عن الساحل السوري وشعبه اللطيف – مانيا الخطيب
منذ قرون عديدة قبل ميلاد المسيح وعلى مقربة مما يسمى اليوم « اللاذقية » المدينة الساحلية السورية قامت مملكة أوغاريت والتي تم اكتشافها صدفةً في عام 1928 ميلادي.. من هناك من تلك البقعة من العالم، انطلقت أول أبجدية في التاريخ، أهدى إنسان تلك المنطقة أهم اختراع في حياة البشرية وهو الكتابة
مدير متحف اللوفر في الستينيات آندريه بارو قال قوله الشهير بعد أن كان يوماً ما، باحثاً للآثار في تلك المنطقة: « لكل إنسان في هذا العالم وطنان، الوطن الذي ولد فيه والثاني سورية » ليختزل بما قل ودل الزخم الحضاري الذي تتحلى به هذه البقعة الجغرافية من العالم
وبعد ذلك بأزمان انتشرت في السلسلة الجبلية المحاذية للشريط الساحلي السوري شعوب لديها معتقدات من ضمن أهم مكوناتها أهمية خاصة للإمام علي رضي الله عنه، الذي لم يعرف التاريخ أشجع وأحكم منه، لديه أقوال من عمقها تختزل معاني إنسانية وأخلاقية رفيعة منها
« أيها الحق لم تبق لي صديقاً »
« الناس من خوف الفقر في فقر ومن خوف الذل في ذل »
» لو كان الفقر رجلاً لقتلته »
وإلى ما هنالك من هذا الكلام العميق
شعوب تلك الجبال والمناطق المحيطة بها عاشت تحديات حياتية ومعيشية ولكنها شعوب تحب الحياة، والحرية، لديها الكثير من التشابه مع طبيعتها الخلابة الساحرة..ولديها أيضاً الكثير من الطيب والبساطة
لم تكن تعرف تلك البقاع ولا سكانها أنه سيخرج من بينها شاب لديه من الطموح ما يفوق خلفيته، ومن الذكاء الحاد ولكن الشرير، والكثير الكثير من الحقد وعقد النقص التي طبعت مخططاته
ما سيجعله يقفز في مطلع الستينيات على ثورة حزب البعث التي أعقبت انفصال سورية عن مصر ويبدأ بكل هدوء وحنكة بالتحضير لافتراس كرسي الحكم في سورية، ذلك الكرسي الذي كان عصياً و عسيراً على حتى من كانوا أقوى منه وأكثرهم شعبية ولهذا عرف أنه بحاجة إلى الكثير من أدوات المكر وسأتحدث هنا فقط عن الجزء المتعلق بأهل منطقته وهو شعب الساحل اللطيف
وفي نسيج هذا الشعب كان سيتواجد حتماً من يمكن استثماره لهدف وحيد وهو تثبيت حافظ الأسد على كرسي الحكم في سورية هو وعائلته إلى حد الأبدية، هذا ما صوره طموحه المرضي، وطبقه لعقود
ألم يكن طلاب المدارس في صباح كل يوم على إمتداد سورية من أقصاها إلى أقصاها يقفون ويرددون أمام معلمي الفتوة الشعار الصباحي الفجائعي
« قائدنا إلى الأبد…الأمين حافظ الأسد »
تباً لك أيها التاريخ كيف استطعت أن تفعل بنا هذا
نعود إلى الكيفية التي نسج فيها الأسد شرنقته بالاعتماد على أهل منطقته
إضافة إلى إخوانه الأغبياء وعديمي الأخلاق جميل ورفعت اختار من هم على شاكلتهم من الناس المسحوقين الذين سيكونون طوع بنانه عندما يتذوقون شهوة الحكم والجاه وستطلق اياديهم في المال العام دون حسيب أو رقيب
وستعطى لهم صلاحيات غير محدودة في سحق أي شخص يخالفهم الرأي
وهكذا طور أدواته تلك إلى حد أصبحت فيه على سبيل المثال المؤسسة العسكرية من أكثر المؤسسات عفونة وفساد… ولكم الآن في دورها المخزي في قمع الانتفاضة الشعبية مثالاً عن سبق إجرامي لم تعرف له البشرية مثيل
أبناء الطائفة العلوية في سورية التي ينحدر منها حافظ الأسد وعائلته هي أكثر طائفة عانت وتمرمرت منه ومن سلطته، كانت عقوبة من يخالف منهم، هي عقوبة مضاعفة
