في الجذور الاجتماعية والثقافية للفاشية السورية -ياسين الحاج صالح

Article  •  Publié sur Souria Houria le 15 août 2012

إلى ذكرى حمزة الخطيب
سيلزم يوما القيام بتقصّ تفصيلي واسع للجذور الاجتماعية والثقافية للعنف الفاشي الذي يمارسه نظام بشار الأسد طوال 13 شهرا في المدن والبلدات والقرى السورية، وقد أوقع حتى اليوم نحو 12 ألفاً من عامة السوريين وفقرائهم وأشجع مكافحيهم، وألحق دماراً هائلاً بعشرات المدن والبلدات، وتسبب بالنزوح الداخلي لما يزيد على مليون من البشر، وبلجوء إلى البلدان المجاورة فاق المائة ألف لاجئ. واقترنت الوحشية بكراهية فظة للثائرين وبيئاتهم لم تحاول إخفاء نفسها.
تنظر هذه المقالة في ثلاثة تكوينات اجتماعية وثقافية يمكن أن تكون غذّت هذا العنف المهول، أو سوغته أو جعلته مرغوبا، وهي العروبة المطلقة أو الصيغة البعثية من القومية العربية، ثم الطائفية وما يتصل بها من تشكيلات اجتماعية وسياسية وإيديولوجية، ثم البرجوازية الجديدة، وهي الطبقة التي تكونت في كنف النظام الأسدي، ثم شغلت موقعاً مسيطراً، سياسياً وإيديولوجياً، في عهد الأسد الابن.
وتتطلع المقالة إلى فتح نقاش في هذا الشأن. السوريون فكروا قليلا جدا في بلدهم، ومثّلوه معرفيا أقل حتى مما مثّلوه سياسياً.
وقبل تناولٍ مجمل للجذور المذكورة نوضح أن المقصود بالفاشية هنا هو العدوان العنيف على العامة واسترخاص حياتهم وحريتهم وكرامتهم، واستخدام منهج الحملات التأديبية في التعامل مع احتجاجاتهم، بما في ذلك القصف الجماعي لبلداتهم وأحيائهم وقراهم، وذلك على يد طغمة حكم ثرية ومتمتعة بالحصانة، وبذرائع تحيل إلى الأمة والوطن وأمن الوطن. لن نجد هنا فكراً فاشياً نسقياً أو تنظيمات اجتماعية فاشية، فقط مزيج من عنف منفلت لا ضوابط له و«فكر» يشبه الهراوات يسكت على العنف في أحسن الأحوال، ويسوغه ويدعو إليه في أسوئها.
القومية المطلقة وعالمها الفكري
يتمثل أول جذور الفاشية السورية في الصيغة البعثية للقومية العربية، أو ما نسميه عقيدة العروبة المطلقة.
تقضي هذه العقيدة بأن سوريا «قطر عربي»، ومثل ذلك البلدان العربية الأخرى التي يشكل مجموعها «الوطن العربي»، وأن عروبة هذه الأقطار ماهوية وثابتة ومستغرقة كلياً لجميعها، سكاناً وأرضاً ودولة. تقول ديباجة دستور حزب البعث (صادر في نيسان 1947): «الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلا عن الآخر». وتضيف: «الأمة العربية وحدة ثقافية، وجميع الفوارق القائمة بين أبنائها عرضية زائفة تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي»[1].
ليست هذه عروبة تاريخية أو تعاقدية، وسوريا ليست بلداً عربياً لأسباب تاريخية يمكن توضيحها، آلت عبر القرون إلى أن تكون أكثرية سكانها عرباً ولغتها عربية. لا، الماهية العربية لسورية تقضي أن يكون سكانها كلهم «عرباً سوريين»، على ما يوصف كل شيء سوري فعلا (الجيش العربي السوري، التلفزيون العربي السوري، النشيد العربي السوري، المواطن العربي السوري…). من ليسوا كذلك إما يجري تعريبهم، أو إجلاؤهم عن البلد على ما كان قضى دستور حزب البعث في مادته الحادية عشرة: «يجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري، وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية». هذا التصور أسس لسياسة تذويب قومي، لم تنجح في تذويب أحد، لكنها غرّبت الكرد في سوريا، وإن اقتصرت محصلتها على إجلائهم الكلي من المجال العام السوري، وليس من البلد ذاته. وهناك اليوم ما قد يتجاوز ربع مليون كردي محرومين منذ نحو نصف قرن من الجنسية السورية، وهو واقع ساعدت العروبة المطلقة على إضفاء الشرعية عليه وإضعاف حساسية عموم السوريين حياله. الكردي غير مرئي وغير مسموع في سوريا، ومن المفهوم أن يثير هذا أشد سخط الكرد، وقد يأخذ شكل عداء للعرب، والأكيد أنه سيثير غير قليل من المشكلات السياسية والكيانية في وقت قريب.
على أن الوظيفة الأبرز للعروبة البعثية أو المطلقة في سياقنا تتمثل في فرض مجانسة سياسية وفكرية تامة في الداخل السوري، تتطلع إلى التطابق التام بين السوريين كلهم وحزب البعث بوصفه حقيقتهم وحامل رسالتهم الخالدة كعرب. وهنا أصل التكتم الشديد في سوريا على التمايزات الدينية والمذهبية والجهوية، وحتى على اختلافات الرأي والتفكير. كلها ممنوعة من الولوج إلى المجال العام الذي يعمل النظام على التحكم الكامل به. وفي الوقت نفسه تنصب هذه العروبة المطلقة حواجز عالية جدا بين السوريين و«الخارج». حدود الوطن العربي «طبيعية»، فهو «هذه البقعة من الأرض التي تسكنها الأمة العربية، والتي تمتد ما بين جبال طوروس وجبال بشتكويه وخليج البصرة والبحر العربي وجبال الحبشة والصحراء الكبرى والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط»، حسب المادة السابعة من دستور حزب البعث. لقد تشاطرت الطبيعة والثقافة فصل العرب عن غيرهم. الحدود بين البلدان العربية، بالمقابل، مصطنعة، أقامها الاستعمار، وأقام عليها من يحرسها من عملائه من بني جلدتنا.
وثقافة العرب واحدة مثل لغتهم، وجود ثقافات ولغات أخرى غير متصور، ووجود لهجات عربية متنوعة، لا يسهُل التفاهم بينها دوما واقعة محرجة يجري التكتّم عليها عموما. ومطامح العرب وتطلعاتهم وأشواقهم واحدة. حين لا يكون الأمر كذلك فلأن «الوجدان العربي» لم يستيقظ بقدر ما يجب.
والانفصال الطبيعي والثقافي للعرب عن العالم يؤسس لنظرة مرتابة بالخارج الدولي، الغربي بخاصة، لكن أيضا دول الجوار غير العربية، وتلحقها أكثر الدول العربية باعتبار حكوماتها متآمرة أو خائنة. نظرية المؤامرة شائعة في كل مكان، لكنها في سوريا ركن جوهري لعقيدة النظام السياسية ونظرته إلى العالم.
