غارانس لوكين “ما زلت أعتقد أن الثورة السورية ثورة شعبية وسلمية” – حوار عبد الكريم أنيس
غارانس لوكين “ما زلت أعتقد أن الثورة السورية ثورة شعبية وسلمية”
حوار عبد الكريم أنيس – 19 mars 2017
الصحفية الفرنسية الشجاعة Garance Le Caisne لم تكتف بالحديث عن سوريا والسوريين بمراسلة النشطاء الذين اتخذوا قرارهم بمعارضة العصابة الأسدية، بل ذهبت إليهم، وجلست معهم، وتعرضت للأخطار، حتى أنها تبرعت بكمية من الأقلام لطلاب مدينة حلب لأنها اعتقدت أن التعليم عامل حاسم للتغيير. وقامت بكتابة كتاب عن عملية قيصر التي وثقت تصفية آلاف من السوريين في أقبية معتقلات المسلخ العصاباتي للنظام السوري.
كلنا سوريون أجرت الحوار التالي مع الصحفية الفرنسية:
لو سمحت نرجو أن تعرفينا بنفسك، شخصياً وعائلياً ومهنياً. هل أثرت حياتك المهنية على حياتك الشخصية؟ باعتبار أن مهنة المتاعب التي قمت باختيارها هي مهنة مرهقة على الصعيد النفسي لذا لابد أنها قد تؤثر على الحياة الشخصية والمحيطين فيها.
اسمي غارانس لوكين، صحفية فرنسية مستقلة، عمري 50 سنة، بدأت عملي كصحفية في مصر سنة 1992 وحتى عام 2000. أكتب في صحيفة اسمها جريدة الأحد وفي مجلة أسبوعية لونوفيل أوبسرفاتور . قررت تغطية الأحداث في سورية منذ بداية الثورة وقررت أن تغطية الأحداث من الداخل هي الأهم.
على الصحفي ان يتحرك بسرعة ويكتب بنفس السرعة إذ لا يمكن كتابة كتب خلال فترة قصيرة. عليك كصحفي أن تختار لأن المقالات الصحفية قصيرة وعندما تختار مقالك فأنت قد اتخذت قرارا بنقل وجهة نظر. لا أعتقد أن هناك رابطا بين هذا وبين الانتماء السياسي. أما بالنسبة لحياتي الشخصية فلا أعتقد أن عملي كصحفية قد أثر على حياتي الشخصية.
ماذا كانت انجازاتك الصحفية قبل اندلاع الثورة السورية؟ ماهي القضايا التي كانت تشغل بالك وتحتل حيز اهتمامه وكانت محور حياتك الصحفية؟ كيف انحزت لهذه القضايا؟ هل كانت هناك صدفٌ ما في حياتك العملية دفعتك للاهتمام بنوعية معينة من الأحداث؟ ما هي ميولك السياسية وهل كان لها تأثير بتوجيه اهتمامك الصحفي؟
كنت مهتمة بالشرق الأوسط بشكل عام قبل سورية. كنت أعيش في مصر ولست أعرف بالضبط لماذا كنت وما زلت مهتمة بالشرق الأوسط والبلاد العربية. وأحب كثيراً التحدث بالعربية حتى لو لم أكن أتقنها.
من جهة أخرى، لا أعتقد أن ميولي أو توجهاتي السياسية لها علاقة أو أنها تؤثر على اهتماماتي الصحفية. ما أعرفه هو أنني أناضل ضد أشكال الظلم وربما هذا هو الشي الذي يؤثر على عملي واهتماماتي كصحفية.
كصحفية فرنسية مستقلة، ما الذي دفعك لأخذ موقف من الثورة السورية؟ من أين استقيت مصادر معلوماتك؟ كيف ومتى أخذت قرارك بالانحياز اليها؟ لصالح من عملت بتغطية أخبار الثورة السورية؟ من أين يؤمّن زملائك الصحفيين مصادر معلوماتهم. هل هي مرتبطة بمصادر أمنية تزودها بهم أجهزة الاستخبارات الفرنسية والأوربية؟ أم أنهم يحصلون عليها من مصادر مباشرة من الأرض السورية؟
أنا سافرت داخل سورية. مصادري إذن من داخل الأراضي السورية حيث التقيت بأطباء ونشطاء مدنيين بالإضافة لسكان مدنيين. ولم أعتمد يوما على أجهزة الاستخبارات كمصدر لمعلوماتي. وليس لدي أي علاقة أو روابط بهذه الأجهزة سواء الأوروبية أو الفرنسية فكيف بالسورية.
