طوفان البعث في باريس يحاكي طوفان الثورة السورية – أحمد صلال
عرض في سينما »ايتوال »الشهيرة وسط العاصمة الفرنسية -باريس- ليلة الاثنين الفائت, فيلم »الطوفان في بلاد البعث » للراحل الكبير والمخرج عمر أميرلاي, قبل عرض الفيلم كان الجمهور
الفرنسي على موعد مع عرض رسوم من كفرنبل, جلبت خصيصاً من البلدة لعرضها أمام الجمهور الفرنسي الذي شهد إقبالاً يمكن وصفه بالمميز
ما يمكن أن يعبر عنه قبل العرض في الصالة الرابعة من سينما « ايتوال », الحضور المميز للجمهور الفرنسي, الذي لا يمكن أن تصفه بالكلمات كادت أن تغص الصالة بالحضور, وهذا ما يدل على أن السينما الوثائقية ونتاج « أميرلاي » عبقرية تجد متلقيها الذي يحتفي فيها,ويقدرها حق قدره
الجمهور الفرنسي كان حاضراً لديه هاجس المتلقي لعدسة تعرف أن تصف كادرها وتؤثث اللحظة جمالياً ومعرفياً. والجمهور السوري القليل -قياساً بنظيره الفرنسي- كان هذا العرض بالنسبة له أكثر من فيلم, ربما كان فسحة لمحاورة الذاكرة -إحدى أوجهها- ماضياً يظهر بؤس حيواتنا في ظل هذا النظام, وحاضر منتفض يعزز يقينه الصادق, المشاهدات المستحضرة من الماضي سالف السر
ربما يكون »الطوفان في بلاد البعث » هو السيناريو الأخير للراحل « أميرلاي », ولكن قطعاً سيكون سيناريو سرمدي للضمير الجمعي السوري, حينما تروي السينما تفصيلات الواقع المعاش, كادراً كادر, بموهبة القادر المقتدر على تحويل العادي إلى مرتبة اللاعادي, المحتفي ضمن قالب كوميدي نسبياً وعلى إيقاعات الضحك الأسود بعقود من القهر والذل والاستبداد, هنا يصبح للسينما مكان أكبر من كونها فن,تصبح فن الحياة والعيش والثورة
السد الذي يظهر كثيمة جوهرية في السرد البصري لعدسة,أميرلاي, ينجح في حبس المياه ورائه ويطمر تحت المياه الكثير من البيوت والآثار, إنها جريمة تحاول طمس حياة كاملة, وخلق حياة أخرى بمقاييس بعثية صرفة, ولكن هذا الطمس مجرد أضغاث أحلام. نبؤة سينمائية وجدت آذان صاغية لها الآن على هدر الحناجر التي هدمت السد الأمني, وتدفقت سيول بشرية في شوارع وأزقة وحواري سوريا, تريد حياة على مقاييس ما تشتهي لا ما يفرض عليها. هنا يصبح لقراءة الفيلم فضاءات من التأويل.. تأويل سينمائي يركن لمشاهدات الفيلم بما هو كائن ظاهر وآخر مستبطن متفاعل. وتأويل ذاتي يستحضر التزاوج بين تاريخ ماضي من القهر وحاضر راغب بالظفر بحريته
ذياب الماشي بوصفه برلماني على مقاييس دولة البعث, حالة دون سياسية ترافقت مع قدوم « البعث », حالة عشائرية تختزل كل مميزات البرلماني بكونه قابل أن يكون عبد, حالة تشبه السد, أن تكون مياهه محبوسة خلف الإسفلت وتنظيم مجراه يكون بيد صاحب الأمر والنهي. لم يكن الماشي لازمة في الفيلم كتلك التي ظهر فيها رجل كبير في قارب وسط النهر, يستحضر حياة مرت من هنا, لازمة تشبه وردة حمراء في قلب قصيدة عبقري
عسكرة المجتمع هي ثيمة مقاييس دولة البعث,صغار يتلقاهم البعث من منظمة الطلائع ليسلمهم لمنظمة الشبيبة ومنها لإتحاد الطلبة, هذا طوفان البعث, الذي خرب أجيال لم يكتفِ بتخريب بيوتها وطمس معالم حضارتها.الأستاذ الذي يظهر في كوادر,أميرلاي, كلمة سر التي تكشف المستور ببلاهة تظهر كيف يلقن الطالب أن يكون عبداً في مملكة الصمت البعثية, وحالة الحواسب التي لم تخرج من علبها التي أودعت فيها, تقارب غياب الحرية التي أودعت في المعتقلات والسجون لمن يرغب بإخراجها من سباتها
بعدسة مرهفة وعبقرية,صور الراحل الكبير ,أميرلاي, « طوفان البعث »الذي دمر حيواتنا وحريتنا وأحلامنا, وبينما الجمهور يشاهد هذا الطوفان, كان ساحات سورية تشهد طوفان من نوع آخر راغباً أن يكون بديلاً لهذا الطوفان القتل والمدمر
والجدير ذكره أن الصالة كانت شاهدة على ندوة نقدية انعقدت خلف العرض, كان أبرز المتحدثين فيها, المخرجة السينمائية السورية المعروفة « هالة العبدالله », وهي أحسن من يعرف الراحل ويحسن التحدث عن أعماله ومراحل إنجازها,وكل ما يتعلق بخطواتها حتى أبصرت النور