تركيب هذه العقيدة موجه نحو حظر الانشقاق الداخلي وتجريمه من جهة، ونحو عزل السوريين في «الداخل» عن «الخارج» العدواني والمتآمر من جهة ثانية.
وبالفعل لطالما كان الاختلاط بأجانب في سوريا مثيراً للريبة والشبهات، فهم إما جواسيس، أو منبع تلوث ثقافي. والحصول على جواز سفر ليس أمراً روتينياً، ومثله السفر لبلدان أجنبية، وهما معا بالغا الصعوبة بخصوص المعارضين السياسيين. يحرك سياسة العزل هذه نازع طهر ونقاء ضد عدوى مفسدة، مميز للفاشية في كل مكان.
أما تجريم الانشقاق السياسي والفكري الداخلي فيجد ترجمته العملية في مؤسسة اعتقال سياسي كانت نشطة منذ بداية الحكم البعثي، وتكفل بها في عقود الحكم الأسدي مُركّب أمني مُكون من أجهزة أمنية كثيرة غير متمايزة الصلاحيات، لكنها تشترك في الوحشية. وقد يكون فرع فلسطين في دمشق رمزا لها، لكونه، وعبر اسمه بالذات، الجسر الذي يربط بين العقيدة القومية في صيغتها المطلقة وبين التعامل الوحشي مع الانشقاق الداخلي. الفرع التابع لجهاز الأمن العسكري تشكّل أصلاً من أجل ملاحقة جواسيس إسرائيل المحتملين. لكن التطابق بين النظام والوطنية سهّل تضييق الشقة بين النشاط المعارض وبين التعامل مع العدو. فسوريا في حالة حرب، تعريفاً ودوماً، مع «العدو الصهيوني» وفق العقيدة القومية المطلقة، وكل معارضة داخلية هي إضعاف للوطن أو تواطؤ مع العدو موجب لأشد العقاب. وما تعرض له ألوف المعتقلين السياسيين، وبينهم فلسطينيون كثيرون، في هذا المكان يسوّغ اعتبار فرع فلسطين أحد رموز الفاشية في سوريا.
أسست عقيدة القومية المطلقة للتخوين، أي طرد المعارضين السياسيين من الوطنية، ورفع الحماية القانونية والسياسية والاجتماعية عنهم. وهي تضعهم في وضع دفاعي، يضطرون إلى تبرير أنفسهم ودفع التهمة عنهم، أو الانضواء تحت مظلة هذه العقيدة، الأمر الذي يحكم بالتهافت على اعتراضهم السياسي.
ومن المؤسف أنه قلما مضى معارضون ومثقفون سوريون، وهم الضحايا الأولون لهذه العقيدة، إلى حد نقد الأسس العقدية للتخوين في الإيديولوجية البعثية والوطنية المطلقة التي بنيت عليها. ولا نتصور نقدا مستحقا لاسمه لا يُظهِر أن مجتمعاتنا مركّبة، وأن صفتها العربية تاريخية ومتغيرة الأوجه من جهة، وأننا مندرجون في العالم لا تفصلنا عنه أسوار صينية أو «حدود طبيعية» من جهة ثانية، نقدٌ يُعلي من حقوق الأفراد والجماعات في مقابل الدولة والأمة، عربية كانت أم سورية، ومن الوجود التاريخي العياني لمجتمعاتنا على حساب أية ماهية مفترضة لها.
وفي مفعولها العام، الفكري والسياسي، عملت العقيدة البعثية على نشر حالة من البارانويا في المجتمع السوري، جنون ارتياب منتشر، ولجوء سهل إلى الاتهام، بما يجعل النقاش والثقة بين الناس متعذرين. «الخارج» شرير، وعلينا أن ننعزل عنه، لا أن نشبهه ونتشبه به أو نتعلم منه. وهذا يقلل من شأن ما يتمتع به «الخارج»، والمقصود عموما الغرب، من حريات وتقدم، ويساعد في تطبيع الأوضاع القائمة في البلد. ولا يندر أن يجري الكلام على نظريات مستوردة أو على غزو ثقافي خارجي، وتحديدا من جهة الغرب. نازع الطهر ومقاومة التلوث الثقافي مميز للقومية المطلقة، وللفاشية كنهج سياسي. وذو دلالة أن سيرة الغزو الفكري والثقافي انتشرت في سوريا في مطلع التسعينات، بالتزامن مع ثلاثة أشياء: موجة ديمقراطية في أوروبا الشرقية بفعل تهاوي المعسكر الشرقي، ومفاوضات سلام مع إسرائيل تنتهك عقيدة العروبة المطلقة (إلى جانب الغزو الثقافي، شاع حينها الكلام على مناهضة «التطبيع»)، وبداية ظهور الإعلام الفضائي وانكسار السيادة الإعلامية للدولة. التطعيم ضد الغزو الثقافي ضروري في مواجهة تراجع قيمة العقيدة الرسمية والانفتاح الاضطراري على العالم، واحتمال خسارة النظام ذريعته الرئيسية للتحكم بالسوريين، أعني المواجهة مع العدو المحتل.
وكانت العقيدة القومية المطلقة تلقّت في الستينات والسبعينات رفدا من الفكر الشيوعي ونهجه في مواجهة الامبريالية الغربية، وغالباً ما ارتدّت إلى عداء مبتذل للغرب. الغرب إما عدواني يتعين الاحتماء منه، أو منحلّ لا بد من تجنب عدواه. ثم تلقّت تلك العقيدة رفداً إضافياً من صعود الحركات الإسلامية، إن عبر العداء السياسي والثقافي للغرب أيضاً، أو عبر عقيدة الخصوصية التي تضفي قدرا من الشرعية على أوضاعنا القائمة، وتقلل بدورها من الحاجة إلى التعلم من الغرب. في نزعة الاكتفاء الإسلامية ما يؤسس للعزل السياسي والثقافي للمحكومين، وما هو مهيأ للتحول إلى فاشية صريحة عند تيارات السلفية الجهادية.
عثرت القومية المطلقة على سند واقعي لتطلعها إلى المجانسة الداخلية والانعزال عن الخارج في إنشاء الكيان الإسرائيلي العدواني في المشرق العربي، ومن المحاباة الغربية الشاذة وغير العادلة كلياً لهذا الكيان. لقد سهّلت إسرائيل القوية والصلفة والفائقة التسلح والممنوحة حصانة متطرفة من أقوياء العالم، والقائمة فوق ذلك على أسس دينية، من عسكرة التفكير والحياة العامة في بلداننا، وعقّدت إلى أقصى حد مسألة التغيير السياسي والثقافي في مجتمعاتنا. وإذا كان صحيحاً بلا ريب أن النظام البعثي والأسدي توسل قضية فلسطين أداتياً، فقد وفرت فلسطين سندا واقعياً لادعاءاته. وهي تقلل من الثقة بالغرب وتنظيماته، وتقوّي الدعوى الانعزالية عنه، وتتوافق مع تكوين بارانوئي للسياسة والثقافة. علما أن كل صيغ العداء للغرب الحديث الديمقراطي الليبرالي العلماني صيغ رجعية وغير تحررية، بما فيها الشيوعية (التبعية للغرب السياسي رجعية دوما بدورها).