هل تستطيعين اعطاءنا خطاً زمنياً منطقياً للأحداث ضمن مسار الثورة السورية؟ هل تلاحظين أنه يتم اغفال هذا التسلسل الزمني بشكل متقصد وعامد ضمن الاعلام الفرنسي حين الحديث عن الثورة السورية؟ لماذا ساد في الأوساط الغربية وضمن الاعلام الفرنسية مفردة “الحرب الأهلية” بالإشارة للأحداث التي تحدث في سوريا؟ ما هو مدلول ذلك برأيك؟
عندما يتعلق الأمر بالوضع في سوريا بعد بداية الثورة، لم يكن بالإمكان تجاهل ما كان يحصل. الإعلام يعتمد بشكل رئيس على السرعة واستخدام مصطلح الحرب الأهلية ربما لم يحدث بوعي تام. غالبا أيضا ننسى التاريخ عندما نكتب مقالة قصيرة في الزمان والمكان. ولا يمكن للصحفي إعادة شرح الوضع في سوريا في كل مقال. ربما ننسى بعض الأحداث أحيانا لكنني متأكدة أن استخدام المصطلح ليس وعيا بواقع ولا نفيا له. إنه فقط السرعة واللحظة.
وأنت ابنة عاصمة الأنوار باريس، والثقافة الغربية التي تقوم على مبدأ رئيس هو الحرية، هل تعتقدين حقاً بوجود حرية صحافة حقيقية؟ كيف تقرئين إذن التقلبات، بمدلول استبدال المصطلحات بين الفينة والأخرى، خصوصاً مع التقلبات السياسية التي ترافق موجة المصلحة القومية لدولة ما؟ ألا تعتقدين أن موجة جديدة باتت تستخدم الخطاب المهذب والدبلوماسي مع النظام الحاكم في سوريا؟
نعم أؤمن بالحرية وبحرية وسائل الإعلام بشكل خاص. أعرف أنه في سورية وبقية البلاد العربية يجب أن تقاتل للحصول على تلك الحرية. أما في فرنسا وأوروبا فعلينا أن نقاتل حتى لا نخسر ما نملكه حاليا من حرية وخصوصا حرية الإعلام.
عندما يتعلق الأمر بسياسات التغيير أو بالتغيير نفسه، لا يمكن القول إن التغيير مزاج وأن هناك علاقة بين التغيير وسياسة التغيير في سوريا. هناك واقع له متغيرات ومن يمتلك القدرة على التأقلم مع تلك المتغيرات سوف يستمر في نهاية الأمر.
برأيك لماذا انقلب الرأي العام العالمي ضد الثورة السورية؟ هل لازلت شخصياً تعتبرينها ثورة شعبية؟ هل تدافعين عن ايمانك بالقضية السورية بمواجهة المؤسسات الاعلامية الكبرى في فرنسا؟ هل يتم دعوتك باعتبارك شخصية زارت سوريا العديد من المرات للحديث عن وجهة النظر التي لا تزال تتمسك بصوابية الموقف من النظام الحاكم في سوريا والدعوة لإزالته؟ هل تستطيعين أن تقولي لنا بصراحة رأيك بالداخل السوري وكأنك تتحدثين للإعلام الفرنسي كشاهد عيان؟
أنا ما زلت أعتقد أن الثورة السورية ثورة شعبية وسلمية. أما لماذا أدار المجتمع الدولي ظهره للثورة السورية فربما حدث ذلك لأن الوضع ازداد تعقيدا وفي أيامنا يفضل الناس الأمور السهلة والفصل الواضح بين واقعين سهلين (أبيض واسود). غالبا يصعب التعامل مع الاوضاع المعقدة والرمادية . من الصعب جدا على الإنسان الشك فيما يعرف. أحيانا يسهل على الإنسان التقييم بخط فاصل: هذا خير وذاك شر. لكن في أحيان أخرى ليس الشر شرا مطلقا وليس الخير خيرا مطلقا ويصبح من الصعب على الصحفي الكتابة عن هذا الأمر.
