو مشلولة، وفي الخارج تسعى وراء الدّول الأخرى لنيل الاعتراف والتّمويل، دون أن يفوتنا ما كتبتَه أنت في مقال سابق، تقول فيه: « إنّ أهمّ ما يميّز المعارضات السّوريّة في السّنوات الخمس الماضية، هو الابتعاد تمامًا عن ممارسة أي فعل اعتراف بخطأ، أو محاولة تصحيح ما ارتكبته – عمدًا أو سهوًا – من أخطاء مترامية الأبعاد ومأساويّة الوقع »، وهل يمكن التّعويل على هكذا معارضة للوصول إلى سوريا الجديدة، في ظلّ معادلة الصّراع الحاليّة؟
سلام الكواكبي: لا أستطيع أن أقيّم سلوك؛ بل أكتفي بالأداء الّذي أثبتت محدوديّته، إن لم يكن فشله، ومن الظّلم أن نعتقد أنّ هذا من مسؤوليّة المعارضة فقط، فقد انغمست في المسؤوليّة حدود التّحرّك المقيّدة، وفقدان أي هامش للمناورة داخليًّا وللمساعدة خارجيًّا.
إنّ فخّ الاعترافات والمساعدات أبعد جزءًا من المعارضة عن المشروع الوطنيّ، وكاد أن يحوّل بعض تشكيلاتها إلى أدوات لا يتحكّم فيها السّوريّون، أمّا الاعتراف أو الاعتذار؛ فهما تعبيران شبه نادران في الممارسة منذ قرون، وعلى سبيل المثال: هل نذكر أنّ أحدًا من النّاصريّين اعترف أو اعتذر عن الممارسات الدّيكتاتوريّة لحكم عبد النّاصر، وتأسيسه لمفهوم « الدّولة الأمنيّة » مع كلّ حمولته الوطنيّة؟ وهل مِن الشّيوعيّين مَن اعترف أو اعتذر عن التّبعيّة العمياء لهطولات موسكو، ستالينيّة كانت أو غير، الّتي أودت بحيوات ملايين من البشر، وأسّست لغولاج كان يجد مناصريه في بلداننا؟ وهل من الإسلاميّين مَن اعترف أو اعتذر عمّا اقترفته جماعات منشقّة أو منفصلة عنهم من جرائم بحقّ الأبرياء؟ وهل من البعثيّين الحقيقيّين مَن اعترف أو اعتذر عن الفكر الشّوفينيّ والإقصائيّ الّذي أسّس لعقيدته، أو عن الممارسات القمعيّة الّتي رافقت الحكومات البعثيّة ما قبل الأسد؟ ربّما فعلها أشخاص يعدّون على أصابع اليد الواحدة. بالمحصّلة: المعارضة السّوريّة تشكّلت من مزيج غير متجانس ممّن سبق وذكرت، فتصوّر النّتيجة.
أوس يعقوب: ما رأيكم في ما يراه البعض من أنّ جهود مؤسّسات المجتمع المدنيّ في الدّاخل السّوريّ وهيئاته، هي جهود عبثيّة؛ إذ إنّ الشّارع، المشغول أساسًا بقوت يومه، والإنسان هناك مهدد يوميًّا في وجوده؟ وهل المؤسّسات والهيئات وما ينضوي تحتها قادرة على الوقوف في وجه الخطابات المختلفة الّتي تقدمها « النّخب السّياسيّة والمثقّفة » الّتي تحتكر المنابر وتصادر آراء النّاس وصوت الشّارع؟ وهل يوجد حلّ لحالة الفصام بين ما تراه هذه « النّخب » وما يعانيه النّاس في كلّ المدن السّوريّة؟
سلام الكواكبي: المجتمع المدنيّ، بمعناه الحديث، لم يكن موجودًا في سوريا ما قبل العام 2011م، كان هناك مجتمع خيري مؤطّر بشدّة، أو مجتمع مدنيّ شديد الحكوميّة، ممثّلًا، أساسًا، بالأمانة السّوريّة للتّنمية، ومن « إنجازات » الانتفاضة الشّعبيّة وما تلاها من مسارات: انبثاق مجتمع مدنيّ سوريّ جديد، مع كلّ ما يمكن أن يحمله من إيجابيّات وسلبيّات، في سنوات الممارسة الأولى خاصّة، وأعتقد أنّه قام بدور أساسيّ ومهمّ في إدارة التّكيّف، ودعم التّعليم والصّحّة، كما في نشر الوعي الحقوقيّ وتطوير المجال الإعلاميّ البديل، أمّا فيما يتعلّق بالفصام؛ فهو موجود منذ القديم، وقد تطوّر – ربما سلبًا – ببعض التّصريحات الغرائبيّة لبعض المثقّفين حول طبيعة الحراك الشّعبيّ (أدونيس مثلًا)، أو بالتّصوّرات النّظريّة المعقّدة الّتي آلت عن نفسها التّبسيط في سبيل الوصول إلى شريحة أوسع، ولنكون منصفين؛ فقد أبعدت غالب التّشكيلات السّياسيّة المعارضة أصحاب الفكر الحرّ عن آليّات اتّخاذ القرار لديها، وحفلت ببعض من ادّعى وصلًا بالفكر، مع ما يشكله ذلك من عقدة نقص وموقف عدائيّ نحو الآخر، ومن جهة أخرى؛ أبعد كثيرًا من المثقّفين أنفسهم عن التّأثير في العمل السّياسيّ، ترفّعًا عمّا اعتقدوا أنّه مستنقع لا مكان لهم فيه، حصلت، إذن، قطيعة أثّرت سلبًا في الخطاب وفي الممارسة، وأخيرًا، محاباة بعض النّخب للتّيّارات الظّلاميّة، ظنًّا منها أنّها « تلعب » سياسة، أوقعتها في فخّ السّذاجة الموصوفة؛ حيث إنّ القوى الظّلاميّة أو المتطرّفة تعي تمامًا، على عكس محابيها، من أين تؤكل الكتف، وكيفيّة التّوصّل إلى ما تريد من استخدام جميع الوسائل الشّرعيّة وغير الشّرعيّة.