لم تعد عقيدة العروبة المطلقة البعثية إيديولوجية عمل منذ زمن طويل، منذ السبعينات على الأقل. لكنها مستمرة الفاعلية عبر تحوير بنيوي ووظيفي أجري عليه لتسوّغ هياكل السلطة القائمة على الأمن المطلق للحاكمين، وتستمر في نشر مناخات الارتياب والتخوين.
وبفعل تجريدها الشديد وانفصالها عن أي واقع فعلي وتجمّدها الفكري على ما كان في الأصل إنشاءً بلاغياً فقيراً، مع بقاء محتواها الشعوري البارانوئي، آل الأمر بالعقيدة البعثية إلى التمركز كلياً حول شخص الحاكم، حافظ الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق. وما كان ينسب للأمة العربية الواحدة من أمجاد يوجد في شكل مكثف في حزب البعث، وهذا محقق على أتم صورة في الرجلين، الأمينين العامين للحزب في بلديهما. هما حارسان للطهر الوطني، وحائلان دون العدوى الغريبة والأجنبية. ولما كان الحزب واحداً تعريفاً، على نحو ما هي الأمة العربية واحدة، لزم أن يكون له أمين عام واحد. لذلك كان كل من الأمينين العامين خائناً في عين نظام الآخر.
وآل الأمر بالثورية البعثية (أو «الانقلابية» بلغة دستور الحزب) إلى حكم سلطاني سلالي يدفع السوريون اليوم أكلافه الهائلة، وسبق للعراق أن دفع أكلافا هائلة بدوره للتخلص من طاغية كان يعتزم هو الآخر توريث الحكم في أسرته.
ليس هذا التحول السلطاني مستغربا. نزعة التجانس الخاصة بالقومية المطلقة تؤول بالأمة نسقيا إلى رابطة عضوانية، أسرة كبيرة، يسودها أب عظيم، «سيد الوطن». وحين نكون كلنا إخوة مثل بعضنا، فإننا نقبل الاختصار في «القائد»، «عظيم هذه الأمة». وحدتنا تتمثل في «الوقوف خلف قيادته الحكيمة صفاً واحداً»، على ما يقضي التعريف المعياري للوحدة الوطنية في سوريا أيام حافظ الأسد. وكان يتواتر أن توصف هذه الوحدة الوطنية بأنها صوفية، «يفنى» الشعب فيها في حب القائد. يحصل أن لا يفنى بعضنا، هؤلاء خونة أو متآمرون أو حاقدون أو مغرر بهم. معاقبتهم أو إفناؤهم واجب.
والخلاصة العامة أن العروبة المطلقة والتخوين المؤسس عليها، وعقيدة المؤامرة، تجرّم الانشقاق والمعارضة، وبالطبع الاحتجاج والثورة، وتبيح سحقها بضمير مرتاح. وقد ظلت لها البنية نفسها بعد تجسد العروبة المطلقة في شخص حافظ الأسد في سوريا.
ورغم أن العروبة المطلقة ليست عقيدة عهد بشّار الأسد، إلا أن القالب الذهني الخاص بها بقي فعالا (التجانس الداخلي، المؤامرة الخارجية، التخوين…). بعض قطاعات ما نسميه البرجوازية الجديدة، المنحدرة من أوساط أقليات دينية ومذهبية بخاصة، منحازة إلى السورية المطلقة التي هي عروبة مطلقة مصغرة، تقوم على الوطن السوري بدل الوطن العربي.
في مواجهة الثورة لا يعرض النظام وجهاً إيديولوجياً محدداً. يهاجم العرب باسم العروبة، لكن غير قليل من طبقته الوسطى سوري مطلق وعلى عداء للعروبة. ويحصل أن يشتم العرب والعروبة معا في وسائل إعلامه. وبدل «التقدم والاشتراكية» في مواجهة الإسلاميين في مطلع الثمانينات، يجري الكلام اليوم أكثر على الاستقرار والأمان، وهي قيم تعلي من شأنها طبقة جنت ثروتها ومكانتها من ارتباطها بالنظام.
يلزم التوضيح، في ختام هذه الفقرة، أن العروبة المطلقة تشكّل خاص للنزعة القومية العربية، وكمونها في أساس الفاشية السورية لا يطال في حالٍ العرب كجماعة بشرية، ولا العروبة كرابطة ثقافية وإنسانية، ولا حتى القومية العربية كدعوة سياسية. هذا التشكل الفاشي ممكن في أي إطار قومي. وهو ممكن في إطار السورية المطلقة بقدر إمكانه في إطار العروبة المطلقة.
الطائفية وبناء الكراهية
ما هو مهم في هذا الشأن ليس الأطر الاجتماعية الموروثة من ماض يقدر بمئات السنين أو أكثر، ففي الشأن الطائفي سوريا ليست مختلفة عن غيرها من بلدان العالم، ربما إلا كمياً. الشيء المهم هو بالأحرى نوعية التنظيمات السياسية والقانونية القائمة في البلد، ومدى ما تتيحه من تحييد هذه التمايزات الموروثة أو تغذيتها وتعزيزها، أو ربما زجّها في مواجهة بعضها. قد تستنفر عناصر من الماضي لبناء الهويات الأهلية وتصليبها، لكن المواجهة بينها تستمد طاقتها من سياسة الحاضر ومن استقطابات ونزاعات راهنة، لا علاقة لها بميراث الماضي وقصصه.
اعتمد العهد الأسدي منذ بواكيره على موثوقيه الأهليين في أمن نظامه. يبدو أن الرجل أولى منذ وقت مبكر جدا من استيلائه على السلطة بانقلاب عسكري، أهمية قصوى لدوام حكمه في بلد كان اشتهر بتقلب حياته السياسية وكثرة انقلاباته العسكرية. ولعله كان واضحا له أن التحدي الكبير في سوريا لا يتمثل في الوصول إلى السلطة، وقد وصل إليها كما وصل قبله كثيرون دونما صعوبة خاصة، بل في الاحتفاظ بها. ومصدر القلق الأول في هذا الشأن هو تسييس الجيش، وكان عزله حتى قبل انقلابه عن تأثيرات السياسيين، وأولهم رفاقه البعثيون؛ كما أنشأ وحدات عسكرية مستقلة، رأّس على أكثرها أقاربه وأهل ثقته الأهليين، وكان واضحا أنها معنية بالدفاع عن النظام. ومع الوقت جرى تفخيخ الجيش أمنيا وطائفيا بالكامل، بحيث إذا كان قائد وحدة عسكرية ما من الطائفة «س» فإن نائبه يكون من الطائفة «ع» وضابط أمن الوحدة من الطائفة «ص». والصيغ المتنوعة لهذا التركيب الثلاثي روعيت دوما، والغرض منها كفالة انعدام الثقة ضمن الوحدة المعنية بحيث يتعذر أن تتصرف بصورة موحدة.
