صورتنا لدى الآخر – سلام الكواكبي
صورتنا لدى الآخر 6 آب / أغسطس، 2016التصنيف مقالات الرأي سلام الكواكبي
في بدايات الألفية الثانية، عُقد في دمشق لقاءٌ حواري، في إطار نشاط ثقافي أوروبي ـ سوري، حول الصور النمطية، بأبعادها الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية، وقد استغل القائمون على هذا النشاط فسحة من “الحرية”، أتاحتها فترة “شهر عسل” بين الاتحاد الأوروبي، والنظام السوري حينذاك، حيث كان الوهم ببدء عملية إصلاح حقيقي، لا يُغشي أنظار بعض السوريين فحسب، بل ويمتد إلى أروقة بروكسل، وغيرها من عواصم القرار الأوروبي.
تخلّل هذا الحوار طرح مسائل عديدة، مرتبطة بالصورة النمطية لكل طرف من الأطراف، في رؤيته للطرف الآخر، وارتباط نشوء ونمو هذه الصورة، بإيجابياتها وسلبياتها، بعديد من العوامل التي تم استعراضها بكثافة؛ وقد تركّز الحديث عن الانطباعات “المشوهة”، أو “المُغرِضة”، أو “المتآمرة” لدى الآخر، مهما كان هذا الآخر، عن الشرق عمومًا، وعن سورية خصوصًا. وعلى الرغم من هدوء الحوار، فقد برز توجّه أوروبي مُعزّز برغبة “إكزوتيكية”؛ لمجاراة الشرق في المطلق، فأنتج هذا التوجه “المُحابي” خطابًا، يُشدّد على أن الغربيين عمومًا، والأوروبيين خصوصًا، لم يفهموا الشرق، على الرغم من علاقاتهم الاستعمارية والتجارية الموغلة في القِدم مع هذا الشرق.
وقد أضاف أصحاب هذا التوجه في النقاش، أن القرب الجغرافي لم يشفع للغربيين بالتمكن من أدوات الفهم اللازمة للشرق “المعقّد”، ووجد هؤلاء المعلقون في الطرف السوري تربة خصبة؛ لتعزيز هذا الشعور، خاطئًا كان أم مبالغًا فيه، لا فرق؛ حيث عدّ بعض السوريين أن ما يسمعونه من إطراءٍ “أعمى” عليهم، ونقدٍ أعمى لهم، منه لسوء النية المتصوّرة في نشر الصورة النمطية، هو أكبر دليل على أنه “من فمك أُدينك” (…). وطوّر الطرفان كلاهما، في مناجاة شبه غزلية، رؤيته حول الموضوع، مستندين -بمتعة لافتة- إلى كتاب صار شبه “مُقدّس” عند بعضهم، شرقًا وغربًا، وغير قابل -تقريبًا- للنقد، وهو عمل المرحوم إدوارد سعيد حول الاستشراق.
استمرت المناجاة في توجهها هذا، لدرجة أن أثار أحد المشاركين، من المثقفين السوريين البارزين، قضية يمكن أن تُعدّ سطحية بعض الشيء، ولكنها ذات دلالة مهمة؛ لأن طرحها منتشر كالنار في الهشيم في أطراف تفكير المعمورة المشرقية، تتمحور هذه القضية حول تركيز بعض التحقيقات الصحافية المصورة في المجلات الأجنبية على صور، تظهر فيها نساء محجبات، أو عربات قديمة تجرها البغال، أو شوارع غير نظيفة، يلعب فيها الأطفال حفاة (…)، وقد عزّز بعضهم هذا النقد عادّين أن هذه الصور “النمطية” لا تفيد في شيء؛ لمعرفة الآخر، ولتعزيز التقارب بين الثقافات؛ وكأنما المطلوب هو إخفاء أو إغفال الصورة العادية التي نراها كل يوم في شوارعنا، والتي تعكس طبيعة مجتمعية، لا يجب ان نعدّها مسيئة، إلا إذا كانت لدينا مشكلة هوية؛ فالتحقيق الصحافي، أو العمل البحثي، ليس دليلًا سياحيًا نقتنيه في مكتبات الفنادق الفخمة، تظهر فيه “حقيقة” مُتخيّلة.
السعي إلى تغيير الصورة النمطية لا يمكن أن يُبرر إغفال الصورة الحقيقية، والواقع الاجتماعي والديني والاقتصادي والسياسي الذي تحاشى كثير من النخب مواجهته، أفضى بهم، وبالمجتمع، إلى قطيعة حقيقية، تمخّضت عنها مأساة انعدام الثقة، وانعدام إمكانية التأثير في الرأي العام من قبل النخبة، وظهر هذا كله -جليًّا- في الفجوة الهائلة بين النخبة، وعامة الشعب، إبّأن الحراك الاحتجاجي في أكثر من مكان.