عايشنا منهم من أسقطت عنه الحقوق المدنية، وكان التنقل بالمواصلات العادية من مدينة إلى أخرى يشكل صعوبة كبيرة نظراً لعدم توفر بطاقة الهوية الشخصية معهم، وفي سورية يجب إبراز الهوية لتسجيل قوائم الركاب حتى لوكانت الرحلة لا تتجاوز المائة كيلو متر، منهم من قضى سنوات طويلة من عمره في السجون
أتذكر الآن الكاتبة الروائية حسيبة عبد الرحمن التي عانت الأمرين ودفعت ضريبة عالية جداً لمواقفها المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية
وفي نفس السياق قرأت في موقع الحوار المتمدن قصصاً كتبتها الدكتورة وفاء سلطان التي تنحدر من مدينة بانياس الساحلية عن القهر والذل الذي كان يمارس ويعايش في صميم الحياة اليومية للبشر يمارس تماماً من نفس أبناء جلدتهم ولكن أولئك الذين أصبحت أدمغتهم مغسولة ومحكومة بألوهية حافظ الاسد وحكمه الأبدي لسورية
الأستاذ الدكتور عارف دليلة ارتكب في نظر هذا النظام جريمة فقط لأنه كخبير إقتصادي حلل ووضح وشرح قوانين الاستثمار التي فصلت على قياس المنتفعين من المقربين للحكم، وليس لبناء إقتصاد وطني تعم فيه خيرات وإمكانيات البلد على أهل البلد ولا تذهب إلى جيوب فئة محدودة جداً ممن هم محكومون بوهم الخلود ولا يخطر لهم أن هذه الأموال إن آجلاً وإن عاجلاً ستعود إلى أصحابها
الدكتور دليلة ابن الساحل السوري، عالم الإقتصاد الجليل أمضى عقداً كاملاً من حياته في سجون النظام حتى يكف عن تقديم تحاليل إقتصادية ثمينة وخسر منصبه كعميد لكلية الإقتصاد في جامعة دمشق ثمناً لمواقفه النبيلة
قرأنا بعدها عن المعاناة الرهيبة التي عاشتها عائلته ومنهم ابنه فراس الذي أعيد إلى أهله بين الحياة والموت من الضرب المبرح الذي تلقاه من العصابات التي لم تكن قبل هذه الإنتفاضة المباركة تضايق غير أهل الساحل أنفسهم…الذين هم أنفسهم أطلقوا عليها اسم « الشبيحة » والآن امتد عملها ليشمل كامل أنحاء سورية
بعد انطلاق الانتفاضة، صادفنا يوماً شخصاً في المهجر، ينحدر من قرية قريبة من اللاذقية، كان يتكلم بألم عن انفضاض الناس من حوله فقط لأنه « علوي » يقول أنه قضى عشر سنوات من عمره في سجون النظام بسبب انتسابه لحزب العمل الشيوعي، وأنه يعيش لاجئاً في المنفى لنفس السبب
وقد حدثنا من ضمن ما حدثنا ان قريته تعرضت للإضطهاد الإداري لأنها لم تتجاوب مع دعوة التافه جميل الأسد شقيق الرئيس السابق إلى جمعية المرتضى، ولمن لا يعرف تلك الجمعية فهي باختصار كان تسعى لجمع أكبر قدر من الحثالة وعديمي الأخلاق، لا يتورعون عن اي فعل مهما كانت دناءته لحماية كرسي الحكم
أخبرنا عن نكتة كان يتناقلها أهل المنطقة عندما توفي جميل الأسد أن ابنيه فواز ومنذر عندما اتفقا على تقسيم التركة قال أحدهما للآخر أنا آخذ الجو وأنت تأخذ البر والبحر…نكتة رمزية تعبر عن أن هذه هي الطغمة الفاسدة التي تحكم سورية قد سيطرت على كل منافذها لمصلحتها الشخصية ولتمارس هوايتها المفضلة في تهريب كل ما يمكن تهريبه ويصب في جيوبهم مزيد من المال.. من وإلى سورية، أسلحة، مخدرات، آثار المهم أنها تدر النقود….النقود المسحوبة من دم الشعب وقوت أطفاله وتعليمهم وصحتهم
حكى لنا أنه ما من فتاة صبية كانت تجرؤ على « الكسدرة » و »المشورة » مساءً لأنها قد تعجب أحد ابناء « العائلة المالكة » ويشتهيها لنفسه ولن تجرؤ على الرفض