أما مصدر القلق الآخر فهو القوى والتنظيمات السياسية المعارضة، وقد جايل حافظ الأسد منازعاتها واصطخابها في الخمسينات والستينات، فكان أن توسع في الاهتمام بالأجهزة الأمنية، وثبت على رأسها أيضا محاسيبه وموثوقيه. ولقد جرى تفخيخ الأحزاب أيضا، والمجتمع ككل، بالمخبرين والوشاة، مع تضخم الوظيفة الأمنية لحزب البعث الذي شكل جسما متماديا يخترق المجتمع السوري كله، وكذلك وزعت مقار أمنية في الأحياء والمناطق، فضلا عن خلية أمنية في كل جامعة وإدارة حكومية ومنشأة اقتصادية حكومية.
وأول أهل الثقة جميعاً الأسرة الأسدية. كان رفعت الأسد هو قائد سرايا الدفاع، التشكيل العسكري النخبوي الأفضل تسليحاً في الجيش السوري، والمكون أساساً من علويي المولد. وكان عدنان مخلوف، ابن عم زوجته، قائد الحرس الجمهوري.
هذا التكوين المبكر، غير المسبوق في تاريخ الكيان السوري الحديث، هو المنبع الأول للتوترات الطائفية في مجتمع كان سائراً قبل الأسد وقبل الحكم البعثي نحو تقلص الفوارق الاجتماعية الثقافية، لا نحو اتساعها.
وليس إلا متوقعا أن يكون حكم القانون والنشاط السياسي والثقافي المستقل والحريات الأكاديمية متراجعة في مثل هذه الظروف. متراجعة عن سوريا قبل الحكم البعثي والأسدي، وعما يفترض أن يكون الحال في دولة وطنية معاصرة. وحدها الإيديولوجية القومية المجردة، ومبدأ الوحدة الوطنية (سبق أن أوردنا تعريفها القياسي: «الوقوف صفا واحدا خلف القيادة التاريخية الحكيمة للسيد الرئيس حافظ الأسد»)، كانا يسدلان ستاراً كثيفاً من البلاغة على وقائع الطائفية، وحجاباً سميكاً من التحريم في وجه أي تناول لها.
وحده شخص الرئيس المقدس كان يشكل مركزا للولاء السياسي وركيزة للتماهي العام. العروبة لم تكن ركيزة. وبما أن العروبة أضحت حزباً سياسياً، البعث، فقد كان محتماً أن تتدهور كهوية جامعة، بما في ذلك بين العرب من السوريين.
يفيد التوضيح هنا أن نظام حافظ الأسد، وإن حافظ على عقيدة العروبة المطلقة، فقد كانت سياسته براغماتية بقدر لا بأس به حيال الكرد. كانت سياسة تأليف قلوب مثمرة عموما. لكن هذه السياسة جاءت في سياق نظرة النظام المرتابة إلى عرب منطقة الجزيرة باعتبارهم موالين للحكم العراقي السابق. كانت مهارة استثنائية أن جمع النظام بين استقطاب الكرد سياسياً، والمثابرة على إنكار وجودهم كقوم وثقافة. في الأمر تفاصيل كثيرة، ما يهمنا منها أن سياسة النظام اعتمدت دوماً على تأليب قطاعات من السكان ضد بعض، أو استغلال أية تمايزات موروثة واللعب بها لتفريق صفوف المحكومين.
أولوية النظام العليا، الدوام، قضت أن كل الأشياء الأخرى، ومنها الاندماج الوطني، واستعادة الأرض المحتلة والتقدم الاجتماعي وتطور التعليم والنظم القضائية العادلة، ستشغل موقعا أدنى، وتكون قابلة للتضحية بها، إن تعارضت مع تلك الأولوية العليا. وهو ما جرى فعلاً ودوماً.
الثابت المستمر كان التجميد السياسي القسري، وتعطيل الحركة السياسية والاجتماعية للنخب، وحصر السلطة العليا في يد الرئيس ورجاله. تعطيل الحركية السياسية، حتى بدون استخدام أدوات طائفية، يمكن أن يحرض تنشيط الروابط الطائفية وتسييسها، فكيف إذا استخدمت أصلا أدوات طائفية في التجميد؟ وكيف إذا كان رجال النظام يقولون صراحة لدروز أو مسيحيين إننا نحميكم من اعتداءات السنيين المتعصبين[2]؟
طال الأمر عقوداً، وبفعله آل الأمر إلى أزمة ثقة وطنية متعددة المستويات، بحيث يتبادل السوريون مشاعر الارتياب ببعضهم أو الخوف من بعضهم، ولا يثقون إلا بمجموعاتهم الأهلية ولا يأمنون إلا لذوي قرباهم. نطاق الثقة الأضيق هو الأسرة، والأوسع هو الجماعة الإثنية أو الطائفة. فقلما يقال الكلام نفسه بين مسلمين بوجود مسيحي أو العكس، ولا بين سنيين بحضور علوي أو العكس، أو بين أكراد بوجود عربي أو العكس. هذه خبرة حية يعرفها سوريون كثيرون، وفي الأوساط الأكثر اختلاطاً بالذات. «الشعب السوري» ليس نطاق ثقة عامة. هذا يعادل القول إن الشعب السوري غير موجود.
وتطورت لدى الجماعات كلها سرديات تفوّق وسرديات مظلومية، بسند حديث أو قديم. الجميع مظلومون في عين أنفسهم على أيدي غيرهم (النفس والغير معرّفان أهليا أو طائفيا)، ومتفوقون في عين أنفسهم على غيرهم. نحن الأحسن أخلاقاً أو الأكثر حداثة أو عقلانية أو علمانية أو ديناً، ونحن الأكثر تعرضاً للاضطهاد أو للتمييز أو لتهم حقيرة أو لعدم الاعتراف بحقوقنا. هم بالمقابل الأكثر تخلفاً أو الأقل ديناً أو الأدنى أخلاقاً أو الأشد تعصباً أو عدوانية أو أنانية.
طالبات إحدى المدارس العامة في اللاذقية ينحدرن من أسر مسلمة سنية وعلوية ومسيحية. البنات السنيات محجبات في أكثريتهن الساحقة والبنات العلويات والمسيحيات سافرات. تقول البنات السنيات عن زميلاتهن العلويات والمسيحيات إنهن «فلتانات» (متحللات جنسيا)، فيما تقول زميلاتهن عنهن إنهن «متخلفات». هذه الأحكام تقسّي القلوب حيال بعضها، وتقلل تعاطف «المتخلفات» مع «الفلتانات»، والعكس، إن لم تجعل إيذاء بعضهن للبعض الآخر أمرا مرغوبا.
وعلى مستوى المدرسة (وقد علمتُ بالقصة من إحدى معلماتها في صيف 2010)، كما على المستوى الوطني، ليس هناك أية جهود لمعاكسة هذه التنميطات الخطرة، أو للتربية على الاحترام بين المختلفين.