أوس يعقوب: أين دور « النّخب المثقّفة » السّوريّة في التّأسيس لحضور ما يريده أبناء الشّعب المنتفض، طلبًا للحرّيّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة والعيش الكريم؟ وهل توجد قنوات قادرة على إيصال أصوات النّاس الاحتجاجيّة، الّتي تمثّل رؤية جديدة لمستقبل المنطقة، في ظلّ غياب الرّؤية الواضحة للمستقبل لدى « نخب » المعارضة، وفي ظلّ التّناقضات المتصارعة على الأرض، والخطابات والتّوجّهات المتعدّدة؟
سلام الكواكبي: نظريًّا؛ لها دور كبير، لكن – عمليًّا – هذا الدّور يصطدم بعقبات الوصول والتّواصل، أضف إلى ذلك، أنّ بعضًا من الجيل الشّاب المتحمّس، يرفض أية « سلطة » فكريّة ضمن ثورته على كلّ الأمور التّقليديّة، ويصل فيه الأمر إلى شتم المثقّفين، وعدّهم نكرات يتحدّثون في أبراجٍ عاجيّة، هذا النّوع لديه تراكم من العقد الذّاتيّة والعقد الموضوعيّة، وإبّان نموّه الفكريّ – أو عدمه؛ فهو يحصل على « ثقافته » من وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ومن مواقع الشّبكة المعلوماتيّة، في أحسن الأحوال، وفي قراءات سريعة برقيّة المحتوى، وبعيدًا عن أيّ تحليل معمّق، لذلك؛ بناءً على هذا التّراكم المعرفيّ المنقوص، وكلّ ما يُظهر ضعف تكوينه، سيكون عدوًّا لدودًا له حتمًا، هناك – أيضًا – جزء من مسؤوليّة القطيعة النّسبيّة، يتحمّلها المثقّفون أنفسهم، لاستخدامهم لغة متعالية، أحيانًا، أو شديدة اليقينيّة، مما يُنفّر القارئ ولا يجذبه نحو رسالتهم، الكواكبي مثلًا، وفي زمنه، فطن إلى مسألة تبسيط التّعابير اللّغويّة في توجّهه إلى العامّة، وأراد للّغة أن تكون وسيلة إيصال، وليست غاية في ذاتها، فابتعد عمّا كان عليه رجالات عصره، من لجوء إلى لغة معمّقة كثيرة التّباين عن الواقع الثّقافيّ والمعرفيّ للسّواد الأعظم من مجتمعه، هناك – إذن – إنتاج علمي تخصّصيّ لغته رفيعة المستوى، ولا ضير أبدًا في حمولتها المعمّقة، وهناك واجب إنتاج معرفيّ عموميّ واسع التّأثير، يستند إلى التّبسيط في عرض الأفكار، والتّقرّب من الآخر لجذبه – في نهاية المآل – إلى قراءات أكثر غنى، أضف على ذلك كلّه: أنّ الثّقافة تحتاج إلى مؤسسات مستقلّة لتنمية انتشارها، وتعزيز التّقارب بين مريديها، وذلك بعيدًا عمّا اعتادت عليه شعوبنا من تأطير حكوميّ تارةّ، وديني تارة أخرى، فالثّقافة تعتمد على الحرية من كلّ التّابوهات، وهي تحوي، كذلك، الفكر الدّينيّ التّنويريّ الّذي يخشاه الجميع من مستبدّين إلى ظلاميّين.