بالنسبة لي، تغير الوضع بعد تلك البدايات ولم يعد الأمر ثورة. صحيح أن هناك أناس ما زالوا يقاتلون ويناضلون من أجل الثورة. لكن هناك جهاديو داعش والنصرة وهؤلاء ليسوا ثوارا. هناك ثوار ومدنيون يؤمنون بالثورة ويريدونها كما كانت في البدايات وهؤلاء يريدون الخلاص من بشار الأسد لكننا لم نعد نسمع أصواتهم لغياب مجموعات سياسية تدعمهم وتوصل صوتهم. بالنسبة لنا، كصحفيين أجانب، صار من المستحيل علينا الوصول لسورية المحررة لنقل أصوات هؤلاء الثوار والنشطاء بسبب مخاطر الخطف والقتل.
قمت بزيارة حلب عدة مرات ولك العديد من العلاقات العامة مع الناشطين الثوريين، هل نستطيع أن نحصل منك، كمراقب خارجي، على أكثر الأخطاء التي وقع بها الثوار، وتعتبر من الأخطاء التي يجب اعادة النظر حولها؟ هل تعتقدين بوجوب قبول خصوصية الشعب السوري وخياراته؟ أم أن على الشعب السوري أن يقيس المعايير التي يضعها المجتمع الدولي لكي ترضى عنه الدول العظمى وتقف في صفه؟
برأي أن أحد أكبر الأخطاء هو أن النشطاء أرادوا من البداية توثيق وجمع أدلة عن الجرائم التي تحصل في سوريا. هكذا رأينا هذا الكم من الفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي جعلنا نصل إلى حد الإشباع. بالنسبة لنا كأوروبيين، سنحتمل رؤية فيديوهات الدم والعنف والأشلاء لفترة معينة، بعد ذلك سوف نتوقف عن المتابعة. أعتقد أن هذا رد فعل بشري. أيام النازية والحرب الثانية، كان الأوربيون يعيشون ما تعيشونه في سورية لكنهم تابعوا حياتهم حتى انتصروا عليها. المدنيون الإعلاميون في سورية نشروا كمية هائلة من الفيديوهات التي انقلبت ضدهم في النهاية ولم يعد يتابعها أحد.
هل تعتقدين أن الثورة السورية قد تعرضت لخيانة من قبل المجتمع الدولي؟ أم أن الخيانة الأكبر كانت من قبل الثوار أنفسهم في فشلهم الذريع بتنظيم أنفسهم وادارة شؤونهم الخاصة بدلاً من الارتهان للممولين والمصالح الخارجية؟
بالنسبة لي، علينا أن نقبل خصوصية السوريين وخياراتهم. ليس على السوريين القبول بالإملاءات الدولية. لكن هذا بحد ذاته صعب لأننا نعيش في عالم سياسي. هناك الكثير من الدول والناس لا يريدون تقبل خصوصية السوريين لكن على السوريين النضال من أجل ذلك حتى لو كان الأمر صعبا في وجه العالم السياسي والديبلوماسية الدولية.
بالنسبة للسوريين الذين عاشوا أربعين عاما تحت الديكتاتورية، كان من الصعب تنظيم أنفسهم ضمن مجموعات سياسية لأن هذا علم نظري وتجربة تكتسب ولم يكن ذلك ممكنا. الثورة الفرنسية سنة 1789 مثلا حوت الكثير من العنف والدم وكانت فترة اكتساب التجربة فيها طويلة.
قمت بكتابة توثيق مروع عن ما سربه أحد جلادي النظام الحاكم في سوريا “سيزر” هل تعتقدين أن هذا الكتاب ولهذه الوثائق فائدة تذكر ضمن مجتمع دولي وقح ومنافق، يستشيط غضباً لسجن أحدهم ويحرك كل مؤسساته الدولية ضد هذا العمل المشين ولكنه يقف متفرجاً بدون حياء أمام وثائق تتحدث بكل فظاعة ممكنة عن تصفية وقتل سجناء سياسيين تمت ضمن أقبية النظام الحاكم في سوريا؟ لماذا كتبت هذا الكتاب، مع أن فجيعة تصفية السجناء الأخلاقية واعتقال عشرات الألوف، بينهم ألوف من النساء والأطفال، لم تكف لتحرك أحداً بل على العكس هناك تحركات لعودة العلاقات مع هذا النظام الوحشي؟
لا أعتقد أن الكتاب وحده سوف يغير الأشياء. ربما سيساعد الكتاب المجتمع الدولي على تغيير نظرته للواقع السوري. أنا كتبت الكتاب من أجل السوريين وكان هذا هو هدفي. لم يكن الهدف منه تغيير الرأي العام. كان هدفي الوصول لمعتقلين ومعتقلات وإعطائهم هذه المساحة المكانية والزمانية حتى يقولوا ما شاهدوه وعايشوه.
