سورية: « لم يُقتل فينا إلاّ الخوف » – د. خالد الحروب
كلما أوغل النظام السوري في قتل شعبه؛ اكتشف أنه لا يقتل إلا شيئاً واحداً: الخوف. ذلك ما قالته إحدى أروع لافتات الثورة السورية، إذ حملت التعبير العبقري والمرعب للنظام وجلاديه: « لم يُقتل فينا إلاّ الخوف ». يستحق من صاغ هذا الشعار أحد أوسمة الإبداع الذي أنتجته الثورات العربية. تتناثر اليوم تحت أقدام أحرار المدن السورية أكثر من أربعة عقود من صناعة وتصنيع الخوف ودسّه في الطعام والشراب، ودب الرعب في قلوب الناس. يتهاوى هرم الترهيب والتجسّس الذي أراد ترويض الأفراد وقمع إرادتهم وروحهم. يقتل النظام ألوف الناس ويعتقل ألوفاً آخرين ويهجر غيرهم، لكن شعلة الحرية تزداد بريقاً وإغواءً أمام روح الشام التي انطلقت كما كانت دوماً، وما عاد لها أن تهدأ. كلما استنفر النظام وسائله التقليدية في القمع والتنكيل زادت تلك الروح من تحديها له وتعاظمت تحرراً. سورية الثائرة الآن تقدم دليلاً إضافياً على المعجزات التي تجترحها الشعوب ضد الطغاة: تعيد توكيد الدرس الإنساني البليغ بأن الحرية والكرامة هما جواهر الوجود البشري وأن الناس وإن تسكت حيناً فإنها تنتفض في كل الأحايين.
ثورة سورية هي أيقونة ثورات العرب، أصعبها طريقاً، وأكثرها تحديات، وأشدها جسارةً وكسراً لكل قيود الخوف. ليس هذا تقليلاً من نقاء وروعة كل ثورة من الثورات العربية، فكل منها أبدع عبقريته الخاصة به ووفق ظروف البلد الخاصة من تونس إلى مصر إلى ليبيا والبحرين. بيد أن مستوى البطش الدموي الذي نشهده يومياً على يد نظام الأسد يتحدى كل صنوف البطش والقمع التي تعرضت لها الثورات الأخرى. البطش هذا، وعلى حساب كل شيء آخر، هو كل ما استطاعت استيلاده دولة المخابرات على مدار أربعة عقود. في تلك السنين الطويلة أريد استزراع الخوف والرعب في قلب كل فرد من أفراد الشعب، ليس فقط داخل سورية بل وخارجها، أيضاً، حيث امتد إخطبوط التجسس والأمن والملاحقة. حوصرت أماني الناس وتطلعاتهم وتم التجسس على حركاتهم، وأفكارهم، وعلاقاتهم، وكل شيء فيهم حتى أحلامهم. انتزعت الثقة من المجتمع الذي اخترقته أجهزة الأمن والتخابر، فلم يعد أحد يأمن حتى لشقيقه. هؤلاء الذين كانوا يتجرؤون على الاقتراب من الخطوط الحمر ويقتربون من المطالبة بالحرية والكرامة كانت تبتلعهم السجون على الفور. يقضون فيها زهرات شبابهم ولا أحد من أهاليهم يعرف مآلهم ولا حتى يجرؤ على السؤال عن مصيرهم. قوائم المفقودين الأمنيين في سورية ربما هي الأطول في العالم، وكثير من أولئك ما كان لهم حتى أدنى اهتمام بالسياسة، بل قادهم حظهم السيئ إلى السجن لسبب تافه قد يكون رفض تقديم رشوة لضابط أمن أو مماحكة لفظية عادية مع رجل مخابرات لم يفصح عن هويته وأراد ممارسة تفاهاته بهذا الشكل أو ذاك. تسمم هواء سورية ومدنها بالتجسس على الناس وتحولت