أوس يعقوب: إثر التّغيّرات الّتي تمرّ بها المنطقة، رأينا العدد من الشّخصيّات – الثّقافيّة والأدبيّة – تتوزّع وتنقسم، بعضها شارك النّاس المنتفضة همومها، والتحم بها، وبعضها بقي منخرطًا في خدمة النّظام، والبعض الآخر نأى بنفسه، ما وضعنا أمام ثلاثة أنواع: الأوّل: مثقّف منخرط في خطاب التّغيير والإصلاح، والثّاني: « مثقّف بلاط » غارق في الانتهازيّة، أمّا النّوع الثّالث: « الروماديّ » الّذي لجأ إلى الحياد، كيف تصف هذه الانحيازات؟ وكيف تفسّر هزال « النّخب المثقّفة » المؤيّدة للثّورة، وتنثّرها، وعجزها عن القيام بالدّور الّذي يفترض أنّه منوط بها، في لحظة تاريخيّة نادرة (لا نزال فيها بعد مضي نحو ستّ سنوات)، هل لك أن تستفيض في هذا الموضوع؟
سلام الكواكبي: لقد مارس نظام الاستبداد سياسة « ثقافيّة » جد فعّالة طوال عقود؛ إذ أمّم المشهد الثّقافيّ، وحوّل عناصره إلى الصّمت خوفًا أو اعتقالًا من جهة، أو استقطبها وظيفيًّا من جهة أخرى، وفي مرحلة ثالثة: نجح في إفساد جزء منها، ممّا أتبعه – تلقائيًّا – للخضوع واستنباط التّبريرات، ليست سوريا سبّاقة في هذا الشّأن؛ فمثقّفو البلاط موجودون من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، يعتاشون كالطّيور الطّفيليّة على ما يحمله جلد وحيد القرن من فضلات ومن أعطيات.
من جهة أخرى؛ هناك فئة من المثقّفين تنازلت عن التّعريف « الغرامشي »، الّذي يُقدّم المثقّف على أنّه عضويّ وملتزم بالقضايا العامّة، وصارت تتحدّث عن الاختصاصات الّتي لا يجب أن تخرج من مجالاتها وتتعدى على الشّأن العامّ، وتطوّر منطق التّخصّص إلى درجة تحوّل بعض المثقّفين إلى تكنوقراط هلاميّين متمكّنين من أدوات الإنتاج الثّقافيّ، لكن بعيدًا عن أي انخراط في الشّأن العامّ، ويُضاف إلى ذلك؛ الرُهاب من الإسلام لدى البعض، الّذي دفعهم إلى أحضان المستبدّ، ولنا في ظاهرة بعض مثقّفي اليسار التّونسيّ أبرز مثال، إبّان حكم الرّئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
التعميم غير محبّذ خصوصًا في هذا الحقل، والاستثناءات تكاد تكون غالبة، إن سمحت لنفسي بأن أطلق أحكامًا – إيجابية أو سلبية – فأنا لا أطالب الخائف أو المصاب بالرّهاب، أو الّذي يشكّك في طبيعة مكوّنات الطّرف الآخر بشكل فكريّ، بالمقابل؛ فأنا أصدم إلى حدّ الإدانة من مواقف بعض المثقّفين الّذين يتنطّحون لتبرير سياسات الموت، ويجدون أعذارًا واهية للمستبد، أي مستبد، الصّمت في هذه الحالة خير من الكلام، أمّا أشباه المثقّفين، أو المتثاقفين، فهم كثر، وقد أنتجت سنوات الجمر المئات منهم، ممّن حصل على المناصب المفتاحيّة في العمليّة الثّقافيّة السّوريّة، هؤلاء، لا مجال لهم في ذهنيّ حتّى أفكر في تحليل تصرفاتهم ومواقفهم، وأداؤهم يُعرّيهم دون أي جهد خارجيّ.
أوس يعقوب: هل أنتجت الثّورة السّوريّة مفكّرًا إنسانيًّا جامعًا، أم أنّ المصالح والتّدخّلات كانت تجهض هذه الجهود، لنرى الشّعب السّوريّ دون أي تمثيل؛ بل يتخبّط في ظلّ صراعات القوى الكبرى، دون وجود مفكر أو مفكّرين، يحملون همّه الإنسانيّ؟
سلام الكواكبي: لدى السّوريّين مفكّرين عظماء، ولا يجب أن نبخسهم حقّهم وأحقيّتهم، فقدنا منذ فترة وجيزة واحدًا من أهمّهم، هو الرّاحل: صادق جلال العظم، ونغتني – بشكل شبه يوميّ – بإنتاجات الصّديق ياسين الحاج صالح، أطال الله في عمره. الرّجلان، كمثال محدّد، لم ينفصلا عن واقعهما، ولم يتعاليا على مجتمعهما، ولم ينبذا ما لا يتوافق مع إيمانهما الرّاسخ بمفاهيم العلمانيّة، إلّا بالتّحليل والنّقاش والمواجهة الفكريّة، وقد شكّلت كتاباتهما – كما كتابات العشرات من السّوريّات والسّوريّين، تراكمًا فكريًّا يُبنى عليه بفعاليّة استنباط الاقتراحات العملية التّوافقيّة، في مختلف المجالات الفكريّة والسّياسيّة، لن أعدّد الأسماء، وهي كثيرة ولله الحمد، لكنّ الأزمة الفعليّة تكمن في عمليّة التّوصيل والانتشار، فأكثر من صحيفة عالميّة – مثلًا – عدّت ياسين الحاج صالح ضمير سوريا، هذا – وإن عُدّ مبالغة من قبل البعض – إلّا أنّه أقرب للواقع؛ حيث يحتاج أي مجتمع، مهما تنكّر، إلى ضمير حيّ متّقد يواجه الأفكار بالأفكار، ويطوّر هيكليّة فكريّة تُبنى على أساسها عمليّات التّموقع السّياسيّ والأخلاقيّ، من جهة أخرى؛ أنا شديد الإعجاب بالجيل الشّاب من الباحثين/ المفكّرين، الّذين ينتجون أعمالًا جادّة تساعد في هذه العمليّة التّراكميّة الضّروريّة لبناء المنهاج الحضاريّ والفكريّ للمستقبل، ربّما تغيب أدوات البحث العلميّ الحديث عن إنتاجاتهم، إلّا أنّ المضمون ذا حمولة شديدة الغنى، ممّا يساعد في تجاوز مسألة الأدوات والمنهجيّة.
