في الفلوجة سينتصر سليماني وسيتمدد «داعش» … وسننكفئ – حازم الامين
النسخة: الورقية – دولي الأحد، ٢٩ مايو/ أيار٢٠١٦
عبثاً حاول رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي إبعاد الكأس المرة التي أذاقه إياها قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني عبر زيارة الأخير محاور القتال مع «داعش» في الفلوجة والتقاطه صوراً لنفسه هناك مع مقاتلي الحشد الشعبي (الشيعي). العبادي اصطحب في اليوم الثاني رئيس البرلمان (السني) سليم الجبوري وعدداً من وزرائه السنة أيضاً في محاولة لامتصاص تداعيات زيارة سليماني، لكن السيف كان قد سبق العذل، وسقط العبادي وكذلك الجبوري في شرك الجنرال الإيراني.
والحال أن زيارة سليماني محاور القتال مع «داعش» هدفت أصلاً لإعطاء مضمون أهلي وعصبي لمعركة الفلوجة، فالرجل كشف عن وجهه هناك، وهو جاء ليقول لأهل الفلوجة قبل غيرهم أن النصر على «داعش» سيكون من نصيب خصومكم المذهبيين، وما عليكم إلا أن تلتحقوا بـ «داعش» للدفاع عن أنفسكم. ومن الغباء تفسير الزيارة وتفسير الاحتفال بها في غير هذا السياق.
لم يكن قتال «داعش» دأب الإيرانيين سواء في سورية أم في العراق، بل إن طهران لم تتلقّ طوال فترة حكم الملالي لها هدية أثمن من هذا التنظيم الإرهابي. ولطالما مثلت هزيمة «داعش» احتمال فَقد طهران عدواً مرتجى، واليوم يبدو شحنها النفوس المذهبية في العراق امتداداً لهذا الواقع. فهزيمة «داعش» في الفلوجة صارت مهمة أصعب بعد زيارة جنرال الحرس الثوري هناك، وتأجيج المزاج المذهبي حول هذه المعركة سيدفع إلى الخلط بين أهدافها وبين ما سينجم عنها من احتمالات. وها نحن بدأنا نسمع الأصداء، فهي في عرف إعلام واسع الانتشار «عاصمة المقاومة» و»مدينة المساجد»، وهي في عرف إعلام آخر «مدينة الإرهاب». والرابح من هذا الضجيج هما «داعش» وسليماني.
لكن فوضى الحرب على «داعش» في الفلوجة كشفت أيضاً تقصيراً مخيفاً لدى أطراف التحالف الذي ينوي خوض هذه الحرب، وعلى رأسهم القيادة الأميركية، ذاك أنها الحرب الثالثة في المدينة، ويبدو أن معركتي الفلوجة الأولى والثانية أوائل العام 2004 وفي نهايته لم تمثلا درساً لمن خاضهما، وهم في الأولى الجيش الأميركي، وفي الثانية خليط من الجيش ذاته ومن قوات عراقية. وفي سياق هاتين الحربين جرت مياه كثيرة أفضى جريانها لاحقاً إلى ظهور «داعش». لكن المزاج العقابي سيجعل هذه الحقيقة مأساة أكبر، فمراكمة الأخطاء الأميركية كانت عززت في السابق دولة أبو مصعب الزرقاوي في الأنبار، وها هي اليوم تتكرر بعدما أضافت إلى جعبتها مضامين مذهبية.
في الفلوجة حصل الزواج بين «القاعدة» التي جاءت إلى العراق من أفغانستان، عبر إيران، وبين ضباط الجيش العراقي الذي تولى بول بريمر حله. مكر ايراني في مقابل خطأ أميركي، وكانت النتيجة هذا المسخ المشوّه «داعش». جرى ذلك في سياق حربي الفلوجة الأولى والثانية.