هذا ليس شأناً اجتماعياً لا علاقة له بالسياسة. وراءه 40 عاماً من الحكم الأسدي، وهو يستبطن أزمة الثقة الوطنية وسرديات المظلومية والتفوق المتداولة بين السوريين، وخلو العقيدة الوطنية الرسمية من أي مضمون حي.
في 1981 اعتدت مجموعة من الشابات المظليات المرتبطات بسرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد على نساء دمشقيات في الشوارع ونزعن أغطية رؤوسهن، في تصرف يبدو أنه اختلط فيه كره سياسي لبيئتهن الاجتماعية (في سياق الصراع بين النظام والإخوان المسلمين حينها) واحتقار ثقافي لتخلفهن الاجتماعي المفترض. الطائفية ليست بعيدة عن كل هذا.
ولحساسية الأمر حينها خرج حافظ الأسد معتذرا عنه على التلفزيون، مطيّباً خواطر «الشوام».
وانتشار الصور النمطية والتمثيلات الضيقة، وفي غياب آليات تعديل اجتماعية وثقافية وسياسية، يضعف من فرص الاشتراك والتعاطف بين منحدرين من هذه الجماعات، وما يقلل من شأن حرية وحياة الآخرين. ما داموا أشراراً أو متخلفين أو متعصبين أو منحلين، فهل ينبغي التردد في اضطهادهم أو في قتلهم؟ هذه الأحكام من الآليات النفسية والخطابية الممهدة للعنف الجماعي والمجاز الجماعية.
ومن هذه الآليات أيضا إشاعة الاعتقاد بأنهم سيقتلوننا إن لم نقتلهم. وهذا تخوف يبدو مستغرباً ولا أساس واقعياً له في تاريخ سوريا الحديث، لكن يبدو أنه السند الأقصى للتماثل الطائفي والتمييز الحاسم بين «هم» و«نحن». أو هو التأسيس الأصلب لضرب من الطائفية المطلقة التي تحاكي العروبة البعثية المطلقة، وتتطلع إلى ما تطلعت إليه هذه: تجانس داخلي تام، تخارج تام مع الغير، وتخوين الانشقاق. ليس أنسب من متخيل «القتل على الهوية» يؤسس للطائفية المطلقة.
ومثل العروبة المطلقة أيضا تؤسس هذه السرديات لحالة من البارانويا المنتشرة، وتطور كل واحدة من الجماعات خارجها الشرير المتآمر، وداخلها الآمن الموثوق. والانشقاق عن أي منها معادل للخيانة في عقيدة الوطنية البعثية. أثناء الثورة كانت بعض أشد الأحكام قسوة يطلقها منسوبون إلى هذه الطائفة أو تلك بحق منسوبيها الآخرين، ومن جهة الموالين للنظام بخاصة.
وافتقر المجتمع السوري إلى إجراءات تصحيحية من نوع التجمعات الشبابية أو الأحزاب السياسية العابرة للطوائف، أو أطر النقاش العام. حيث وجدت هذه فإنها ضيقة وقليلة، ولا تكاد تعدل شيئا من الجو العام. ولم يعد هناك من يمثل وطنية سورية جامعة، معافاة بقدر ما من هذه التمثيلات المشوهة، أو تعمل على محاربتها. الواقع أن كثيرين يعرّفون أنفسهم اليوم كسوريين، لا بدلالة أي روابط أهلية، لكن سوريتهم مجردة، ويشيع أن تكون ضرباً من السورية المطلقة أو «سوريا أولا»، أو أيضا «سوريا فوق الجميع»، تنزع مثل العروبة المطلقة إلى التكتم على تعددها الذاتي وإلى الانعزال عن الغير. وسياستها حيال الطائفية أقرب إلى ما نسميه التعفف الطائفي، وهو موقف يتحفظ كثيراً على تناول الطائفية لا على وقائعها، ما يجعله تالياً أضعف من أن ينصب أية حواجز في وجهها.
وبقدر ما إن فرع فلسطين يجسد الاستخدام الفاشي للعروبة المطلقة، فإن سجن تدمر هو ما جسد التقاء الطائفية بالعنف الفاشي المنظم خلال العقدين الأخيرين من حكم الأب، ويبدو أنه أعيد تشغيله بعد الثورة[3] بعد أن كان القسم السياسي منه أغلق في 2001. حرص النظام على أن يكون معظم السجانين علويي المنبت، ورئيس السجن علوي دوماً، وكان معظم السجناء إسلاميين. وما ميز سجن تدمر من دأب في ممارسة التعذيب طوال عقدين، وبخاصة على الإسلاميين، يجعل منه معمل السلطة الأسدية الحقيقي. إنه الخلاصة المكثفة للنظام ووجهه الجحيمي[4].
ومعلوم أن الطائفية ترتبط بواحدة من الظواهر الأكثر لفتا للانتباه أثناء الثورة السورية وأكثرها فاشية، الشبيحة[5]. وهي مكونة من مدنيين جرى تسليحهم أثناء الثورة، ويحتمل أنهم مسؤولون عن الجرائم الأشد بشاعة، وبخاصة ذات الطابع الطائفي منها، مثل مجزرة كرم الزيتون في حمص في 11 آذار 2012، ثم مذبحة الحولة في 25 أيار 2012.
ارتباط الطائفية (والمركزية الإثنية) بالكراهية والمجازر الجماعية ليس سمة سورية. سبق أن شوهد ما يشبهها في رواندا، وفي يوغسلافيا السابقة، وفي ألمانيا النازية. وقريباً منا في العراق وفي الحرب اللبنانية. لكن سوريا هي البلد الذي يبدو مرشحاً اليوم ليكون مسرحاً لهذا النمط المتكرر.
هنا أيضا لم يظهر المثقفون السوريون أدنى قدر من الشجاعة لإظهار الدور السياسي للطائفية أو لإثارة نقاش عام حول هذه المشكلة العامة التي يزداد سيلان الدماء بسببها اليوم. بالعكس لطالما نفروا ونفّروا من أي تناول لها. وفي هذا ما يشير إلى أن الإيديولوجية الوطنية للنظام، على غثاثتها، تقوم بدور هيمني مهم، يوفر عليه اضطراراً إلى القمع كان يمكن أن يكون أقوى لولا استبطان أكثر المثقفين محرماته ونواهيه.
البرجوازية الجديدة وثقافتها
يتعلق الأمر هنا بتشكل برجوازية جديدة في سوريا، مكونة في نواتها الصلبة من «أبناء المسؤولين» وأتباعهم، وتكونت ثرواتها في كنف النظام وبالاستفادة الامتيازية من عقوده وصفقاته ومشاريعه، ومما تتيحه السلطة من نفاذ امتيازي إلى الموارد العامة في الداخل السوري، وقبل ذلك للبنان[6]. رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد وصاحب «سيرياتل» للهاتف الخليوي، هو رمز هذه الطبقة بفعل تجسد التقاء السلطة والثروة فيه[7]، لكنه ليس إلا الأبرز من عشرات من الحيتان يشبهونه، ويشكلون ما يشبه نادياً مغلقا، أبرز مؤسساته شركة الشام القابضة التي يشغل مخلوف نفسه موقع نائب رئاسة مجلس إدارتها، وشقيقتها الأصغر «سوريا القابضة»[8].