« الذّئاب المنفردة » وصناعة الإسلاموفوبيا:
أوس يعقوب: لنتوقف هنا عند الهجمات الإرهابيّة الّتي يقوم بها من اصطلح تسميتهم (الذّئاب المنفردة)، ومعظمهم ممّن ينتمون لتنظيم « داعش » الإرهابيّ، سواء في فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا وغيرها من الدّول الغربيّة، لتحدّثنا عن تداعيات هذه الهجمات، سياسيًّا ومجتمعيًّا، وتأثيراتها في قضايا اللّاجئين السّوريّين والجاليات، العربيّة والمسلمة، في الغرب؟
سلام الكواكبي: تأثّرت المجتمعات الغربيّة – طبعًا – بعمليّات « داعش » الإرهابيّة في مدنها، وكان لهذا دور في تغيير موقف البعض من الأنظمة الاستبداديّة القائمة، فبعد أن كانت إدانتها شبه تلقائيّة، صارت التّبريرات تتوالد لدورها وأساليبها بحجّة مواجهة الإرهاب, وأكاد أقول: إنّ « داعش » باتت جهازًا إعلامًّا فعّالًا في نشر الخوف من التّغيير، والانكفاء على الموجود الفاسد المستبدّ، كما استفادت الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة، وهي – بالمناسبة – حليفة المستبدّين في مختلف الدّول العربيّة، لتزيد من شعبيّتها باللّعب على وتر الخوف من الأجانب، والرّهاب من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، وقد أوضحت نتائج انتخابات عديدة في دول أوروبيّة مختلفة هذا التّوجّه، على الرّغم من وعي القوى السّياسيّة التّقليديّة لمحدوديّته، والقدرة على السيطرة عليه، بالمقابل، جهود الجاليات – كما اللّاجئين – محدودة في مواجهة هذه التّيارات، وتقف موقفًا دفاعيًّا أكثر ممّا تنتج عملًا ميدانيًّا، يلفظ دعاة الفتنة، وهم منتشرون – للأسف – في الأوساط الدّينيّة، ويؤسّس لحالة اندماج في العمليّة السّياسيّة والمجتمعيّة المحليّة، للتأثير يومًا في صانعي القرار، بما أنّ المنظومة ديمقراطيّة في المطلق، ويلاحظ ضآلة دور الجاليات – العربيّة والإسلاميّة – في استقبال اللّاجئين الجدد ودمجهم، وهذا يحتاج إلى دراسات – اجتماعيّة ونفسيّة – معّمقة، لفهم أبعاده، هناك أزمة في العمل السّياسيّ للجاليات العربيّة في أوروبا عمومًا، وفي فرنسا خصوصًا، لتبعياتها المتعدّدة لدول المنبت، وإن لم تشعر بأنّها مجموعة فرنسيّة، وتعمل على هذا الأساس؛ فإن مستقبل تأثيرها السّياسيّ سيكون محدودًا للغاية.
الوقوف في موقف الضّحيّة – دائمًا – غير مجدٍ، على الرّغم من وجود بعض العناصر الّتي تؤدّي إلى القبول به جزئيًّا، بالتّالي، الانتقال من ردّ الفعل إلى القيام بأفعال إيجابيّة، سيكون له أثر عظيم على الاندماج من جهة، وعلى الصّورة لدى الآخر من جهة أخرى.