أي ذل هذا تعرض له هذا الشعب الطيب من هذا النظام الرجيم
أتذكر رحلتين واحدة كانت إلى ريف حمص المدينة التي تنزف الآن وتذبح من الوريد إلى الوريد، المدينة التي يقنطها واحد من أطيب وأظرف الشعوب والتي فيها أعلى نسبة تعليم في القطر كله ومن حملة الشهادات الرفيعة
ذهبنا يومها في أحد الأيام في التسعينيات، مشياً على الأقدام وصلنا إلى قرية »علوية » وزرنا عائلة شربنا معهم الشاي وقد لاحظت شدة بساطة الظروف التي يعيشون فيها وكيف أن جزءً من أرض الدار مخصص للمواشي التي تشكل مصدر رزقهم
في رحلة أخرى إلى ريف اللاذقية توقفنا عند بعض النساء الذين ينصبون التنور على قارعة الطريق لتحضير الفطائر الطازجة للمارة وكيف أنهن حقاً لا زالوا على فطرة تلك المناطق من البساطة والطيبة حتى أنني حاولت أن ألتقط صورة مع إحداهن فقالت لي « الصورة عيب أنا حتى في عرس إبني لم أقبل أن أتصور » وكانت غاضبة
أين هؤلاء من الصورة النمطية التي يحاول النظام نفسه ترويجها ليستعمل ابناء طائفته أنفسهم وقوداً في معركته للحفاظ على كرسي الحكم
هل هؤلاء البسطاء الذين رأيتهم وعاشرتهم هم أزلام نظام حافظ الأسد ووريثه القاصر بشار الذي كان عمره اربع سنوات عندما استلم والده الحكم في سورية، هل بشار نفسه يعرف شيئاً عن الطائفة العلوية أو يمت بصلة لها، وإذا كان يمت فذلك فقط بما يمده بمزيد من الوهم أنه باق في الحكم
تحضرني القصة التي كتبها الدكتور خلدون النبواني بعيد اندلاع الانتفاضة « أنا وصديقتي الشبيحة » وأحاول أن أدخل إلى عقل تلك الصبية التي صورت لها سنوات الشعور بالإنتماء إلى الطبقة الحاكمة… شعوراً زائفاً بالأمان والإطمئنان » أننا نحن لا يصير علينا شي » هذه بالضبط الفكرة التي اشتغل عليها الشرير حافظ الأسد في عقل طائفته لينسيهم أن انتماءهم هو إلى الوطن وأن أمانهم مربوط بأن تكون البلد وأهلها كلهم برخاء ويشعرون أنهم مواطنون يتمتعون بحقوقهم ويقومون بواجباتهم كما كانت دوماً وليس أن يشعرهم ان مصيرهم مربوط به وبكرسيه وأنه إذا هو ذهب فقد ذهبوا معه… اي قبح في هذا التفكير
شعور صعب جداً يصيبني عندما اقرأ بعض التعليقات الواردة في مواقع على الانترنيت من قبيل « بشار النصيري » أو « نظام الحكم العلوي » أو » أهل الباطن » إلخ من هذه التعابير التي تجانب الحقيقة مجانبة خطيرة وتضع المطالبات بحرية سورية وأهل سورية على كف عفريت طائفي يبهج له النظام الحاكم في سورية أشدالإبتهاج لأنه يعلم علم اليقين أن القصة ليست هكذا البتة وأنه هو ومنظومته الإجرامية القائمة على تركيبة من عناصر من كل فئة من فئات الشعب الموجود في كل زمان ومكان من هذه الكرة الأرضية والتي تبيع ضميرها وكرامتها مقابل حفنة من المال أو الجاه
لقد كان بياناً رائعاً ويعبر تماماً عن الحقيقة ذلك الذي أصدره وجهاء الطائفة العلوية في حمص يوم 11 أيلول، قائلين
– نعلن براءتنا من هذه الأعمال الوحشية التي يقوم بها بشار الأسد و أعوانه من – الذين ينتمون إلى كافة الطوائف – ونتحمل مسؤولية ما نقوله – (والعلم للجميع) – بأن هذا النظام لم و لن يمثل هذه الطائفة الشريفة في أي حال ٍ من الأحوال »
وليس هذا النظام قائماً سوى على استثمار جزء من الطائفة العلوية وأجزاء من بقية الطوائف الشرائح، استعدت للمضي في حماية هذا النظام حتى الوصول معه إلى الهاوية السحيقة المحتومة
ايلاف – ١٥ أيلول ٢٠١١