إيديولوجية هذه الطبقة تسمى «التطوير والتحديث»، وهي العنوان الذي ارتضاه عهد بشار الأسد لنفسه. ومن يعرف شيئا عن أنساب هذا العنوان يدرك كم تضميناته محافظة ورجعية. لقد دخل التداول أيام «ربيع دمشق»، وفي علاقة استبعاد صريحة مع مفهوم الإصلاح السياسي الذي كان سقف مطالب المعارضين السوريين يومها. ووفقا لهذا العنوان/الشعار فإن جلّ ما يلزم هو تطوير الأجهزة القائمة وتحديث مظهرها، بحيث تعطي عن النظام وجها أكثر عصرية. وفي الجوار الزمني والإيديولوجي لشعار «التطوير والتحديث» شعار آخر يضيء دلالته، هو «الاستقرار والاستمرار»، وقد كان شائع التداول في أيام بشار الأسد الباكرة. «التطوير والتحديث» مطلوبان من أجل الاستقرار الذي توليه هذه الطبقة الجديدة أهمية حاسمة، والاستقرار يتجسد في الاستمرار، أي في شخص بشار كوريث لأبيه. وتشبه هذه الإيديولوجية السيد بشار الأسد نفسه وزوجته أسماء الأخرس، فهما شخصان «حديثان»، أنيقا الملبس، يتكلمان لغة أجنبية واحدة على الأقل، وعلاقتهما بالكمبيوتر ومشتقاته جيدة، ويحفظان أغاني أجنبية.
نتكلم على برجوازية جديدة لأن المواقع المهيمنة فيها مرتبطة بالنظام ومن صلبه، لكن جرى تدوير غير قليل من البرجوازية القديمة وإدماجها من موقع التابع سياسيا في الطبقة الجديدة[9]. يجمع الكل الطابع الأسري لمشاريعها من جهة، والارتباط الشديد بالسلطة السياسية من جهة أخرى[10]. لهذا تظهر هذه البرجوازية الجديدة، وبخاصة جناحها المتولد من صلب النظام، شراسة شديدة في الولاء للنظام وعداء شديدا لأي اعتراض عليه. جريدة «الوطن» وقناة «الدنيا» التلفزيونية هما المنبران الأشد فاشية في سوريا، تتفوقان كثيرا على الإعلام الرسمي في ذلك[11].
وبعد الانسحاب السوري الاضطراري من لبنان في ربيع 2005 احتاجت هذه الطبقة إلى لبنان داخلي، فكان أن أطلقت التحول نحو ما سمي في مؤتمر لحزب البعث في صيف العام ذاته «اقتصاد السوق الاجتماعي». وهذا عنوان لسياسة تحرير اقتصادي لمصلحة البرجوازية الجديدة، دون إصلاحات سياسية وقانونية. أطلق هذا التحول صيغة تنمية نيوليبرالية موافقة لمصالح هذه الطبقة الجشعة والأنانية[12].
وبينما لا تتعارض التنمية النيوليبرالية في أي مكان مع التسلطية السياسية، فإن وراثتها لنظام دكتاتوري ذي ملامح شمولية، يسهل أمر تحولها نحو الفاشية الصريحة في مواجهة انتفاضات العامة. وليس نظام بشار الأسد غير هيئة أركان لهذه الطبقة، إن تكلمنا بلغة ماركسية. وهيئة الأركان هذه هي التي تقود الحرب ضد العامة في سوريا منذ أكثر من عام. وهي التي ألزمت من يفترض أنه مستثمر خاص، رامي مخلوف ذاته، أن يظهر في وسائل الإعلام العامة ليعلن تحوله إلى «العمل» الخيري في مطلع آب 2011. التحول غير صحيح 100%، لكن ما تدل عليه الواقعة من اندماج السلطة بالثورة صحيح 100%.
وبالاتصال مع هذه التحولات الطبقية عرض النظام في سنوات بشار الأسد ملمحاً ليبرالياً، السفر إلى الخارج صار أسهل، وقدوم أجانب إلى البلد وتحركهم فيه أسهل أيضا[13]. وكان فقد السيطرة بصورة حاسمة على الفضاء العام الافتراضي. وتراجع وزن حزب البعث والمنظمات الشعبية التابعة له لحساب الطبقة الجديدة.
وبدلا من كادر بعثي يعمل في الحزب والمنظمات الشعبية والنقابات والجامعات، وقد كان كادراً بليد الملامح وسقيم الذوق غالباً (ريفيو الأصل عموما، نظراتهم هاربة، ولهم شوارب غليظة)، كان يشغل صدارة المشهد العام أيام الأب، لدينا اليوم جيل جديد من أثرياء ومهنيي الطبقة الوسطى الجديدة، متطورون متحدثون، يشبهون بشار الأسد في الشكل والمضمون (من عمره وأصغر، درسوا في جامعات غربية، أنيقون ومنعمون…)، يدرِّسون في جامعات خاصة، أو يشغلون مواقع بنوك جديدة، أو يديرون صحفاً ومجلات مستقلة، أو يمتلكون مطاعم ومقاهي لامعة جديدة. وبينما هم على انفتاح نفسي مهم على العالم، الغرب بخاصة، فإنهم على انغلاق نفسي شديد، يتراوح بين الجهل والعداء، حيال قطاع من المجتمع السوري، هو بالضبط الذي قام بالثورة.
وبالتناسب مع ظهور البرجوازية الجديدة وموقعها في السلطة العمومية، تجري اليوم خصخصة جزئية للعنف المضاد للثورة، ليس فقط من حيث القائمون به، «الشبيحة»، بل كذلك من حيث ممولوه[14]. هذا متصل بتراجع دور المنظمات الشعبية (طلاب، عمال، شبيبة بعثية…) قياسا إلى الثمانينات حيث تولت هذه المنظمات دوراً قمعياً مهماً.
ولعل العنصر التحديثي في حكم بشار الأسد، وصعود البرجوازية الجديدة المرتبطة به، هو ما سهّل أن تنتشر في سوريا خلال العشرية الماضية الإيديولوجية الحداثية، بعد أن كانت شاعت عالمياً وعربياً إثر سقوط المعسكر السوفياتي. يتعلق الأمر هنا بمدرك غامض، اسمه «الحداثة»، يحيل بصورة غير محددة إلى ما يفترض أنها أنماط حياة وسلوك وتفكير حديثة، تتقابل مع ما يفترض أنها أنماط تفكير وحياة قديمة، دون أن يتضح لها مضمون إيجابي، ومع ميل مطرد إلى رد الحداثة والقدامة معاً إلى الثقافة حصراً، ورد الثقافة إلى مكونها الثابت أو الموروث (مقابل الاكتسابي، وكانت الدلالة الاكتسابية لمفهوم الثقافة مهيمنة في ثقافتنا بالذات حتى وقت ما من الثمانينات)، ورد الثقافة الثابتة إلى الدين، والدين إلى الإسلام، والإسلام إلى الإسلام السني حصراً.