أبو مصعب الزرقاوي، وهو الداعشي الأول، كان قطع آلاف الأميال من هيرات في أفغانستان إلى مشهد في ايران وصولاً إلى جبال بيارة ثم إلى بغداد ليتولى مهمة تحويل «القاعدة» إلى «داعش» بنسختها الأولى. وهو أمر جرى تحت أنظار الإيرانيين الذين كان حليفهم في دمشق يفتح حدوده لـ «الجهاديين» القادمين من كل العالم للتوجه إلى الفلوجة للقتال فيها. وجرى أيضاً في سياق حرب أميركية عمياء في المدينة وعلى أطرافها، وكشف الأميركيون خلالها عن جهل مخيف بما يجري من حولهم. ولم تتبدد نتائج هذا الجهل إلا عندما اختبر الأميركيون أن النصر على الزرقاوي من المستحيل أن يُحققه غير الأنباريين، وهو ما جرى فعلاً ولكن بعد أن دفع العراق كله أثماناً باهظة.
اليوم يبدو أن هناك حنيناً للخطأ الأول. عقم أصلي في العقل الغربي يُبطل عمل الذاكرة القريبة، في مقابل تمدد وانتشار للمكر الإيراني ليغطي العراق كله، و»داعش» بينهما لن تكون هزيمته موتاً بل ذوباناً في نسيج الاحتقان لن يعدم فرصة ليعود ويُطل برأسه على نحو أشد فظاعة وإجراماً. وهذا الاعتقاد ليس تصوراً أو استنتاجاً، بل تجربة جرى اختبارها عشرات المرات في أعقاب سقوط الطاغية في بغداد.
لن ينتصر العراق على «داعش» في معركة الفلوجة الثالثة ما لم تكن هذه الذاكرة حية في وعي من يخوض الحرب اليوم، فأدبيات «القاعدة» عن الحربين الأولى والثانية في المدينة شكلت ذخيرة مؤسسة للوثبات اللاحقة، والقران الذي عقده الزرقاوي في المدينة بين ضباط الجيش المنحل والمجموعة النواة للتنظيم الآتية من خارج العراق، هو ما أسس لكل المراحل اللاحقة من حياة التنظيم الإرهابي ومن مسيرته التي أفضت إلى تحول الضباط إلى أمراء يقودون التنظيم ويجيدون العلاقة مع العشائر، ومع الضغائن المذهبية، مستعينين بخبراتهم في الجيش.
في أفغانستان كان «القاعدة» جسماً غريباً عن التركيبة الاجتماعية والعرقية والمذهبية، وكانت «طالبان» تحبسه في معسكراته. في العراق اليوم «داعش» ليس جسماً غريباً، فهو مؤسس على ضغائن أهلية لن تتمكن الطائرات من سحقها. هذا تماماً هو الدرس الذي لم يتعلمه الأميركيون، وهو الدرس الذي يجيد الإيرانيون توظيفه. فالصحوات السنية هزمت «القاعدة» لأنها سنية أولاً، ولأن المعركة جرت في سياق بداية مصالحة توهم قادة الصحوات أنها ستفضي بهم إلى شراكة سياسية.
شكل المعركة اليوم مختلف تماماً. فقاسم سليماني هو مَنْ أعطى إشارة بدء المعركة، والحرب على «داعش» تُخاض من خارج المدينة لا من داخلها، والأميركيون الذين بجهلهم أعطوا للمدينة اسم «مدينة المقاومة»، سيشاركون من السماء، فيما العدو المذهبي سيكون على أبوابها لحظة السقوط، ووسائل الإعلام على طرفي الانقسام المذهبي متأهبة لتغذية الضغائن. إذاً كل عناصر الفتنة متوافرة.
يبقى أن «النصر» أو «الصمود» سيحمل صوراً جديدة ومختلفة عن حروب المراحل السابقة، تتمثل في مشهد المدن المدمرة والخالية بعد هزيمة «داعش» فيها. فـ «درء الفتنة» في أعقاب الهزيمة يتطلب بقاء المدن خالية من أهلها. هذا ما حصل لتكريت وللرمادي، وما يبدو أنه سيصيب الفلوجة. سيقيم السكان في محيط مدينتهم أو على مشارف مدن قريبة، وهناك أيضاً سيعيد «داعش» توغله مستفيداً من ظلامة جديدة… سينتصر قاسم سليماني وسيمارس الأميركيون مزيداً من الانكفاء.