قدري جميل.. وبالله المستعان: طاولة الحوار و’المباطحة الوطنية’ – خطيب بدلة
حينما شاهد المواطنون السوريون صورةَ الرفيق المُعارض الدكتور قدري جميل تحتل الواجهات الرئيسية للفضائيات الإخبارية، نقلاً عن قناة (روسيا اليوم)، وهو يتصدر اجتماعاً وزارياً مشتركاً مع الرفاق الروس، فرحوا فرحة الصائم بعيد الفطر، وتفاءلوا بالخير، ووضعوا في بطونهم- على قولة الأشقاء المصريين- (بطيخة صيفي)، ولولا الحياء والخجل لقاموا إلى شاشات التلافيز، وأشبعوها لثماً وتقبيلاً، متمثلين حالة الشاعر مجنون ليلى الذي صرعه العشق فأخذ يقبل (ذا الجدارَ وذا الجدارا)!
الكاتبُ السوري الكبير زكريا تامر، حينما رأى الرفيق قدري جميل، لأول مرة، يتحدث، في لقاء متلفز، التبس عليه الأمر، فاعتقد أن الشخص الذي في الصورة يُحرك شفتيه، وأن ثمة شخصاً آخر مختبئاً خارج (الكادر) هو الذي يتكلم، وأن المسألة- برأيه- تتطلب إعادة (دوبلاج) للمشهد..
ولكن السوريين، مع قناعتهم بأن ملاحظة زكريا تامر صحيحة مئة بالمئة، لم يهتموا لهذه التفاصيل (الناكتة)، فما سمعوه من تصريحات الرفيق قدري، أثناء اللقاء، يدخل في باب البشائر التي تهل على الإنسان في لحظة تاريخية استثنائية.. والفرج الذي يخرج للإنسان من قلب الضيق.
فبعدما قدم لهم معلومة على قدر كبير من المفاجأة، والإثارة، والألمعية، والروعة، ملخصُها أن العقوبات الأوربية التي فُرضت على القطر العربي السوري المُمَانع، قد أضرت بالمواطنين السوريين كلهم!.. أشار إلى أن اتفاقيات (سورية- روسية) سيتم توقيعها الآن، ستؤدي، عما قريب إن شاء الله، إلى توفر المحروقات في البلاد السورية.. وهذا يعني (والكلام التالي من عندنا) أن ما تعرضُه الفضائياتُ المختلفة للسوريين المُذَلّين المُهَانين وهم يصطفون في طوابير طويلة، ويقتتلون من أجل الخبز والغاز والبنزين والمازوت، سيصبح، بتوفيق من الله تعالى أولاً، وبفضل من الرفاق الروس ثانياً، وبدهاء وحنكة من الرفيق قدري جميل ثالثاً،.. في خبر كان المحذوف!
ثمة شيء.. لا نستطيع أن نقول بأن السوريين لم يحبوه من الرفيق قدري، بل نقول: إنهم أحبوه، ولكنهم لم يفهموه جيداً، وهو أنه يدعو المعارضة السورية والحكومة السورية للجلوس إلى طاولة الحوار، وأن هذا الجلوس لا مندوحة عنه البتة!
السبب في هذا الالتباس، يتعلق، حقيقة، في (مكان) الجلوس والحوار المقصودَيْن.
فالسوريون، إكراماً لهذا الرفيق الشهم الطيوب قدري جميل، سيوافقون، بالتأكيد، على الجلوس مع الحكومة إلى طاولة المفاوضات، ولكن.. قل لي.. أين ستوضع الطاولة يا شاطر؟!
لقد قال الرفيق هذا الكلام.. وكأنه لا يعرف، والأرجح أنه لا يعرف، أنه لم يعد يوجد سوري (أخو أخته) واحد يسكن، أو يقيم، في مكان محدد، دائم..
إن مكان إقامتنا، يا رفيقي الغالي، أصبح يتعلق بالأماكن التي لا تقصفُها الطائرات، والدبابات، وراجمات الصواريخ التابعة لجيشنا العقائدي الباسل، وإن هواتفنا النقالة، والثابتة، ومراسلاتنا عبر الإنترنت (حينما يتوفر الإنترنت)، أصبحت لا تتوقف في الليل، ولا في آناء النهار، ونحن نسأل بعضنا البعض عن أقل الأماكن تعرضاً للقصف، حتى (نلجأ) إليها.. ولعلمك أن أهالي قرية (إبّين) بريف حلب، مثلاً، منذ شهر من الآن، وهم ينامون في براري قرية (حَزَّانو) ليلاً، ومع جهجهة الضوء يعودون إلى قريتهم، باعتبار أن القصف عليها يكون في الليل فقط!