لهذه الحداثة ثلاث سمات جوهرية. الأولى إهمالها التام لقضايا القيم، العدالة والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، لمصلحة مدركات لا مضمون أخلاقيا محددا لها، كالعلمانية والعقلانية والتنوير، والحداثة ذاتها. السمة الثانية الإهمال الجذري للمشكلات الاجتماعية، ما يتصل بالفقر والبطالة والهامشية ومستويات الحياة والأمية. والسمة الثالثة النزعة المحافظة سياسياً لدعاة هذا التيار، وقربهم من النظام الحاكم (ومن النظم عموما)، وعداؤهم الصريح للديمقراطية التي توصف مرة بأنها «ديمقراطية عددية» (وهو موقف تشاركها فيه الفاشية)، ومرة بأنها قناع لطغيان الأكثرية، ومرة بأنها معادية للدولة (وهو ما يناسب الفاشية بدوره). تتضمن هذه العقيدة نظرية سياسية لا تكاد تكون خفية، ترد مشكلاتنا السياسية والاجتماعية إلى «عقل» معطوب أو «قدامة»، أو تخلف معرّف ثقافيا. لذلك لا غرابة أن تناسب هذه العقيدة النظام وأجهزته الأمنية تحديدا. فالمشكلة هي عقول الناس وفي تخلف المجتمع أو تعصبه أو لاعقلانيته أو عنفه المتأصل، وليس في طغيان الحكم وفساده، ولا في وحشية المخابرات، ولا في استئثار طبقة نافذة بالموارد الوطنية، وليس شيئاً يحيل إلى الفقر مثلا أو تدنى مستوى التعليم أو البطالة، أو إلى أوضاع إقليمية ودولية غير عادلة. وهذا طبعا يتوافق مع خفض قيمة حياة وحرية هؤلاء المتخلفين المتعصبين. ليس هذا هو السبب الأوحد لقتل العامة المتمردة في سوريا اليوم، لكن لو جرى تمثيل هؤلاء الناس بلغة أقل تحقيرا وعدائية، لربما وفر هذا قدرا من الحماية النسبية لهم.
وإذا تكلمنا بلغة ماركسية فإن هذه الحداثية هي الإيديولوجية التي تضع البرجوازية الجديدة في موقع هجومي في صراعها من أجل الاستئثار بالسلطة والثورة والنفوذ ضد العامة. فالعامة متخلفون وأميون وجهلة ومتعصبون، وأوضاعهم نتاج خصائصهم هذه التي تمتد جذورها في عقائدهم وذهنياتهم وليس في أية أوضاع اجتماعية أو سياسية يعيشون في ظلها. وهذا تكميل فكري للنضال الذي تقوم به المخابرات ضد أولئك العوام المتخلفين[15].
تعكس الحداثية تشكل البرجوازية الجديدة من أوساط ما كان تحالفاً اجتماعياً من البرجوازية الصغيرة الريفية والمدينية التي كانت العروبة المطلقة هي إيديولوجيتها. كانت الأخيرة ممزوجة بالاشتراكية، إيديولوجية صعود ذلك التحالف، فيما الحداثية هي الإيديولوجية الأنسب لتسويغ الأوضاع والمواقع الامتيازية للبرجوازية الجديدة. اقتضى الأمر حرباً اجتماعية حقيقية من أجل سيطرة التحالف المذكور، سوّغت نفسها بمكاسب حقيقية لجمهور متطلب في أمة فتية وقليلة العدد (أقل من خمسة ملايين وقتها)، وليس فقط بحرب معلنة مع العدو الرسمي، إسرائيل. أما اليوم فالحرب الاجتماعية لا تقدم مكاسب لغير شريحة ضيقة من الأغنياء، وتسوغ نفسها بمواجهة السلفية والقاعدة. القاعدة هي إسرائيل النظام الجديدة.
وفي حلول الحداثية محل القومية العربية ما يفسر أن قلة من الإيديولوجيين المدافعين عن النظام اليوم هم بعثيون. أغلبهم اليوم كادر مهني غير بعثي، مجايل لبشار الأسد، سوري مطلق، ومتحرر من الضوابط الفكرية والقيمية للعقيدة البعثية (الكلام على «عربان» مثلا، أو الموقف العنصري من عرب الخليج)، ويشبه أفراده كثيراً قناة «الدنيا».
نجد عينة مثالية على «الفكر الاجتماعي» للبرجوازية الجديدة في مقالة كتبها مهندس سوري عن التكاثر السكاني في منطقة الجزيرة السورية، يقول: «ولنكن صريحين، لسنا مستعدين لمنح أناس غير حضاريين لا هم لهم إلا إنجاب من 8-15 ولداً وأكثر مساعدات من أموالنا ما داموا لا يتصرفون بروح عاقلة ومنطقية وبطريقة حكيمة مع مقدراتهم، وهم السبب في فقر أنفسهم بسبب انعدام الحكمة وقيامهم بهدر أموالهم وثرواتهم في أعوام الخير على تفقيس وتفريخ الأولاد، وما دامت الحكومة تقدم منحاً غذائية (للجائعين من سكان المنطقة التي نُكِبت بأربعة مواسم زراعية سيئة متتالية) فهي تقدمها من أموالنا، وأظن انه يحق لنا أن نتدخل لا منّة تجاه إخوة لنا ولكن بروح الإصلاح، فكل عطاء يجب أن يكون مشروطا لتغيير سلوك هدام ومدمر». وعلى نحو غير مفاجئ يفسر التكاثر السكاني في المناطق الشرقية بـ «انعدام الوعي والثقافة». ويقرر: «لا نريد أن تتحول أرضنا وبلادنا الجميلة لبلاد منكوبة بالفقر والجموع التي لا عمل لها تنقلب لمجموعة من القتلة والهاملين على الطرقات والشحاذين على المفترقات (…) وندعو لتصرفات وإجراءات حاسمة بعيدا عن أي عواطف دينية وقبلية وعشائرية أو مناطقية»[16]. هنا كل عناصر التفكير الفاشي المعادي للعامة والذي يحملهم مسؤولية أوضاعهم ويفسر تخلفهم المفترض بقلة وعيهم، ويدعو لإجراءات حاسمة، فضلا عن الداروينية الاجتماعية المميزة لليمين الفاشي في كل مكان.
