في أزمة المعارضة السورية – ياسين السويحة
بعد ستّة أشهر ونيف من عمر اﻻحتجاجات الشعبية في سوريا، والتي وُوجهت وتواجه (وستواجه) بقمع سلطوي متوحش، مغطىً سياسياً وإعلامياً بخطاب فاشي حاقد ما زال يطلق الوعود العقيمة بالإصلاح قبل أن يقسّم الشعب السوري (والعالم أجمع) بين من يستحق الحياة ومن ﻻ يستحقها. آﻻف الشهداء والجرحى والمعتقلين وشرخ اجتماعي عميق يتطاير الشرر من احتكاك أركانه بعضها البعض. ﻻ شيء يُنتظر من السلطة إﻻ العنف والمزيد من العنف، الشارع قدّم ما أذهل العالم من تضحيات في سبيل القطيعة مع أمس الخوف والقمع والصمت والحرمان، الطيف السياسي المعارض مشغول بإثبات أن ﻻ مؤامرة فيه: ﻻيمكن لمتآمر، مهما كان رديئاً وغبياً، أن يسمح بوجود هذا المشهد البائس.
يُطالب الشارع المُنتفض منذ فترة مبكرة من عمر الحراك بتأجيل الخلافات واﻻختلافات الإيديولوجيّة وتوحّد جهود الطيف السياسي المعارض في مرجعية واحدة تُحدّد أهدافاً وبرنامجاً سياسياً لتحقيقها، وقد أطلقت بعض المبادرات الحسنة النيّة والمتواضعة القدرات على تحقيق هذه النوايا، لكن ﻻ نتيجة حتى الآن. ليست المشكلة، للأسف، في وجود برامج مختلفة لجماعات متباينة وعدم تبلور جدليّة قادرة على إيجاد نقاط تقاطع فيما بينها. لو كان المشهد المذكور موجوداً لكان هناك،على الأقل، تنافس بين برامج متكاملة وجهد سياسي في إقناع الرأي العام بها. ﻻ برامج سياسيّة جدّية لدى المعارضة السورية (كأحزاب وجماعات وائتلافات)، والخلافات الحالية فيها الكثير من الشخصي والحزبي (بالمفهوم العصبي الضيّق للكلمة) والقليل من السياسي. توجد خطوط عريضة أو عناوين محددة لدى بعض الشخصيات المعارضة، لكنها ضائعة في خضم ضجيج الخلاف وزعيق انتهازيي ربع الساعة الأخيرة.
رغم أن أحزاب وائتلافات المعارضة السورية مسؤولة بالدرجة الأولى عن هذا المشهد السياسي البائس إﻻ أن القسوة في انتقادها ومهاجمة أفرادها ظالمة وغير دقيقة، فساحة العمل السياسي في سوريا متصحّرة منذ عقود، وكانت عودة السياسة إليها بعد الخامس عشر من آذار كالسيول الجارفة الناتجة عن الأمطار الغزيرة بعد طول انحباس، وساهم مشهد القمع العنيف والسادي والحاجة لمجابهة نهج سلطوي في السياسة والإعلام مغرق في الكراهية والرغبة الهستيرية في الإلغاء في تشنّج المشاعر وارتفاع منسوب الحاجة للصوت العالي والخطاب اللاذع، ما فتح الباب على مصراعيه لهواة الشعبوية السطحية.ليس ترديد شعارات المظاهرات في اﻻستديوهات عملاً سياسياً، كما أن شتم الشخصيات المعارضة التي تبدو للبعض أقل راديكاليّة ليس برنامجاً سياسياً.
يقتضي العمل السياسي علاقة تبادلية بين السياسي وجمهوره: السياسي يقرأ واقع جمهوره وظروفه السياسيّة واﻻجتماعيّة واﻻقتصادية ورغباته وتطلعاته، وباستخدام أدوات النظرية السياسية يبني برنامج أو منهج عمل متكامل وواضح يقدّمه للجمهور في خطاب سياسي تؤخذ الحالة السيكولوجيّة للجمهور بعين اﻻعتبار عند كتابته وصياغته. قد يضطر السياسي، بعد استيعاب وتفهّم الظروف ودون الوقوع في الأسلوب النخبوي المتعالي على جمهوره، لكبح غضب الجمهور ودحض آراء متطرفة أو قرارات متسرّعة قد يتخذها جزء منه، ويجب أن يتم ذلك بالإقناع والمحاججة والبرهان الصبور. هذه المسؤولية الأخيرة هي من صلاحيات المثقف أيضاً. استجرار التصفيق بترداد هتاف الغاضبين على الشاشات ليس سياسةً بل نقيضها، ولهذا يُدمن أصحاب هذا النهج على شتم واحتقار وتسفيه « المهادنين » (أي كل من ﻻ يركب على أكتاف الجمهور بالهتاف) بنفس العقليّة والأسلوب الذي تحتقر فيه بروباغندا الأنظمة الديكتاتوريّة الثقافة والمثقفين.
