صعود وأفول حزب الله – ماجد كيالي
لم يكن أحد يتوقّع انهيار شعبيّة حزب الله وانكسار صورته في المجال الشعبي العربي، ولا سيما في أوساط السوريين الذين وضعوا صور زعيمه نصر الله في صدارة منازلهم وحوانيتهم وشوارعهم، والذين احتضنوا أهالي الجنوب في بيوتهم ومرافقهم العامة إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006.
أيضا لم يكن يدور في خلد أحد أن حزب المقاومة، الذي يبتغي التحرير، سيقف معادياً لتطلعات الشعب السوري للحرية والكرامة إلى درجة إنكار المطالب المشروعة لهذا الشعب، وإنكار التضحيات التي يقدمها في سبيل ذلك، في غمرة تماهيه مع النظام السائد.
حقاً، لقد تبوأ حزب الله هذه المكانة بفضل دوره الوطني، وبحكم مقاومته المتميّزة لإسرائيل، التي اضطرّت للانسحاب الأحادي من جنوبي لبنان (صيف 2000)، وذلك رغم طبيعته بوصفه حزبا دينيا، وتكوينه على أساس طائفي، ومرجعيته لدولة إقليمية.
المفارقة أن هذا الانتصار الذي سجّل لحزب الله هو ذاته الذي وضع هذا الحزب في حالة أزمة، وضمنها إثارة الشبهات بشأن طبيعته ودوره وارتباطاته، بمعنى أن إسرائيل استطاعت أن تجوّف هذا الانتصار، وأن تجعله عبئاً على حزب الله بحرمانه من وظيفة المقاومة، وبدفعه إلى الغرق في مشكلات لبنان الداخلية.
بالنتيجة فقد أفل مشروع المقاومة الخاص بحزب الله من الناحية العملية، وإن بقي من الناحية الشعاراتية أو النظرية، ولأغراض الاستهلاكات المحلية، بدليل توقف عمليات المقاومة نهائيا منذ العام 2000، مع التزام الحزب بحدود الخط الأزرق، ومضمون قرار مجلس الأمن الدولي 1701 القاضي بنشر قوة دولية وقوة من الجيش اللبناني على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
ومعلوم أنه تم خرق هذه الالتزامات بعملية خطف جنديين إسرائيليين (2006)، التي استدرجت بدورها ردّة فعل إسرائيلية وحشية ومدمرة، دفع لبنان ثمنها غاليا، واعتذر عنها نصر الله في خطاب شهير له، نوّه فيه إلى أن هذه العملية ما كانت لتتمّ لو أنه كان يقدّر أن ردّة الفعل الإسرائيلية ستكون على هذا النحو.
إذاً، فقد انتهى زمن المقاومة، أو لنقل أن مقاومة حزب الله توقّفت، علما أننا لا نتحدث هنا عن توقف مدته أسابيع أو أشهر أو بضعة أعوام، وإنما عن 13 عاماً، صرّف في غضونها حزب الله طاقته، مباشرة أو مداورة، في الداخل اللبناني، أي في الصراعات الداخلية على السلطة، وفي دعم محور إقليمي بعينه، يتأسّس على التحالف بين النظامين الحاكمين في سوريا وإيران، الأمر الذي أسهم في إثارة النعرات الطائفية المذهبية بين المسلمين ذاتهم.
هكذا بات هذا الحزب إزاء معضلة مزدوجة، فالمقاومة التي تستمدّ مشروعيتها من مقاومتها لإسرائيل توقّفت، والأنكى أنها بدلاً من ذلك باتت تستثمر رصيد قوتها في الداخل اللبناني ضد فرقاء لبنانيين آخرين، أي في مقاصد غير تلك التي أنشئت من أجلها، ما وضعها في حيّز المساءلة، وفي إطار من الشبهات.
ومعلوم أن هذا الوضع، المتأسس على إثارة التساؤلات حول شرعية سلاح حزب الله، فاقم من الأزمات السياسية في لبنان، لا سيما بعد الاختلاف على التجديد للرئيس إميل لحود، واغتيال الرئيس رفيق الحريري (2005)، وحادثة السادس من مايو/أيار (2008) المتضمنة فرض حزب الله هيمنته بالقوة على الفرقاء اللبنانيين الآخرين.
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحد، أي عند حد الاختلافات السياسية، ذلك أن هذا الحزب وضع نفسه موضع تساؤل إزاء ثلاث قضايا، أولاها طابعه المذهبي، فالحزب تأسّس على العصبية المذهبية في تركيبته الحزبية السياسية والعسكرية، واستمر على هذا المنوال نحو ثلاثة عقود، مما يثير التساؤل المشروع حول كونه حزبا « وطنيا »، بالنظر لعدم شموله في تركيبته لبنانيين من مختلف المكوّنات الطائفية والمذهبية.