أوس يعقوب: هل ترى أنّ وجود تنظيم « داعش » مؤقّت ولا يتجاوز كونه حدثًا عابرًا؟ وهل يمكن أن يكون لهذا التّنظيم المتشدّد مكان تحت الشّمس السّوريّة، في ظلّ الدّولة المستقبليّة المنشودة (دولة المواطنة والدّيمقراطيّة)، خاصَّةً، بعد الوحشيّة الّتي يمارسها في العراق وسوريا والعديد من الدّول، العربيّة والغربيّة، يوميًا؟
سلام الكواكبي: لا أؤمن بنظريّة المؤامرة بالمطلق، ولا قبل الحديث عن « داعش » كونها عمليّة مخابراتيّة كونيّة، أو محليّة، أو إقليميّة، لكنّني أؤمن بتقاطع المصالح، محليًّا وإقليميًّا، ودوليًّا أيضًا، البيئة الحاضنة لتنظيم « داعش » معقّدة التّركيب، وتستخدم نفس أسلوب الأنظمة التّسلطيّة، من استقطاب وتخويف وترغيب وتهجير وملاحقة، وبما أنّ عماد قادتها الحربيّين – كما الأمنيّين – هم من بقايا مرتزقة صدام حسين، فهم أضافوا إلى أساليب الطّغاة « العريقة » بُعدًا دينيًّا ظلاميًّا، للسّيطرة على العقول، واجتذاب من أحبط من الجيل الشاب، كما لا أؤمن بأنّ لا شيء من الإسلام في « داعش »؛ لأنّه يكاد يقارب الرّأي الّذي يقول: إنّ « لا شيء من المسيحية في الحملات الصّليبيّة »، هناك إسلامٌ في فكر وممارسة « داعش »، لكن السّؤال: عن أي إسلام نتكلّم؟ عن أيّ قراءة نتكلّم؟ عن أي فهمٍ نتكلّم؟ للأسف، « الدّواعش » الدّينيّون منتشرون – كما سواهم – لكنّ عمليّاتهم الإعلاميّة التّشهيريّة تعرّف بهم أكثر.
ما كان يحصل – وما يزال – في المعتقلات الرّسميّة العربيّة، ليس أقلّ وحشيّة وضراوة ممّا تقوم به « داعش »، الاختلاف: هو انعدام النّقل المباشر أو التّغطية الإعلاميّة، بالمحصّلة، عندما توجد عوامل بناء دولة المواطنة، وإطلاق العمليّة الدّيمقراطيّة والتّشاركيّة السّياسيّة، والتّعدديّة الحزبيّة، ستزول الحركات المتطرّفة كما يذوب قنديل البحر بمجرّد خروجه من الماء، مع الفارق بين جماليّة القنديل وقباحة الظّلاميّين.
الإنسان السّوريّ ومآلات الأزمة المشتعلة:
أوس يعقوب: أعود معكم أستاذ سلام الكواكبي إلى الشّأن السّوريّ، وإلى الإنسان السّوريّ تحديدًا؛ حيث نجد عددًا من التّصوّرات الّتي ترتبط بمستقبله، وتختلف باختلاف وضعيّاته، فهناك من يعيش في ظلّ الحرب والقصف اليوميّ، وهناك من يعيش في المناطق الّتي يسيطر عليها تنظيم « داعش » الإرهابيّ، ومن هو تحت سيطرة القوى الكرديّة في جانب آخر، وهناك من هو في مناطق النّظام، فيما يعيش الملايين في مخيمات اللّجوء في أكثر من دولة مضيفة من دول الجوار، وهناك من بات في الشّتات والمنافي البعيدة، كلّ هذه التجمّعات ترى لنفسها مستقبلًا يختلف عن الآخر، هل من طريقة لإيجاد صيغة تجمع كلّ هذه الرّؤى في ظلّ دولة سوريّة مدنيّة ديمقراطيّة، وذلك لاختلاف الظّروف الّتي تمرّ بها كلّ مجموعة؟
سلام الكواكبي: هذا هو أساس عمل المجتمع المدنيّ في مستقبل سوريا، مهما كانت إرادة الحكومات قويّة، كما أدواتها، بناء الإنسان أو إعادة بنائه، وتعزيز الرّوابط، وترسيخ المفاهيم والقيم: هي من أساسيّات عمل المجتمع المدنيّ ونشاطه، فمجموعات كبيرة لجأت إلى الغرب لن تعود بسرعة، ولو وُجدت الظّروف الأمنيّة الملائمة لعودتها، بالمقابل، سكان المخيّمات المجاورة ومدن الصّفيح الّذين يعانون من تطوّر عنصريّ ملموس، اجتماعيًّا وإداريًّا، هم – حتمًا – أوّل العائدين، وطبيعة نظام الحكم ومدى التّشاركيّة فيه، ستحدّد سيناريوهات إعادة التّواصل وعودة الاندماج، في الحدود الدّنيا على الأقل، ما يخيفني – فعلًا – هو جيل الشّباب أو الأطفال الّذين يقعون ضحيّة العنف بأنواعه، الّذين خرج معظمهم من دائرة التّعليم المدرسيّ أو الجامعيّ، وقد تعرّضت مئات الألوف منهم إلى صدمة العنف الفظيع المرتكب أمام أعينهم، الّذي ذهب ضحيّته أهلهم وأشقّتهم، فمسألة معالجة آثار الحرب على الأطفال أساسيّة ومكلفة، لكنّ نتائجها، إن نجحت، ستنقذ المستقبل من إعادة إنتاج العنف الماضي.
