سياسات حيوانية!- صبحي حديدي
قد لا يكون معروفاً، على نطاق واسع، أنّ سورية [2] هي الموطن الأصلي لـ’خرافات إيسوب’، كتاب الحكايات والعِبَر الشهير، الأكثر شيوعاً على النطاق العالمي في هذا الميدان الخاصّ: مقاربة الحكمة، السياسية والأخلاقية والفلسفية، عبر سرد أقاصيص مستمدة من عوالم كائنات حيّة غير بشرية، والحيوان والنبات تحديداً. وأمّا المواطن السوري، الذي تدين له الإنسانية بهذا الفضل الكبير، فإنه بابريوس؛ الذي عاش في القرن الأوّل الميلادي، ولا نعرف عن حياته إلا النزر اليسير، وكان اسمه سيظلّ مغموراً منسياً لولا أبحاث ريشارد بنتلي (1662 ـ 1742)، العلاّمة البارز في الآداب اليونانية الكلاسيكية.
ففي كتابه ‘أطروحة حول خرافات إيسوب’، تعمّق بنتلي في تحليل لغة الخرافات المنسوبة إلى إيسوب (الذي يرجح هيرودوت أنه عاش في جزيرة ساموس اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد، مقابل باحثين آخرين يعتبرونه شخصية مختلَقة، أحالت إليه المخيلة الإغريقية طائفة من الحكايات اللاذعة التي كان من المستحيل نسبها إلى البشر)؛ فوقع على عدد كبير من الصياغات والجُمَل والفقرات التي تعود إلى بابريوس وحده. الدليل القاطع جاء سنة 1842، على يد الباحث اليوناني مينويديس ميناس الذي عثر، في أحد أديرة جبل آثوس، على مخطوط بتوقيع بابريوس، يضمّ 123 خرافة مطابقة لتلك التي ذاعت باسم إيسوب.
ويحدث مراراً أن يكون لأثر أدبي كلاسيكي قديم دلالاته الصارخة في حدث راهن غير أدبي، سياسي أو اقتصادي أو عسكري أو علمي؛ وذلك رغم أنّ حسّ الأدب، في مفهومه الإنساني العريض على الأقلّ، يندر أن يغيب عن الواقعة البشرية المميزة. تلك هي الحال مع حكايات كليلة ودمنة في مثال أوّل، حيث يضع الفيلسوف بيدبا تأملاته على ألسنة حيوانات شتى، مصاغة في أقاصيص طريفة، ذات مغزى مبسّط، وترميز خفيّ ولكنه غير خافٍ. كتاب الأقاصيص الهندي الكلاسيكي ‘بانشاتانترا’، في مثال آخر، يضمّ خمسة مجلدات من الحكايات التي تستهدف تلقين الأمراء فنون السياسة والحكم، على النحو الذي سوف تتخذه مطارحات مكيافيللي في ‘الأمير’.
‘خرافات إيسوب’ تظلّ الأبرز، في المقابل، لأنها معين لا ينضب من الأمثولات الساخرة من وقائع الحياة اليومية للبشر، خاصة في ميادين النفاق السياسي، والكيل بمكيالين، والذرائعية القصوى المتحررة من كلّ ضابط أخلاقي. ولعلّ طبعة ‘بنغوين’ البريطانية، بترجمة جديدة ومقدّمة وافية من روبرت وأوليفيا تيمبل، هي أفضل الطبعات المتوفرة، ليس لأنّها تدرج الحكايات كاملة غير منقوصة، فحسب؛ بل بسبب تفوّقها في اعتبارات كثيرة على جميع الترجمات الإنكليزية السابقة. وكما هو معروف، كانت معظم الطبعات البريطانية (منذ سنة 1484، حين أنجز وليام كاكستون أولى الترجمات) قد غربلت الحكايات، وراقبت ما يخلّ منها بالآداب العامة، فحذفت عشرات من أصل 350 حكاية. وإلى جانب الحذف، بذل الفكتوريون جهداً خارقاً لتجريد الحكايات من دلالاتها المبطنة، وتحويلها إلى محض قصص مسلّية تدور في عالم الحيوان إجمالاً، وتُروى للأطفال قبيل الإغفاءة.
وفي أيامنا هذه، ثمة عشرات الأقاصيص البابريوسية/الإيسوبية التي تفضح مواقف الساسة والدول، إزاء قضايا مثل المأساة السورية، في أبعادها الإنسانية على الأقلّ؛ أو الانقلاب العسكري في مصر [3]، وكيف تملّص البيت الأبيض من تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية؛ أو امتناع أوروبا عن منح اللجوء للمواطن الأمريكي إدوارد سنودن، المحلل السابق في ‘وكالة الأمن القومي’ الأمريكية، اتقاءً لغضب واشنطن؛ أو ابتلاع مهانة التجسس الذي مارسته الوكالة ذاتها على عدد من الحلفاء الأوروبيين، بالتوازي مع افتضاح وجود سلطات رقابة سرّية يمارسها ‘الأخ الكبير’، في بعض أعرق الأنظمة الديمقراطية الغربية…
هنالك حكاية (تنفع فلاديمير بوتين، مثلاً، حين استفظع قيام مقاتل سوري مهووس بالتهام قلب خصمه، ولم يستفظع أياً من عشرات المجازر التي ارتكبها النظام السوري): تباهى دبّ بأنه شفيق رحيم، وصديق صدوق للإنسان، حتى صار يأنف من ملامسة جثث أبناء آدم؛ الثعلب ابتسم وردّ عليه: ليتك أكلتَ الجثة الميتة، وأبقيت على الإنسان الحي! حكاية ثانية (لعلها تنفع، بعد عكس الأدوار طبعاً، في رصد حال المحاصصة، بين جيش بشار الأسد وجيوش حلفائه): عقد ملك الغابة تحالف صيد مع الحمار البرّي، الأوّل لأنه قويّ وشرس، والثاني لأنه سريع الركض وحمّال أثقال؛ لكنّ الأسد اعتمد الحسبة التالية في تقسيم الطرائد: حصّة أولى للأسد بوصفه ملك الغابة، وحصّة ثانية للأسد لأنه الأقوى، وحصة ثالثة للحمار… ولكن من الحكمة أن تُترك للأسد أيضاً، ثمناً لبقاء الحمار على قيد الحياة!
وهذه حكاية أخيرة: ذات يوم لاحظ القرويون أنّ الجبل يتمخض، إذْ تصاعد الدخان من قمّته، وارتجّ السفح، وتهاوت أشجار، وتدحرجت صخور، وكان محتماً أن تشهد الأرض وقوع حدث جلل. ثمّ انشقّ الجبل عن أخدود صغير، فارتعدت فرائص الناظرين خوفاً وترقباً؛ حتى هالهم أنّ فأراً أطلّ برأسه من الشقّ، ليس أكثر، فكان أن اجترحوا ذلك القول المأثور: تمخض الجبل…! ألا تبدو الأمثولة مفيدة، اليوم، في مناسبة انتخابات ‘الائتلاف الوطني السوري’ الأخيرة، حيث دارت لعبة كراسٍ موسيقية طاحنة بين ‘الإسلاميين’ و’الليبراليين’ و’العلمانيين’؛ ثمّ انتهت إلى استئناف أنغام اللعب القطرية/السعودية [4] ذاتها، وإعادة إنتاج المخاض… إياه؟