“قيصر” لم يكن عنصر مخابرات بل كان مصورا عسكريا. أجهل إن كان الكتاب سيغير أي شي ولكن الهدف من كتابة الكتاب كان من أجل السوريين ولتوثيق ما كان يتم في السجون مثل صيدنايا وغيره. فيما بعد، لا أعرف إذا كان الكتاب سيساهم في التغيير او سيغير في حقيقة الأمر. أعرف أنه تم الاستشهاد به في دعوى حقوقية ضد النظام أمام محكمة فرنسية (يوجد حاليان قضيتان مرفوعتان أمام القضاء الفرنسي)
كيف تنظرين حقيقة للنشطاء الذين تركوا بلادهم وحصلوا على اللجوء في فرنسا؟ هل تعتقدين أنهم جبناء هربوا من أرض المعركة؟ هل لو كنت صاحبة قضية عادلة ومحقة لتفري من بلادك وتتركينها للنظام المجرم؟ هل يوجد شيء من هذا القبيل ضمن التاريخ الفرنسي ابان الاحتلال النازي الألماني لفرنسا؟
أنا لن أطلق حكما على النشطاء الذين قرروا مغادرة سوريا وطلب اللجوء في فرنسا. ربما كان عليهم القيام بذلك وهذا ما فعلوه. لا أعتقد أنهم جبناء، ولا أعتقد أنهم غادروا خوفا. على المستوى الشخصي، بعد أن تتخذ قرارا بهذا الخصوص، عليك تحمل نتائجه. بإمكان الناشط خارج سورية القيام بعدد من النشاطات لصالح بلده والثورة. وأحيانا قد يكون دورك خارج سورية أكثر أهمية من دورك داخلها.
أنا لم أحس بأي شك تجاه النشطاء السوريين. شعرت بالكثير من الثقة بهم ومن قبلهم والكثير من اللطف في التعامل. كرم الضيافة عند السوريين واستقبالهم لي في كل زيارة لسورية كان رائعا. لم أشعر أبدا أن خطرا ما يهددني أو سيلحق بي أي أذى.
هناك مخاطر عديدة تلاحق الصحفي حيثما يذهب وحين يحل، لكن وبالرجوع للعديد من أرشيفات المخابرات العالمية نجد أن غالبية العملاء الذين تخفوا لإخفاء مهنتهم الحقيقية تخفوا تحت مسمى رجل الصحافة، هل تعتقدين أن الصحفيين الذين تم قتلهم أو اختطافهم في سوريا كانوا ضحية اجرامية للجشع المادي للحصول على فدية مالية؟ أم أنهم كانوا ضحايا الأنظمة المخابراتية التي استخدمت ولوثت مثل هذه المهنة الشجاعة وصاحبة الرسالة الكبيرة لإيصال صوت من لا صوت له؟ هل يمكن بالتالي تفهم سبب حساسية الناس من الغرباء الذين يقدمون تحت مسمى اعلامي؟ هل حدث معك شيء من هذا القبيل؟ هل تستطيعين أن تشرحي لنا حادثة مما حدث معك أثناء وجودك بسوريا؟
بعض الصحفيين اختطفوا في سورية. مثلا كان هناك أربعة صحفيين فرنسيين بين المخطوفين الذين خطفهم تنظيم داعش وطالبوا بمبالغ طائلة وأرادت استخدامهم كأسلحة ضد أوروبا. هناك صحفيون آخرون تم اختطافهم لصالح أجهزة الاستخبارات لكن لا أملك المزيد من المعلومات عن هذا الموضوع.
بالنسبة لي، واجهتني صعوبات كبرى أثناء بحثي للقاء معتقلين سابقين أو معتقلات سابقات في سجون النظام اكثر من صعوبات ذهابي وتجوالي في حلب.
شخصيا لم أحس بالخطر في سورية إلا مرة واحدة عندما كنت مع محمد محمود وحينها قصفت طائرة للنظام الحي بصاروخين انفجرا على مسافة خمسة عشر مترا من مكان تواجدنا. لكن حتى بعد القصف مباشرة، لم أحس بالخطر. لكن أحسست بالخطر على شخصي عندما التقيت بمعتقلين سابقين في سجون النظام.