أوس يعقوب: مع إدراكنا أنّ مصير السّوريّين اليوم على المحك، وأنّه من الصّعب توقّع ما سنكون عليه، في ظلّ إمعان جميع الأطراف المسلّحة في القتل والتّدمير والتّهجير، إلّا أننا نسألكم، ونحن نطرح قضية المصير جديًّا، في ظلّ وجود نوع من التّوافق على دولة وطنيّة فدراليّة ديمقراطيّة، يغدو بالإمكان إعادة تكوين النّسيج الاجتماعيّ الوطنيّ، وإنّ من غير صعوبات، بعضها صعوبات كبيرة: كإعادة إعمار القرى والمدن المهدّمة، وإجراءات العدالة والمصالحة والمحاسبة، الّتي لا بدّ منها، كيف ترون طريق الخلاص والنّجاة لما تبقى من سوريا والسّوريّين؟
سلام الكواكبي: كلّ ما ذكرته في سؤالك ضروريّ ومن شروط الخلاص، على الرّغم من ذلك، يجب أن ننظر – بشكّ وريبة – في مختلف الحلول الجاهزة المتوخّاة من قبل القوى الإقليميّة والدّوليّة، ولن يؤدّي الحلّ على الطّريقة البوسنيّة واتفاقيّات دايتون إلّا إلى السّلام النّسبيّ مع سياسة مقيّدة وحكومة عاجزة، ومؤسّسات مشلولة، كما أنّ الحلّ اللّبنانيّ، وإطلاق طائفيّة سوريّة سيؤدّي بنا إلى تقسيم غير معلن.
كان السّوريون، في بداية الحراك، يلفظون هاتين التّجربتين، ويتغنّون بأنّهم سيتحاشون الوقوع فيهما، لكن يبدو الآن، وللأسف الشّديد، أنّ أحلاهما مرّ، والخيارات صارت محدودة، والحلول المعروضة سيئة نسبيًّا، ويجدر اختيار الأقلّ سوءًا، فيجب التّركيز على وقف العنف أوّلًا، والانتقال إلى المسار السّياسيّ الّذي يلفظ كلّ القوى المتطرّفة من كلّ الأطراف، ويؤدي إلى رجوع الجموع المدنيّة والسّلميّة إلى التّظاهر، ليس فقط للمطالبة بالإصلاح أو التّغيير؛ بل – أيضًا – للمطالبة بمحاسبة الجميع على ما اقترفوا من جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة، ولا يمكن بناء مجتمع متصالح ومتجانس، دون رسم مسار لعدالة انتقاليّة في حدودها الدّنيا.
أمّا عمليّة إعادة الإعمار؛ فالخوف – كلّ الخوف – من أن يجري « تطهير » اقتصاديّ لشرائح واسعة من الشّعب السّوريّ، الّتي لن يكون بإمكانها العودة إلى ديارها المخرّبة، الّتي ستبنيها شركات أجنبيّة بقصد الاستثمار والرّبح، بالتّالي، نجاح الفصل الدّيموغرافيّ والتّطهير الاقتصاديّ، أو فشلهما، سيعتمد كثيرًا على مسار عمليّة إعادة الإعمار وإرادتها، كما إدارتها الوطنيّة.
لم أكن أحبّذ الحديث عن « مصالحة » وطنيّة، كما كان يحلو للبعض أن يُروّج، لكن مع امتداد المقتلة لسنوات ستّة، وملايين المهجّرين واللّاجئين، ومئات الألوف من الضحايا، لا شيء يمنعني الآن، وإن على مضض، من قبول المفهوم، بالمقابل، فقد حصل شرخ اجتماعيّ عميق، بأبعاده كافّة، من طائفيّة إلى مذهبيّة إلى طبقيّة إلى مناطقيّة.
أبشع ما شهدته في حياتي: هو مظاهر فرح بعض السّوريّين بموت سوريين آخرين وتهجيرهم، لم أكن أتخيّل أنّ الإنسان يمكن أن ينحطّ في مشاعره إلى هذا المستوى، مهما كانت الاعتبارات السّياسيّة مهيمنة.
أوس يعقوب: ما أبرز التّحديّات والمخاطر الّتي تعيق إعادة بناء هويّة وطنيّة سوريّة، معبّرة عن الانتماءات ما قبل الوطنيّة (العرقيّة، والدّينيّة، والمذهبيّة، والإيديولوجيّة، والمناطقيّة، ..) برأيك؟
سلام الكواكبي: أنا أشكّ – أساسًا – في وجود هذه الهويّة بجلاء حتّى أتحدّث عن إعادة بناءها، للأسف، إنَّ الحكومات غير الاستبداديّة الّتي عرفتها سوريا، لم تمكث على كراسيها لفترات تسمح لها في بلورة مفهوم الهويّة، بالمقابل، وكما ذكرت سابقًا، استعملت الحكومات المستبدّة القاعدة الاستعماريّة النّاجحة: (فرِّق تَسُد)، ونجحت بذلك في إرجاع الانتماءات إلى ما قبل الوطنيّة: دين، مذهب، قبيلة، عشيرة، منطقة …إلخ، وسيطرت بالتّالي، بمؤسّسات متخصّصة؛ منها الأمنيّ، ومنها السّياسيّ، ومنها الدّينيّ، على جموع السّاكنين في الإطار الجغرافيّ المحدّد.
