شهود المجزرة -أحمد الشامي
شهود المجزرة -أحمد الشامي
كانت مجزرة « سريبرينيتشا » نقطة تحول في الحرب البوسنية، مثلها مثل مجازر ٳسرائيل في « قانا » اﻷولى والثانية. هذه المجازر تشكل نقاط انعطاف في مسار دموي لم يعد من الممكن تسميته « صراعاً » أو اشتباكات مع عصابات مسلحة. هذه المذابح ليست « حمالة أوجه » ولا يمكن اعتبارها كخطوات معزولة قام بها أفراد غير منضبطين، بل هي دليل على امتهان الحياة اﻹنسانية وعلى احتقار تام للكرامة البشرية.
في « قانا » كان اﻷمر قصفا بالطائرات و بالمدفعية لملاجئ ليس بها سوى مدنيين أبرياء، نساء وأطفال، تحت حماية اﻷمم المتحدة. في « سريبرينيتشا » كان الجنرال « راتكو ملاديش » قد تبلغ لتوه خبر انتحار ابنته الوحيدة والتي فضلت مغادرة دنيانا الفانية على أن تحمل اسما مكروهاً هو اسم والدها. الجنرال الصربي قام « بفش خلقه » وانتقم من 7000 مدني بوسني مسلم بأن أعدمهم…
القتل لا يمكن له أن يكون غاية، لهذا اتفق العالم على تجاوز « الفيتو » الروسي حينها وقام الناتو بتخليص البوسنة من مجموعة القتلة في جمهورية صرب البوسنة.
في مجزرة الحولة، هناك على اﻷرض من قرر الانتهاء من « وجع الرأس » الذي كانت تمثله تلك القرية الثائرة، بالبتر. هذا اﻷسلوب ليس جديداً فقد مارسته كل جيوش الاحتلال في فلسطين (دير ياسين) و في الجزائر وفي فيتنام (مذبحة ماي لاي عام 1968).
ممارسات جيش الاحتلال الفرنسي في الجزائر دفعت بالجنرال « ديغول » حينها للضرب بيد من حديد على يد الوحدات التي امتهنت القتل لكي لا يتحول الجيش الفرنسي بأكمله ٳلى عصابة من الجزارين. في أمريكا تنبه المواطنون لممارسات جيش بلادهم الدموية وبدأت حركة السلام ثم الانسحاب من فيتنام. في ٳسرائيل، كانت مجزرة دير ياسين وتفجير فندق الملك داوود من أسباب المواجهة بين « الهاغانا » بزعامة « دافيد بن غوريون » وعصابات « شتيرن » و « اﻷرغون » بزعامة « شامير » و « بيغن » بغرض تحييد العصابات غير المنضبطة لصالح « عصابة » أو سلطة مركزية منضبطة تصبح نواة لدولة.
هؤلاء كلهم لم يلجموا العناصر المتعطشة للدماء بين ظهرانيهم رفقاً بأعدائهم لكن لعلمهم باستحالة بناء دولة القانون أو استمرارها دون مراعاة حرمة الدم ودون احترام حق الحياة للجميع حتى للعدو. العداوة هي في النهاية خلاف في الرأي وتضارب في المصالح واﻷهداف لا يستوجب القتل بالضرورة، واﻹنسانية لم تتقدم ولا تستطيع أن تستمر على وجه الأرض ٳن كان حل الخلافات بين البشر لا يتم سوى بٳلغاء الآخر !
أساس ديمقراطية أي دولة هو احترامها لحق الحياة حتى لمن يخالفها الرأي أو يعاديها دون أن يهدد وجودها بشكل جدي، من هنا أهمية ٳلغاء عقوبة اﻹعدام والذي يمثل قمة في التحضر، دون أن يعني ذلك ٳلغاء باقي العقوبات. ما يحدث في « سوريا الأسد » هو على النقيض من كل ذلك.
في الحولة، اعتبر « ضابط شبيح » على مستوى عال، بالاتفاق مع آخرين مثله، أنهم هم من « يقرر » على اﻷرض. هؤلاء لم تعد تعنيهم اﻷوامر والتوجيهات القادمة من دمشق ووجدوا أن الحل اﻷبسط لمشكلة الثورة في الحولة يكمن في محو هذه القرية المسالمة من على الخريطة ! ما حصل هناك هو أن عدة سرايا، أو كتائب، من قوى مختلفة (مدفعية، دبابات، مشاة…) نسقت جهودها للقيام بمذبحة منظمة في عمل ذي طبيعة عسكرية. في البداية قصف مدفعي لكسر شوكة القرية، ثم اجتياح بالدبابات وقصف مباشر، وفي النهاية « تنظيف » القرية من سكانها يدوياً وبالسلاح اﻷبيض. تماماً كما حدث في حماة عام 1982 وفي تل الزعتر قبلها.
لهذا اﻷمر دلالات جد خطيرة، من حيث كونه يرتقي ٳلى ممارسات مفضوحة ضد اﻹنسانية، مثل « حلبجة » و »سربرينيتشا »، فٳما أن اﻷسد هو من أصدر اﻷوامر الصريحة بالقتل مما سمح لهذه القوات بالعمل بشكل منظم تحت قيادته، وهو بهذا مجرم حرب لا يستحق أن يكون في موضع المسؤولية، أو أن لاعبين صغاراً على اﻷرض هم من تجاوزوا اﻷوامر « بالقتل بمقدار » و قرروا تنفيذ مجزرة حماة مصغرة لحسابهم دون مبالاة بالعواقب ودون الخوف من المحاسبة، مع غطاء على أعلى مستوى في قيادة الجيش أو الفرقة الرابعة وجزارها « ماهر اﻷسد ».
في الحالتين، فقد النظام اﻷسدي أهم مقومات وجوده وهي « احتكار القوة بهدف حماية الحياة البشرية ». ٳن كان اﻷسد هو من أصدر اﻷوامر، فنظامه (وهذا ما كنا نكرره نحن وغيرنا منذ زمن) هو مجرد عصابة حاكمة، العالم كله أصبح شاهداً على هذه الحقيقة، وإن لم يكن هو مصدر الأوامر المباشرة فهو مسؤول عن تصرفات قواته وعن عدم قدرته على لجم زبانيته المتعطشين للدماء البريئة.
من الصعب تصور وجود حد أدنى من الفكر السياسي لدى من أمر بهذه المجزرة ومن قدم لها الغطاء من رجالات النظام، فهذه الممارسات هي دليل ٳفلاس سياسي وأخلاقي كامل. هذه الممارسات لا يقوم بها سوى نظام يحتضر، قام بها النازيون وهم ينسحبون من فرنسا وايطاليا مدحورين وهم يفرون أمام قوات الحلفاء الظافرة، حينها قام النازي « بفش خلقه » في المدنيين الضعفاء بعدما عجز عن مواجهة جيوش الحلفاء.
ليست مجزرة الحولة هي اﻷولى التي يقوم بها النظام السوري ولن تكون اﻷخيرة مع اﻷسف. قبلها كانت مجازر منها ما حصل في بابا عمرو و في كرم الزيتون. الفرق بين هذه المجازر وبين ما حصل في الحولة هو أن مجزرة الحولة كانت نتيجة تنسيق واسع بين أذرع مختلفة من القوات المسلحة الأسدية والشبيحة وتم التحقق منه عن طريق شهود محايدين من مراقبي اﻷمم المتحدة لا يمكن التشكيك بشهاداتهم.
الفرق هذه المرة هو أن هناك شهوداً على المجزرة، هذه ربما تكون النقطة الإيجابية الوحيدة لمهمة السيد كوفي عنان.