ﻻ تُحسد المعارضة السوريّة على ثقل المسؤوليات الوطنية الكبرى الملقاة على عاتقها الآن، ﻻسيما في واقعها الحالي البائس والمتشرذم. يمكننا التجرؤ على القول بأن الكرة في ملعب المعارضة، وعلى عاتقها يقع منع الدخول رمال متحرّكة من الأفق غير المرئى، والذي يشكّل امتزاجه بتلقّي القمع والعنف خلطةً متفجرة وخطيرة، ما يفسح المجالات لاحتمالاتٍ مرعبة أطلّ بعضها بوجهه البشع فعلاً. نعاني من حاجّة ماسّة لبرنامج سياسي معارض متكامل، واضح الأهداف وواضح الخطوات نحو هذه الأهداف، صريح العبارات وبعيد عن الشعبوية وقادر على الإقناع في آن معاً، وﻻ بد من ظهورٍ سريع (بل فوري) لهكذا برنامج، مدعوماً بسياسة إعلامية ذكية وقويّة، لمنع انزلاق الطابع العام للاحتجاجات نحو اتجاهات مغايرة للأفق الوطني الديمقراطي الجامع.
تتعدّى الحاجة للبرنامج السياسي الواضح متطلبات الحفاظ على الطابع العام للاحتجاجات الشعبية، فظهور هذا البرنامج ونجاح العمل على « تسويقه » وإقناع القطاعات الشعبية المختلفة بجدواه هو الطريق الأوحد لترجيح كفّة الحراك في وجه السلطة عن طريق توسيع القاعدة الشعبية المعارضة. على الطيف السياسي المعارض أن يبذل الجهود اللازمة لاختراق قشرة القوقعة المسمّاة « أغلبيّة صامتة » بدل شتمها واتهامها بالجبن والخنوع (مدمنو الجعجعة يشتمون « الأغلبية الصامتة » في حين تمتدح بروباغندا السلطة « عقلانيتها ». ﻻ اهتمام للبروباغندا بالعقل والعقلانية، بل على العكس تماماً. صمت هذه « الأغلبية » هو ما تستلذه هذه البروباغندا). إن القطاعات « الصامتة » هي التي ﻻ تملك أسباباً لدعم النظام القائم والهتاف له، لكنها في الوقت ذاته تعاني من مخاوف وهواجس وتساؤﻻت، بعضها ولد من واقع نفسي ناتج عن عقود من اﻻستبداد، وبعضها الآخر ناتج عن مخاوف مشروعة وتستحق التفهّم والمعالجة، ﻻ سيما وسط بانوراما جيراننا اللبنانيين والعراقيين (في حالة مخاوف الأقليات الدينيّة). هؤﻻء بحاجة للاقتناع بأفق مطمئن لهم ولوجودهم وحقوقهم وحرياتهم ومصالحهم، ووحده العمل على إقناعهم وتوسيع شعبية اﻻنتفاضة هو الطريق لإنجاح المهمة. للأسف الشديد يفضّل الكثير من « التلفزيونيين » مهاجمة هؤﻻء ونعتهم بأبشع الصفات، وبالتالي زيادة مخاوفهم ودفعهم للتشبث بالموجود بدل المجازفة، أي جعلهم يرون في نظامٍ ﻻ يحبونه طوقَ نجاةٍ لهم.
نحن اليوم في قلب البركان، نقف وسط فرصة تاريخية للنهوض بواقعٍ جديد لبلدٍ يحتوي الجميع ويوفر لحاضرهم ومستقبلهم الحاضنة الأمينة، لكننا أيضاً نجازف بمستقبلنا كلّه إن أضعنا هذه الفرصة أو أسأنا استخدامها. يخطئ من يعتقد أن الوقت يجري لصالحنا إن استمر الواقع السياسي على ما هو عليه. ﻻ تبرير ينفع بعد كلّ هذا الدم والألم، وتركه يمضي في طريق النسيان جريمة بحجم وطن يستغيث. أغيثوه!
أمواج اسبانيّة في فرات الشام – ٢٦ أيلول ٢٠١١