وتبدو هذه الحداثة الشكلية، المعادية للديمقراطية والعامة على استعداد خاص للتوافق مع إيديولوجية «التطوير والتحديث» السورية. وتحميلها المسؤولية للمجتمع المحكوم عن الاستبداد الواقع عليه وعن أوضاعه الاجتماعية يبدو مناسباً جدا للبرجوازيين الجدد، كما لأجهزة مخابرات دولة التحديث والتطوير. ولا يبدو أن هناك ما هو عارض في العلاقة الطيبة بين بعض كبار ضباط المخابرات (وبخاصة من يحملون لقب دكتور) وبين مثقفين من دعاة هذه العقيدة. عن أحد هؤلاء الجنرالات الدكاترة، فؤاد ناصيف خير بك على الأرجح، يقول كاتب سوري من مروجي الإيديولوجية الحداثية إنه «يستحق من المثقفين الفعليين (…) أن تذكر أفضاله علينا بأنه أول من رعى خلية ثقافية علمانية ديمقراطية فعلية في سوريا». وسياق المقالة ذات العنوان الدال: «صمت المثقفين المريب في الدفاع عن الحقيقة والمخابرات السورية»، وعمل الكاتب ككل، يدرج «الخلية الثقافية العلمانية الديمقراطية» في سياق شديد العدائية للإسلام[17]. ومن المؤسف والمحرج أن بعضا من المثقفين السوريين المرموقين كانوا شركاء في تلك الخلية الفكرية الأمنية. يجمع بينهم الهوس بـ «الإسلام»، وبحداثة أشياء لا إنسانية، رجعية اجتماعياً وخاوية أخلاقياً.
لم يكن الطابع الرجعي لهذه العقيدة الحداثية خفياً قبل الثورات العربية، لكن وجهه الفاشي انكشف بقوة بعد الثورات، الثورة السورية بخاصة.
يشترك هذا الجذر الثالث من جذور الفاشية في سوريا مع الجذرين السابقين في أنه يخفض من قيمة حياة واعتبار عامة المحكومين، فهم يتناسلون كالأرانب، ويسكنون في أحياء عشوائية قذرة تشوه المنظر الحضاري للبلد (التلفزيون السوري، يوم 12 نيسان 2012).
وفي خلفية تحالف البرجوازية الجديدة والمخابرات وإيديولوجيي الحداثية خوف من التغيير وانحياز لدوام الأوضاع القائمة. البرجوازية الجديدة تعلي من قيمة الاستقرار والأمن، والمخابرات تتكفل بحراسة الاستقرار والأمن، والإيديولوجيون يحذرون من الديمقراطية ومخاطر «طغيان الأكثرية» التي تأتي بها صناديق الاقتراع. تجنبا لهذا الطغيان المحدق، كان أحد كبار عقائديي الحداثية اقترح منع الأميين من التصويت في أية انتخابات حرة، لأن مشكلة مجتمعاتنا تتمثل في الخلل في صناديق رؤوس الناس وليس في غياب صناديق الاقتراع[18]. وقد شاعت هذه النظرية كثيراً في سنوات ما بعد 11 أيلول 2001، وصارت الإيديولوجية القياسية لعدد غير قليل من المثقفين السوريين، أكثرهم اليوم يشغلون المواقع الأقرب إلى النظام ضمن المعارضة، إن لم يكونوا إلى جانب النظام صراحة.
وفي السياق السوري الراهن توفر «الحداثية» ذريعة جاهزة ضد الثورة التي تخرج كثير من مظاهراتها من مساجد. إن عبارات مثل متخلفين أو سلفيين أو عراعير (أو عراعرة)[19]، تقولب الثائرين في صورة جمعية سلبية، إن لم تجعل التعامل الصارم معهم أمراً مرغوباً، فإنه ليس بالمشكلة التي تستحق أن يتوقف الأمر عندها.
يتدامج في هذه المدركات محتوى طبقى مع محتوى طائفي، سهلت اللبس بينهما العقيدة الحداثية ذاتها. مدرك «متخلفين» بالذات يتركب من عنصر ثقافي، هو ما اعتنت به الحداثية، ومن عنصر اجتماعي يتضمن التدهور والسكن العشوائي والأحياء غير المنظمة والمستوى التعليمي المتواضع. وحين يوصف المتظاهرون بأنهم «حثالات» و«غوغاء»[20]، فإن الأمر يحيل إلى المزيج الطائفي الطبقي ذاته.
ولالتقاء العقيدة الحداثية بالطبقة والطائفة الفضل في ذلك الضرب الخاص من العنصرية الذي نراه في مجتمعاتنا، الذي يشحن معاداة العامة بمعان ثقافية منحولة، والشائع كثيرا في العالم العربي. ومعلوم أن العنصرية اقترنت في كل مكان بخفض قيمة حياة من يجري التمييز ضدهم، وتقليل الحساسية حيال اضطهادهم أو قتلهم.
خلاصات
خلاصة هذا النقاش أن القومية العربية المطلقة هي القالب الذهني الأساسي والطبقة الأعمق من تسويغات الفاشية السورية، فيما الطائفية هي مصدر التغذية الانفعالي الذي يشحن الفاشية السورية بالهوى والعاطفة ويؤسس للتفاصل بين السكان، أما الامتيازات الطبقية للبرجوازية الجديدة فهي المصلحة التي يجري الدفاع عنها.
وما يمكن بناؤه سياسياً على هذا التحليل هو أن ضرب ركائز الفاشية يقتضي التحول نحو مفهوم دستوري للوطنية، يقر بالتعدد الداخلي لمجتمعنا، وبارتباطه الواقعي والواجب بالعالم، وبحريات الأفراد واستقلالهم. «سوريا أولا» لا تصلح لذلك. أما شعار«سوريا فوق الجميع» فهو نسج على منوال مبدأ فاشي صريح.
سيلزم تفكيك اللغم الطائفي وإبقاء القضية موضع نقاش عام، وبناء الحواجز المؤسسية والقانونية والفكرية التي تحول دون تسرب الطائفية إلى الدولة. وبخاصة تطوير ثقافة مضادة للطائفية، الأمر الذي يوجب قبل كل شيء وضع الموضوع على الطاولة، والكف عن سياسة النعامة التي يثابر عليها عموم المثقفين السوريين، فيما يشكل استبطانا لنواهي النظام وحساسياته.
النظام لا يحكم سوريا بالقوة وحدها، وإنما أيضا بالهيمنة الإيديولوجية التي تحظر تناول المشكلات الطائفية أو التفكير العلني بها. مقاومتنا للنظام متهافتة ولا محصول لها إن هي لم تنتهك هذه الهيمنة وتخوض في ما تفرضه من محرمات وتكشف توظيفها لحراسة الفاشية.
الفاشية ليست مرتبطة في سوريا بالحكم الأسدي حصراً أو بالموقع الامتيازي لعلويين في النظام اليوم. إنها ممكنة على أية أرضية دينية أو مذهبية. ولا يبعد أن تتجدد على أرضية سنية، سلفية بخاصة.
وفي المقام الثالث لا بد من ضرب الترابط بين السلطة والثروة، والتوجه نحو اقتصاد تنافسي ومنتج، وتمكين مجتمع العمل من الاحتجاج، وتطوير مجال عام ديمقراطي يتيح للمجتمع تنظيم قواه والدفاع عن نفسه في وجه الرأسمالية.
ومن المهم دوما أن تستعيد الثقافة والفكر النقدي دورهما السياسي في مقاومة الطغيان وفي الانحياز إلى الضعفاء، وكذلك دورهما الأخلاقي في حياة المثقفين وسلوكهم الشخصي.

http://www.kalamon.org/articles-details-152#axzz23bo8TICz