وثانيها، وهي تنبع من الأولى أيضاً، تكمن في تبعية حزب الله إلى دولة إقليمية معينة، واعتباره ذاته امتداداً سياسياً لها في لبنان، لا سيما أن قيادته لا تنكر مرجعيتها لإيران من الناحيتين السياسية والمذهبية، علما أن هذا الحزب هو الذي أدخل الاعتقاد بمبدأ « ولاية الفقيه » في مذهب الشيّع اللبناني، وهو الأمر الذي عارضه عديد من أئمة الشيعة الكبار في لبنان (كما حدث في النجف بالعراق).
وثالثها، أن هذا الحزب ينتمي إلى منظومة الأحزاب الدينية « السلفية »، التي تلعب دوراً كبيراً في تأجيج الصراعات الطائفية والمذهبية في المجتمعات العربية، لا سيما أنه يعتمد سردية « المظلومة » الشيعية، ويشتغل على تنمية عصبيتها في لبنان.
لا نقصد بهذا الكلام إنكار دور حزب الله في مقاومة إسرائيل (1982-2000)، فمع كل الاحترام والتقدير للتضحيات والبطولات التي قدمها جمهور هذا الحزب ومقاوموه، إلا أنه ينبغي الانتباه أيضاً إلى أن هذه المقاومة، التي ظلت مرتبطة بالتوظيفات الإيرانية، ظلّت أيضاً محدودة في مناوشة إسرائيل على الحدود، ولم يكن لها عمق في الداخل الفلسطيني، فضلاً عن أن هذا الحزب لم يسمح للفلسطينيين، بل حتى لغيره من اللبنانيين، بمواصلة المقاومة من جنوب لبنان، وهذا كان أمرا متعمداً ومقصوداً، هذا أولاً.
ثانياً، في مجال التقييم التاريخي لمقاومة حزب الله، يمكن القول إن هذه المقاومة نجحت ضد إسرائيل على الصعيد التكتيكي فقط، لكنها أخفقت على الصعيد الإستراتيجي (وأنا هنا أستعير مصطلحات بعض مفكري الممانعة والمقاومة). في المقابل يمكن القول أيضاً إن إسرائيل أخفقت تكتيكياً، لكنها نجحت إستراتيجياً. ومثلاً، فهي أخفقت لأن جيشها النظامي يصعب عليه الاستمرار في حرب العصابات، التي تعمل ضمن حاضنة شعبية ومن دون قواعد ثابتة، ولكنها نجحت إستراتيجياً في حرمان حزب الله من مبرّر استمرار المقاومة ضدّها بعد انسحابها من جنوب لبنان.
وفي النهاية فإن كل مقاومة حزب الله، مع كل التقدير لها، لم تغيّر في معادلات الصراع والقوة مع إسرائيل، بدليل وقفه المقاومة ضدها، واستمرار هذه الدولة على السياسات الصلفة ذاتها التي تنتهجها إزاء الدول العربية وإزاء الفلسطينيين.
ثالثا، إن هذا الحزب سكت عن مجيء المليشيات المذهبية المسلحة المدعومة من إيران في العراق على ظهر دبابة أميركية، وهو لم يتحدث قط مع دعم المقاومة الوطنية ضد الغزو الأميركي للعراق!
رابعاً، مع ثورات الربيع العربي وقف حزب الله موقف المساند لكل تلك الثورات من تونس إلى مصر مروراً باليمن والبحرين وليبيا، لكنها عندما وصلت إلى سوريا اتخذ موقفا معاديا لهذه الثورة منذ اليوم الأول، وانحاز علنا إلى موقف النظام، معتبراً إياها مجرد مؤامرة خارجية، وحتى إنه لم يبد أي حساسية إزاء القتل والدمار الذي يتعرّض له شعب سوريا، كما سبق أن ذكرنا.
ويجدر الانتباه إلى أن هذا الموقف ليس بجديد على هذا الحزب باعتباره سوريا إقطاعية لعائلة الأسد، إذ لطالما ذكر أمينه العام في خطاباته مصطلح « سوريا الأسد »، وحتى إنه أهدى النصر المتحقق، الذي دفع ثمنه شعب لبنان ولا سيما أهل الجنوب، إلى كل من إيران و »سوريا الأسد »، بحسب ما جاء في خطاب « النصر »، الذي ألقاه بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوبي لبنان في مدينة بنت جبيل (2000).
هكذا وقع حزب الله في الفخّ، فهو لم يحاول البتة تكييف بنيته وشعاراته مع الوضع الجديد في لبنان بعد العام 2000، وتصرّف وكأن شيئاً لم يكن، والنتيجة أن شعب لبنان لم يعد حاضنة للمقاومة، بل إن سلاح المقاومة بات عاملاً من عوامل الانقسام والتوتّر بين اللبنانيين.