قطيعة ما زالت مستمرة في منطقتنا؛ ففي ندوة جرت منذ عدة أيام في بلد مغاربي، حول مسألة الإعلام والإدراك، ظهر هذا الخطاب جليًّا، من خلال الانتقاد شديد اللهجة لما تقوم به وسائل إعلام الآخر، في أثناء تغطيتها الأحداث المحلية في البلدان العربية، وبالطبع، يمتد هذا الانتقاد من جانبٍ مهني قابل للنقاش، وربما للتأكيد، إلى جانب يمس أبعاد المؤامرة بكل تجليّاتها، ويبدو ان الانتقادات، التي تكاد تصل الى حد الإدانات، تنمو أكثر في ظل عدم حرية الكلمة، أو إمكانية التعبير؛ فبعضنا ما زال يُغالي -أكثر من السلطات السياسية- في انتقاده للإعلام الخارجي “المُغرض”، دون أي بحث واعٍ عن سبب قيام هذا الإعلام -أحيانًا- بذكر ما لا يناسبنا، أو يناسب السلطات المسيطرة علينا؛ استقطابًا أو خوفًا أو قناعةً.
عندما يجري التضييق على الإعلام الخارجي في الدول العربية؛ فمن الطبيعي أنه سيقوم بصياغة الخبر، إن اعتمدنا حسن النية، على ما يتوصل به من معلومات. أما أن نمنعه من الولوج إلى مجتمعاتنا، ونضيّق عليه عمله وتجوله، ونحاسبه -في ما بعد- على إساءة حقيقية أو متصوَّرة، ففيه نوع من العبثية. ومن جهة أخرى، لا يمكن التغاضي -جهلًا أو سذاجةً- عن إعلامٍ معين، لربما لديه رغبات موجَّهة، ولكن حرية العمل هي أفضل وسيلة لمواجهته، وليس الإقصاء أو التضييق، ومن خلالها، أي: الحرية، يمكن تعديل أو تصحيح الصورة، أو تبرير حالتها القائمة، إن كان من تبرير.
في عودة الى النشاط الأوروبي في دمشق، في بدايات سنوات “التحديث والتطوير”، فقد حضرت مذيعة من القناة الفرنسية في التلفزيون السوري؛ لإجراء لقاء مع صحافي فرنسي، دعوته للمشاركة في حوارٍ صريحٍ عن الصورة النمطية، وليس لممارسة الدبلوماسية الجوفاء، وقد طلبت من السيدة الاستماع الى الندوة، وطرح الأسئلة في نهايتها، فأصرّت على أن تسأل قبل أن نبدأ؛ متحججة بانشغالاتها الجسيمة. والأنكى من ذلك، فقد طلبت أن نُجيب بصيغة الماضي عن محاضرة أُلقيت، وبدأت في قراءة ما كتبه لها أحدهم، بالسؤال التقليدي: “ما هي صورة سورية في الإعلام الفرنسي؟”؛ فنظرت إلى صديقي مع ابتسامة “خبيثة”، طالبًا منه بعضًا من الدبلوماسية؛ لنتمكن من البدء في المحاضرة. فهم الصديق الرسالة، وأجابها في عجالة: “إنها رمز لتلاقح الحضارات وموزاييك الأديان والتعايش وغنى الأوابد”، فانتقلت السيدة إلى سؤالها الثاني، والذي كان مكتوبًا طبعًا: “وما هي برأيكم الطريقة الأفضل لتغيير هذه الصورة؟”. أصيب صديقي بالهلع، وأصبت أنا بالخجل، وابتسمت السيدة عندما أجابها: “لا تغيروها أرجوكم!”.
في نهاية القرن التاسع عشر كتب عبد الرحمن الكواكبي في الموضوع، قائلاً: “لمّا كان ضبطُ أخلاق الطبقات العليا من النّاس أهم الأمور، أطلقت الأمم الحرّة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات، مستثنيةً القذف فقط، ورأت أن تحمل مضرَّةُ الفوضى في ذلك خيرَ التحديد؛ لأنَّه لا مانع للحكّام أنْ يجعلوا الشّعرة من التقييد سلسلة من حديد، ويخنقوا بها عدوّتهم الطبيعية، أي: الحريّة”.