مسألة الهويّة ستحتاج إلى عقود في محاولة تأسيسها بشكل صحيّ، إن وجدت الظّروف وترسّخ النّظام الدّيمقراطيّ، وتوضّحت الحقوق والواجبات، وتأسّس مفهوم المواطنة العابرة لكلّ التّقسيمات المدمّرة، هذا العمل سيكون صعبًا وطويلًا، لكنّه إن قام على أسس صحيحة سيؤدّي إلى نتائج إيجابيّة، وفي حال استمرّت المقتلة أو استمرّ الاستبداد؛ فمسألة الهويّة ستبقى معلّقة مهما ادّعى الحاكمون دفاعهم عنها والقتال من أجلها.
أوس يعقوب: المسألة الكرديّة، بما هي مسألة وطنيّة، ومسألة حقّ قانونيّ وأخلاقيّ للأكراد في أن يقرّروا مصيرهم بأنفسهم، كيف تقيّم ما يحصل الآن في المنطقة، خصوصًا في ظلّ آخر التّطوّرات، العسكريّة والسّياسيّة، في الشّمال السّوريّ، الّتي تزيدها – خطورة وتعقيدًا – التّحالفات الإقليميّة والدّولية المختلفة ضد تنظيم « داعش »؟
سلام الكواكبي: لقد اضطّهد الشّعب الكرديّ من قبل الحكومات المركزيّة المستبدّة في كلّ أماكن وجوده، كما استُغِلّت آماله الوطنيّة والثّقافيّة من قبل بعض القوى الأجنبيّة لتحقيق مآرب لا علاقة لها بتطلّعاته، وتخلّ أولئك عنه في نهاية المسار، كما أُبرمت اتفاقيّات بداية القرن، واستُغلّت – أخيرًا – تطلّعات الأكراد في شمال سوريا إلى حكم ذاتيّ، من قبل الأميركيّين والرّوس، واستخدموا بعض قواهم في صراعات لم تؤدّي إلى النّتيجة المتوقّعة.
الحوار الوطنيّ السّوريّ بين المكوّنات كافّة: هو ضرورة وواجب، وقد تأثّر كثير من شخوص المعارضة بأصولهم العقائديّة لينفوا عن الكرد حقوقهم الأساسيّة، كما تخندق بعض الكرد في مواقف انفصاليّة غير معلنة نتيجة الشّعور بالخطر.
من الواقع الدّيموغرافيّ، كما الجغرافيّ والسّياسيّ، الحديث عن مناطق متجانسة – عرقيًّا أو مذهبيًّا – في سوريا غير دقيق، ولا يمكن تغيير هذا الواقع إلّا في إطار عمليّات نقل وتطهير، عرقيّ أو مذهبيّ، والسّوريّون بمكوّناتهم كافة مدعوّون إلى العيش معًا، تحت ظلّ لا مركزيّة سياسيّة، ولا مركزيّة إداريّة، هي الحل الأنجع لمستقبلهم، أمّا شيطنة هذه المفاهيم، فهو أمر عائد إلى ضحالة الثّقافة السّياسيّة لدى الجميع، فالقليل من الأطراف كافّة، بالتّأكيد، قادر على وضع تعريف واضح للمسألة الفيدراليّة، أو لقضيّة اللّامركزيّة، ممّا يؤدّي إلى اعتقاد البعض، خطأً، بأنّها تعني التّقسيم، أخيرًا؛ أستطيع القول: إنّ الخطوات الفرديّة الّتي تتّخذ على هامش المقتلة السّوريّة لن تؤتي أكلها؛ لأنّها تعدّ طعنة في الظّهر من قبل الآخر، بالتّالي، الحلّ حلٌّ وطنيّ، والقرار قرار مشترك، لا الحلّ فرديّ ولا القرار انعزاليّ.
أوس يعقوب: بعد كلّ هذه الدّماء والخراب والدّمار في مشرق عالمنّا العربيّ ومغربه، هل مازال من الممكن التّعويل على « الرّبيع العربيّ »، بوصفه حالة تغيير تشمل كافة الجوانب؟ وهل بالإمكان – الآن – استعادة حضور الكلمة الشعبيّة في وجه الدّيكتاتوريّات العسكريّة، والقوى الظّلاميّة، وأصحاب الرّايات السّوداء، وفي سبيل إسقاط زيف الأقنعة النّخبويّة الّتي تخدم مصالحها الشّخصيّة؟
سلام الكواكبي: أعتقد بأنّ ذلك ما زال ممكنًا، ولا أعتقد بأنّ الثّورات تنتهي أو تفشل في فترة زمنيّة محدودة، ورغم كلّ الخسائر البشريّة والدّمار المادّيّ والمعنويّ والأخلاقيّ، ويجب أن نتذكّر « الرّبيع الأمازيغيّ »، و »الرّبيع الكرديّ »، وهما محفزّين أساسيّين للرّبيع العربيّ عمومًا.