فقد ربط هذا الحزب مصيره بنظام الاستبداد في سوريا من دون مراعاة لمشاعر السوريين، كاشفاً في ذلك عن ارتهانه لمرجعيته الإيرانية، ولواقعه كحزب طائفي مثل الأحزاب الطائفية الأخرى. بل إن هذا الحزب لم يقف عند هذا الحد، فثمة مصادر سورية ولبنانية تتحدث عن وجود آلاف المقاتلين من حزب الله في سوريا، يقاتلون إلى جانب النظام من أجل وأد ثورة السوريين، وثمة بين الفترة والأخرى حديث عن دفن قتلى من هذا الحزب في بعض المناطق اللبنانية.
على ذلك فإن قصّة السوريين مع حزب الله تبدو جد مؤلمة وحزينة، وربما هي الأكثر دلالة على تدهور هذا الحزب، فهؤلاء كانوا قدّموا لهذا الحزب ما لم يقدّموه لأحد، وما لم يقدّمه أحد غيرهم له، رغم كل شيء.
وفي الحقيقة فإن هؤلاء بالذات هم بالضبط الذين توّجوا نصر الله زعيما عليهم، عن طيبة خاطر، وهؤلاء هم الذين احتضنوا جمهور حزب الله من مدن وقرى الجنوب في بيوتهم إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان (2006)، وهؤلاء هم الذين اعتبروا حزب الله حزبهم، ومقاومته مقاومتهم.
لم يفعل السوريّون ذلك، في حينه، بضغط من النظام، ولا عن سذاجة سياسية، ولا عن طيبة قلب، لقد فعلوها على الرغم من أنهم كانوا يسمعون خطب نصر الله، التي يقول فيها « سوريا الأسد »، أي التي ينقاد فيها بلدهم لشخص واحد ولعائلة واحدة.
وفعلوها رغم أنهم شاهدوا بأمّ أعينهم زعيم حزب الله وهو يهدي بندقية « المقاومة » إلى رستم غزالة أحد أزلام مخابرات الأسد في لبنان (أبريل/نيسان 2005)، مع كل ما يعنيه هذا الرجل وأمثاله بالنسبة للسوريين واللبنانيين. وقد فعلوها رغم أنهم يعرفون الطابع المذهبي لحزب الله، والذي يختلف بالذات عن مذهب أكثريتهم، التي تقتل اليوم وتدمر ممتلكاتها وسبل عيشها.
هؤلاء السوريون، الذين يُقتلون اليوم، والذين يحاول حزب الله رميهم بشبهة الطائفية، هم الذين فتحوا قلوبهم للناصرية أيام جمال عبد الناصر، وفتحوها بعده للمقاومة الفلسطينية، ثم لحزب الله.
هذا يعني أن هؤلاء السوريين احتضنوا حزب الله رغم معرفتهم بمحاباته لنظام الأسد، الذي يصادر حريّاتهم ويمتهن كراماتهم، ورغم معرفتهم بطابعه المذهبي ومرجعيته لإيران، أي لدولة غير عربية، فقد تناسى السوريون كل ذلك بسبب وطنيتهم، وبسبب من عدائهم لإسرائيل، وبسبب إيمانهم بالمقاومة.
مقابل ذلك فإن حزب الله، ومنذ اليوم الأول للثورة السورية، ومنذ أن كانت المظاهرات سلمية الطابع، أعلن انحيازه المطلق لنظام الطاغية، واعتبر أن ما يجري هو مجرد مؤامرة على سوريا، شاطبا في ذلك شعب هذا البلد، وناكرا عليه حقّه في الحرية والكرامة.
ولعلّ أكثر ما يلفت الانتباه أن حزب الله، وهو يرمي الثورة السورية بتهمة الطائفية، وهو بالذات في تركيبته وعقيدته ليس براء منها، لم يفهم أن احتضان السوريين له واحتفاءهم به كان يتأتّى من وطنية عميقة عندهم تتجاوز كل الطوائف والمذاهب.
حقاً، لننظر أين كان حزب الله وأين أصبح، وكم كانت مكانته في قلوب السوريين، وأين أصبحت. أيضاً، انظروا كم كانت مجتمعاتنا العفوية والشعبية وطنية وحداثية في احتضانها لهذا الحزب، وكم ظلّ هو غارقا في طائفيته الضيّقة.
بالنتيجة لقد خسر حزب الله في سياساته وحساباته وتحالفاته إزاء السوريين، وخسر معها مكانته وصورته بوصفه حزب مقاومة، عند السوريين وفي المجال العربي، وهي خسارة مؤسفة حقا. ربما كان يمكن لحزب الله أن يتجنّب هذا المصير التراجيدي، لكن ذلك كان يستلزم سياسات وخيارات أخرى قد لا تكون في مقدوره، بحكم دوره وتركيبه وتحالفاته، كما كان ذلك يستلزم نوعا من الاستقامة بين هدف التحرير وبين قيمة الحرية.