في واقعة اختطاف وتغييب سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادة منذ عامين ونصف العام على يد «جيش الإسلام» في دوما بعدٌ درامي نادر، يحيل إلى الوضع العضال لمناضلين ديمقراطيين، علمانيي التكوين، مستقلين ومتوجهين نحو الداخل.
أتكلم عن وضع عضال لأن المعنيين معارضون جذريون مجربون للدولة الأسدية، ونالهم منها نصيب شركائهم وأشباههم. سميرة اعتقلت لأربع سنوات في حقبة حافظ الأسد، ورزان كانت ممنوعة من السفر وتعرضت لضغوط أمنية متكررة، ووائل اعتقل مرتين بعد الثورة وناله تعذيب بالغ القسوة، وناظم كان متواريا منذ مطلع الثورة إلى وقت مجيئه إلى دوما قبل نحو 3 أشهر من اختطافه.
والأربعة علمانيو التكوين والتفكير، لكنهم ليسوا من ذلك الصنف الذي جعل من العلمانية شاهدة زور على ما جرى ويجري لعموم مواطنيهم، وممن لم يفتقروا يوما إلى سند، ومنه المخابرات الأسدية ذاتها. وهم مقيمون في البلد وعيونهم متوجهة نحو المجتمع السوري، ولم يكونوا من أهل الأسفار والمؤتمرات، ولا سند لهم في قوى دولية أو شبكات دولية.
ولتمثيل الوضع الاجتماعي للأربعة يكفي القول إنه لم يكن لسميرة الخمسينية وناظم الأربعيني ورزان ووائل الثلاثينيين بيوت شخصية، وأن الزوجين رزان ووائل كانا بالكاد أخذا يسددان أقساط بيت من عمل رزان ككاتبة، وهو عمل لم يكن مضمونا قبل الثورة، وضاع تماما مثلما ضاع البيت نفسه بعد الثورة.
قبل الثورة كان التحديد الأول والأساسي للأربعة أنهم معارضون للدولة الأسدية، لكن وقع اختطاف المرأتين والرجل وتغييبهن على يد «جيش الإسلام»، الذي كان قد أخذ يشغل في دوما موقع الدولة الأسدية، وهو استكمل بفعلته تلك وبلواحق لها إشغال هذا الموقع الأسدي، متسببا على غرار الدولة الأسدية ذاتها في تدهور عام، سياسي وأمني ومعاشي ومعنوي، لأوضاع السكان في المنطقة، بما في ذلك تراجع واسع أمام هذه الدولة المعتدية. فإذا كانت قد جرت فلسطنة واسعة لبيئات الثورة السورية على يد نظام شغل موقعا إسرائيليا حيال محكوميه، فقد لقيت إسرائيلنا الداخلية مساندة مماثلة من «جيش الإسلام» وأشباهه.
كان خطف وتغييب سميرة ورزان ووائل وناظم فعل تغييب لشهود موثوقين، كانوا صوتا داعما لعموم أهالي المنطقة، والجهة المستقلة الموثوقة التي شهدت على المذبحة الكيماوية وعلى ما أعقبها من حماية دولية للدولة الأسدية.
تجسد الافتقار إلى السند بصورة تراجيدية بعد جريمة الخطف، فبما أن الأربعة معارضون جذريون للدولة الأسدية، فلن تشملهم صفقات تبادل أسرى من صنف ما جرى بين مجموعات مقاتلة والأسديين. وبما أنه لا سند دوليا لهم، فإنه لم تجر مطالبة جدية بهم، ولم تمارس ضغوط من دول على رعاة إقليميين معلومين للجهة الخاطفة. بل لعل المرء لا يبالغ في سوء الظن، إن ارتاب، بأن في تغييبهم مصلحة لقوى دولية نافذة، لا يناسبها وجود شهود موثوقين على المذبحة الكيماوية، والصفقة الكيماوية المشينة التالية لها. وبما أن الأربعة علمانيون فإنهم لم يحظوا بأي تضامن أو محاولة تدخل لصالحهم من قبل أي إسلاميين، مشايخ أو منظمات، في سورية أو في أي مكان. وفي المرتبة نفسها من السوء أن من يفترض أنهم شركاء في القضية الديمقراطية أظهروا تخاذلا مشينا عن نصرة الثائرتين والثائرين. للأمر صلة مرجحة بتبعيات متنوعة لهؤلاء الشركاء المفترضين، تُقرِّبهم من الجهة الخاطفة ورعاتها النافذين والموسرين، لا من المرأتين والرجلين المخطوفين والمغيبين.
ولأنهم ديمقراطيون علمانيون مستقلون، فإنهم لا ينتمون إلى طائفة ولا تسندهم طوائف، ولا تشملهم الدعوات الوضيعة إلى «حماية الأقليات» و»ضمانة حقوق الأقليات». وهذا ما يضع سميرة ورزان ووائل وناظم في موقع استثنائي في فرادته، ويجعل منهم أمثولة للوضع التراجيدي للثورة السورية، ولأولئك المثاليات والمثاليين الذين يخوضون كفاحا مهولا بعدة من التكرس والدأب والشجاعة والكرامة والحس الإنساني والثقافة.
ناظم شاعر، وكان يبدو دوما متطلعا إلى التفرغ لقصائده، وفي غير مكانه كمحام غير ممارس وناشط سياسي وحقوقي. ورزان كاتبة لامعة، بقدر ما هي مناضلة حقوقية وسياسية استثنائية في شجاعتها وعزيمتها. ولم تكن سميرة من منتجي الأفكار، لكنها خياراتها السياسية وانحيازاتها الإنسانية ارتبطت بأنشطة المثقفين الديمقراطيين السوريين الذين شاركت في بعض أهم مبادراتهم. وهذا مع تحليها بروح شعبية، وضعتها على قرب من عموم الناس في بيئات اجتماعية سورية مختلفة. وكان وائل في الجو نفسه، وشريكا في نقاشات سياسية وفكرية نشيطة في منطقة الغوطة الشرقية كلها طوال سنوات ما قبل الثورة.
لكن هذا لا يجعل المرأتين والرجلين مثقفين بالمعنى الأشيع للكلمة، إنهم مناضلون، منخرطون في الكفاح، لا يقولون شيئا ويفعلون غيره، ولا ينعزلون عن بيئات اجتماعية حية كان نشاطهم وتفكيرهم متجهين نحو العيش فيها والشراكة معها.
وفي هذه الحيثية الثقافية أيضا كان الأربعة بلا سند، لم يحظ هؤلاء المثقفون المقاتلون بدعم أو تضامن من المثقفين المقاولين.
اليوم يكتمل عامان ونصف العام على اختطف وتغييب سميرة ورزان ووائل وناظم، لا نعلم نحن أحبابهم وأصدقاءهم، عنهم شيئا، وهم لا يعلمون عنا شيئا.
كان يمكن أن أكون خامس الأربعة، انقذفنا نحن الخمسة خارج دمشق المختنقة خلال نحو خمسة شهر من عام 2013 الفظيع. وبما أني كنت الناجي، وصادف أن كنت كاتبا، فقد وقع عليّ ضمان استمرار المعركة في المجالين الحقوقي والسياسي، فضلا عن خوضها أيضا في المجالين الفكري والأخلاقي. وليس لدي أي شك في من سوف يكون المنتصر في معركة فُرضت علينا، وكان بودي تجنبها… إلى حين.
٭ كاتب سوري
ياسين الحاج صالح