فرصة لثقافة تحررية ولسياسة مغايرة – ياسين الحاج صالح
يرى الصديق حازم صاغية أن الوضع السوري يمكن أن يكون «فرصة (ثقافية) للسوريين، وربما للعرب» («الحياة» 29/ 3/ 2014). يتكون هذا الوضع العضال من تفاعل ثلاث قوى: «النظام بعنفه الهمجيّ المصحوب بالتحلّل الميليشيويّ»، و «الثورة التي تكاد الحرب الأهليّة والأزمة الإقليميّة تبتلعانها فيما يتضخّم جيبها الإسلاميّ التكفيريّ على حساب جيبها الأقلّ إسلاميّة وغير التكفيريّ»، وامتناع التدخل الغربي. وفي مواجهة هذه الحال يزكي حازم تحولاً مرغوباً في التركيز من «السياسي» إلى «الثقافي»، بمعنى يحيل إلى «مسؤوليّة الشعوب والجماعات عن مصائرها وبلدانها في صيغتها الوطنيّة الراهنة أو في صيغ أخرى». ليس هذا واضحاً تماماً، لكن يبدو بالفعل أن الثورة السورية، والأوضاع القصوى التي تواجه السوريين منذ ثلاث سنوات، تدفع إلى إعادة نظر جذرية تطاول الدين ودوره العام والسياسات المبنية عليه، والدولة ومؤسساتها والنظام السياسي، والغرب، وجدارته في أن يكون قوة عالمية عامة، فكرية وقيمية، وسياسية.
في أوقات سابقة للثورة كنا نقول إن صون استقلالنا الأول، الاستقلال عن أي سيطرة أجنبية، مرهون بنيل استقلالنا الثاني، أي التخلص من الاستبداد وسيادة الناس على مصيرهم، وأن هناك استقلالاً ثالثاً، أساسياً، «الاستقلال عن السماء» الذي يؤسس للحرية الداخلية والروحية، ويشرط كل حرية ممكنة في مَواطننا. في مواجهة مطالب الاستقلال الثاني، كان حامي الاستقلال الأول المفترض، النظام، هو من دعا أجانب من إيران ولبنان والعراق لاحتلال البلد ومساعدته في قتل محكوميه الثائرين. وفي تضاعيف معركة الاستقلال الثاني ذاتها، وفي مواجهتها أيضاً، ظهرت أشكال استعمارية من الحكم الديني، تجمع بين الأجنبية والتعالي على المحكومين مثل كل استعمار، وبين التحكم بهم بالعنف مثـل النـظام الأسدي، وبـيـن التـكفيـر كعقيدة مشروعة لإباحتهم وإبادة الثائرين منهم.
وفي خلفية ذلك كله، هناك ما يتجاوز امتناع الغرب عن التدخل. الأميركيون تدخلوا منذ وقت مبكر نسبياً، ومراراً، عند قوى إقليمية مؤثرة كي تمتنع عن مساعدة الطرف الأضعف في الصراع السوري، الثائرين المسلحين. هذا من دون قول شيء عن أن الأوضاع التي ثار السوريون ضدها متشكلة بفعل تدخل غربي مديد، أميركي تحديداً، «دوْزن» أوضاع الإقليم ككل حول أولوية «الاستقرار»، أي لمصلحة النظم الحاكمة ولغير مصلحة الشعوب، وهذا في منطقة مدوّلة تكوينياً كما يدل اسمها ذاته: «الشرق الأوسط». القصد أن الأمر بعيد جداً من تدخل غربي ممتنع، وأن هناك تدخلاً أميركياً فعلياً لغير مصلحة الثورة، يضاف إلى التدخل البنيوي الذي شكل الأوضاع في صورة مناسبة للأقوى.
لدينا في المحصلة مزيج من استعمار قاتل (إيران وحالش…)، وطغيان قاتل (النظام الأسدي)، ونظام استعباد ديني قاتل بدوره (داعش وأخواته)، من دون سند سياسي أو قانوني عالمي. ومن دون سند قيمي أيضاً. الإعلام الغربي منشغل بالاستعمار الديني لـ «داعش» وأشباهه، وساكت عن استعمار إيران وأتباعها، وعن جرائم النظام الأسدي. واليمين واليسار الغربيان متحدان على نحو غير مسبوق حيال كفاح السوريين. والحكومات الأوروبية نصبت أسواراً صينية في وجه اللاجئين السوريين، تثير في النفس شعوراً بالاحتقار العميق. تبقى أصوات منفردة لمثقفين وفنانين وناشطين سياسيين ينقذون شيئاً من كرامة الغرب.