البلد إلى مزرعة خاصة بالعائلة الحاكمة ومن صاهرهم واقترب منهم. في كل مجال من مجالات الحياة والتنمية صارت سورية مخيفة وقاتمة، أفرغها النظام القائم من بهائها وطاقتها واندفاعة شعبها وبريق مدنها وأسمائها التي تسحر وجدان العرب وتاريخهم. تحولت سورية إلى سجن كبير يتراكم فيه عفن القمع وتوحش الاستبداد، ويأس الكثيرين من التغيير. ماتت أجيال وولدت أجيال وهي لا تعرف في أفق البلد والمجتمع إلا شعارات تمجيد الحزب الواحد والرئيس الواحد. وعندما غاب الرئيس الواحد أوغل النظام في احتقار الشعب جملة واحدة، إذ تغيّر الدستور في لحظات وأعيدت هندسته لتسمح بتوريث البلد، كإقطاعية أو شركة خاصة، إلى الابن الذي لم يُعد أصلاً للحكم. كأن سورية الغنية بكل شيء، بتاريخها، بجغرافيتها، بعراقتها، بفكرها، بأسبقيتها حواضر البشر وجوداً، بأعلامها، بتجارها، بكل ما هو معطاء وثري فيها، كأنها تحولت إلى عاقر لا يمكنها توليد أحد سوى ابن الرئيس.
بالتوازي مع مسلسل إهانات الشعب واحتقاره كان مصدر الاعتياش الوحيد الذي يستمد منه النظام أسباب بقائه هو خرافة المقاومة والممانعة ومواجهة إسرائيل. خدعت هذه كثيرين على وجه التأكيد ووظفها النظام بدهاء لا يمكن إنكاره. لكن جاء الوقت الذي جف فيه ذلك المصدر وما عاد يمنح مسوغات البقاء كما السابق. جاء الوقت الذي يعلن فيه أحد أهم بطانات النظام والمنتفعين منه أن استقرار سورية (الأسد) يعني استقرار إسرائيل. قال للعالم بالفم الملآن وبكل صلافة وغرور واحتقار لجمهور الممانعين والمقاومين الذي أرادوا أن يصدقوا أكاذيب النظام عليكم أن تحموا نظام الابن كما حميتم نظام الأب إن أردتم أمناً واستقراراً لإسرائيل.
جاء الوقت الذي التقى فيه جفاف مصدر الأكاذيب مع بلوغ مسلسل الاحتقار والإهانات مداه الأقصى. في تلك النقطة بالضبط كانت روح الكواكبي الثائرة بالانتظار. كانت قد قضت عقوداً وهي تتألم وتموت في اليوم ألف مرة. ثائر حلب وروحها المنطلقة الذي مات شاباً في أوائل الأربعينيات وفي ذروة عطائه كانت روحه تطوف على مدن الشام تحزن قليلاً لكن لا تتحسر بل تتوعد. في لحظة نهاية أشياء وبداية أخرى تسقط جدران الخزان الذي أقلق غسان كنفاني ومات حانقاً عليه، كيف لا يخلعه من يُسجن بداخله ولو دقاً بقبضاتهم. اليوم مدن الشام طولاً وعرضاً كما هي مدن عديدة في بلاد العرب من المحيط إلى الخليج تصدح فيها قبضات عشاق الحرية دقاً على جدران سجونهم التي تنهار واحداً إثر الآخر. عرائس الحرية والكرامة تتمايل اختيالاً في أفق قريب تناغي الشهداء العظماء الذي سقطوا ويسقطون كل يوم. أقسموا لعرائسهم أن تاريخاً جديداً بدأ يكتب في المنطقة بمداد الانتفاض على الطغاة. في ظل لافتة عبقرية أحفاد الكواكبي يردد هؤلاء الشجعان: « لم يُقتل فينا إلا الخوف. »
المصدر: http://www.al-ayyam.com/article.aspx?did=169688&date