إنّ ما قامت به شعوب هذه المنطقة؛ هو ثورة بكلّ المقاييس، ستتأخر نتائجها، وربّما تلمسها أجيال لاحقة، لكنّ المحرّمات قد كسرت، ومجرّد تحطيم جدار الخوف المهيمن على هذه المنطقة منذ عقود، بل أكاد أقول منذ قرون، هو – في حدّ ذاته – تغيّر نحو الأفضل، مهما كان الثّمن مرتفعًا، وفيما يتعلّق بأصحاب الرّايات السّود، فقد أثبتت الوقائع التّاريخيّة أنّهم من توابل الطّبق الرّئيس المقرفة، ويبقى الطّبق الرّئيس: هو الاستبداد، والطّغيان، ومنع الحرّيّات.
أوس يعقوب: سؤالي الأخير: لو كان جدّكم الشّيخ النّهضويّ عبد الرّحمن الكواكبي شاهدًا على هذه المقتلة (أو لنقل: لو حدث هذا في زمانه)، برأيك، ما الرّسالة الّتي كان سيوجّهها إلى السّوريّين، كلّ السّوريّين، من مختلف القوميّات والأديان والطّوائف والمذاهب، ..إلخ؟
سلام الكواكبي: في ما يتعلّق بالاختلافات الدّينيّة، كان سيكرّر قوله الآتي: « يا قومُ: وأعني بكم النّاطقين بالضّادّ من غير المسلمين، أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد، وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فُعل ذلك على أيدي المثيرين، وأجلُّكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتِّحاد، وأنتم المهتدون السّابقون، فهذه أمم أوستريا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتّى وأصول راسخة للاتِّحاد الوطني دون الديني، والوفاق الوطني دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري. فما بالنا نحن لا نفتكر في أن نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها. (…) دعونا ندبِّر حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط. دعونا نجتمع على كلماتٍ سواء، ألا وهي: فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء أعزّاء »، أمّا فيما يتعلّق بالعنف؛ فأستعيده قائلًا: « الاستبداد لا ينبغي أن يُقاوَم بالعنف، كي لا تكون فتنة تحصد النّاس حصدًا. نعم؛ الاستبداد قد يبلغ من الشّدَّة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجارًا طبيعيًا، فإذا كان في الأمَّة عقلاء يتباعدون عنها ابتداءً، حتّى إذا سكنت ثورتها نوعًا ما، وقضت وظيفتها في حصد المنافقين، حينئذٍ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة، وخير ما تؤسَّس يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد، ولا علاقة لهم بالفتنة ».
أوس يعقوب: في نهاية حوارنا معك أستاذ سلام، أرجو أن تحدثنّا عن العلاقة الّتي ما زالت تربطك بإرث جدّكم الشّيخ عبد الرّحمن الكواكبي الأخلاقيّ والفكريّ والإصلاحيّ والنّهضويّ.
سلام الكواكبي: إنّها علاقة معقّدة؛ حيث إنّني أُعامل – أحيانًا – على أنّني وريث فكره، لكنّ أتمنى أن أعامل على أنّني صاحب فكر مستقلّ متأثّر بالكثير ممّا كتب، وناقد للقليل منه، وينتقدني البعض على إبرازي المستمرّ لمقولات الكواكبي، وعملي على نصوصه، ومحاولتي نشرها باللّغات الغربيّة، مدّعين أنّه ليس من المحبّذ الافتخار بما كان عليه الأجداد؛ بل العمل على إنتاج الجديد المختلف، إلّا أنّني أعتقد بأنّ هذا غير منصف لو كان عن حسن نيّة، ولن أنصفه إن كان عن سوء نيّة؛ فالميراث الفكريّ الكبير يحتاج إلى التّعريف والنّشر في أوقاتنا الحاليّة خاصّة، وأجد نفسي، في موقعي العلميّ والمهنيّ، مؤهّلًا للقيام بذلك بمساعدة الأصدقاء والصّديقات المؤمنين بهذا المشروع، أكاد ارجع إلى كتابات الكواكبي بشكل شبه يوميّ، وأسقطها على ما يجري في السّاحة السّوريّة لأجد توصيفات مذهلة في محاكاتها للواقع، إن لم أفعل أنا ذلك، فمن يفعله في ظلّ هجوم تيّار ظلاميّ، من أصحاب نظريّة المؤامرة والأحقاد المتوارثة، يُعبّر عن خوفه من انتشار أفكاره، ويدفعه إلى أن يُشكّك حتّى في أصول الكواكبي العرقيّة والدّينيّة؟