الاستقلالات الثلاثة تفرض نفسها في آن واحد، وليس بالتعاقب. هذا مستحيل سياسياً، لكن لا شيء يحول دونه ثقافياً. بالعكس إنه فرصة لتفكير جذري في حالنا في عالم اليوم وحال عالم اليوم حولنا. تفكير جذري بمعنى أن لا يستند إلى مثال ناجز. لا نجد حلاً لمشكلتنا الإسلامية في الغرب، ولا حلاً لمشكلتنا الغربية في الإسلام. ليس الإسلام هو الحل، وليس الغرب هو الحل. في تشكلاتهما الراهنة هما في الواقع مشكلتان.
لكنْ، هناك نقد تحرري للغرب ونقد غير تحرري، ونقد تحرري للإسلام ونقد غير تحرري، وحتى نقد تحرري للنظام وإيران ونقد غير تحرري. لا شيء تحرري في نقد النظام بأنه علوي، أو في نقد إيران بأنها مجوسية أو صفوية. هذا غبي كتحليل، وأغبى كسياسة.
ليس كل نقد للغرب تحررياً. هناك نقد «ممانع»، يتوافق مع تعزيز قيم الانغلاق الأوتاركية والبطريركية في مجتمعنا، ومع الدفاع عن نظم طغيان محلية فائقة الإجرام مثل النظام الأسدي. وأكثر نقد الإسلاميين للغرب من هذا الصنف أيضاً. النقد التحرري للغرب هو الذي يوجه إلى منابع السلطة والامتياز فيه، إلى العنصرية الباطنة، ومنطق التفضل الذي يضمر لا مساواة جوهرية في أي تعامل بين غربيين ولا غربيين.
والنقد التحرري للإسلام هو الذي يدافع عن مساواة أكبر بين الناس، وحرية أكبر للجميع، وعدالة أكبر للشرائح الأكثر حرماناً من السكان، وليس الذي يدافع عن وجهات تاريخية عريضة، خاوية من أي بعد قيمي، مثل الحداثة والعلمانية، باسم مفهوم مجرد للعقل أو للتقدم. ساد هذا الضرب الأخير من النقد منذ الثمانينات، ووفر القناع الأنسب للضمير الطائفي في مجتمعنا السوري ذاته، وتوافق مع تفضيلات برجوازية النظم الجديدة. وهو ليس خالياً من القيم التحررية، إلا لأنه منفصل كلياً عن أية أنشطة أو مقاومات تحررية. في الواقع أظهر أصحاب هذا التوجه تشككاً عميقاً حيال معارضة النظام الأسدي، ليس الإسلامية منها فقط، بل حتى معارضة مجموعات «علمانية» من أمثالنا. ولهم في ذلك نصوص ومواقف معروفة، وليس في سجلهم، في المقابل، تنديد حتى بأبشع جرائم النظام.
وهو ما يكفي للقول إن ثقافة تنشأ في عزلة عن عمليات الكفاح الفعلية لا يمكنها أن تكون تحررية. في المقابل، إن الثقافة التي ترتبط بالمقاومات التحررية هي قوة سياسية وفعل سياسي تغييري.
عبر كشف وحشية الممانعة وتسلطية الإسلامية وأنانية الحداثية، وفرت الثورة شروطاً لنقد تحرري ولتفكير تحرري، يمكنهما أن يؤسسا لنقلة في الثقافة، خصوصاً لتفكير على أرضية تاريخ غير مغلق، لا نبحث فيه عن حلول في خزائن الماضي أو الغير.
نماذج الحكم الديني التي نراها اليوم، وما في سجلها منذ اليوم من جرائم، وما تثيره من مقاومات، وانقشاع لوهم الحل الديني، فرصة لدفع نقد الفكر الديني والدين إلى الأمام، وفي الوقت نفسه لارتباط هذا النقد بسياسة وبقيم تحررية. المشكلة الكبرى لنقد الإسلام طوال قرن هي ضمور بعده القيمي وضعف انشغاله بقضايا الأخلاقيات والكرامة الإنسانية، ونخبويته ودورانه في مدارات السلطة العليا، وما يتراوح بين النفور والعداء للعامة، واستناده أخيراً إلى خزائن الغرب، أي إلى تصور مغلق للتاريخ (أغلق باب الاجتهاد في شؤونه دون غير الغربيين). هذا تراث يستحق أن يقطع معه. القطيعة معه مساهمة في النقلة الثقافية المأمولة، بمقدار ما يمكن النقد الجذري للفكر الديني أن يكون مساهمة أيضاً.
في الهند، في أميركا اللاتينية، في أفريقيا أيضاً، تفكير تحرري جديد، متحرر من هيمنة المركز الغربي، من دون أن يكون منداراً نحو الماضي. وهو يوفر حتى لغربيين هوامش استقلالية حيال ثقافتهم. لا شيء يحول بيننا وبين المشاركة في الفكر والصراع التحرري العالمي غير استسلامنا لمنطق الاستقطاب، واعتقادنا بأن «الحل» موجود في خزانة ما.
لا حلول في الخزائن. ليس فيها غير الغبار.