ثم إن جماعة النظام أنفسهم (وهم الطرف الآخر للحوار المقترح) ما عاد يُعرف لهم عنوان ثابت، فكلما جاءتهم معلومات بأن المنطقة الفلانية من سوريا، على سبيل المثال، لم تُقصف بعد، وأنها بحاجة إلى قصف عاجل، و(إسعافي!).. تراهم يحركون آلياتهم الثقيلة، وسبطانات مدافعهم، نحوها بأسرع من البرق، ووقتها.. خذ على قصف لأبي موزة..
فعن أي حوار تتحدث.. يا.. عين أمك؟!
المعارضة الحنونة
الجلسة نفسها التي نقلتها الفضائيات من مقر الحكومة الروسية، ضمت، بالإضافة إلى الرفيق قدري جميل، رئيسَ الحزب القومي السوري الاجتماعي الأستاذ علي حيدر، الذي اشترك مع قدري جميل، منذ بداية الأحداث، في ما عُرف بين الناس باسم (المعارضة الحنونة)، أو (المعارضة بحدود).. وملخصُها، أو لسان حالها يقول: أن هذا النظام كيس، وحباب، وابن ناس طيبة، ولكنه يحتاج إلى (شوية) إصلاحات، على (شوية) تحسينات.. وصلى الله وبارك!!
والنظام، بدوره، سُرَّ بهذين المعارضين الرقيقين، أيما سرور، ولولا الحياءُ والخجل لأشبعهما، وأشبع المعارض لؤي حسين معهما على البيعة، لثماً وتقبيلاً، على طريقة الشاعر المجنون الذي قبل الجدران!
وإكراماً لهما، ولمعارضتهما الـ (جنتل)، فقد أوعزت القيادةُ العليا للمخابرات، إلى من يهمه الأمر، بتعيينهما عضوين في مجلس الشعب الجديد، فكان ذلك، بالطبع،.. ثم أوعزت لرئيس الحكومة الجديدة رياض حجاب (قبل انشقاقه) بتعيينهما في الوزارة.. وهذا ما كان، بالطبع.
المصالحة الوطنية
كان السوريون يعرفون، حق المعرفة، أن الوزارة التي سيتولاها الرفيق قدري جميل لها علاقة بالاقتصاد، أو بالتخطيط، أو بالشؤون المالية، ذلك لأنه يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية،.. ولكنهم لم يستطيعوا أن يتكهنوا بالوزارة التي ستسلم حقيبتُها للأستاذ علي حيدر.. وحينما ظهر الدكتور رياض حجاب، على الفضائيات الرسمية السورية ليتلو أسماء الوزراء، وقال إن الوزير علي حيدر سيتولى شؤون وزارة (المصالحة الوطنية).. دهشوا، وبُهتوا، على طريقة الشاعر أبي ذؤيب الهذلي الذي قال (فَبُهِتُّ، لا عُرفٌ لديَّ، ولا نُكْرُ).
إن أسباب الدهشة، والبهتة، هو، أولاً، أن هذه الوزارة لم تكن موجودة في الوزارات السابقة، وثانياً، إن موضوع (المصالحة) الوطنية لم يكن مطروحاً على الساحة أصلاً، بل العكس كان، وما يزال الموضوع المطروح هو (المُباطحة) الوطنية، وثالثاً، إن السوريين لا توجد لديهم فكرة عن الهيئات والمديريات التي ستنبثق عن هذه الوزارة، أو تتبع لها.. ولذلك لجؤوا للتخمين فقالوا إنه من الممكن أن تتبع للوزارة (الهيئة العامة لتبويس الشوارب على المسك)، و(مديرية ازرعها بذقني).. و(مديرية مؤخرتان في لباس)، و(المؤسسة العامة لإصلاح ذات البين).. و(منظمة رغيف برغيف ولا يبات جارك جوعان).. إلخ.
الإقليم الشمالي
منذ قديم الزمان والسوريون يبحثون عن رجل يحبونه في المرتبة الثانية، إذ أنهم، لا مؤاخذة، يحبون حضرة الله تعالى في المرتبة الأولى.
وكانوا، في قديم الزمان، قد منحوا هذه المرتبة الثانية للزعيم الأسمر، ذي الصوت الجهوري الساحر، جمال عبد الناصر الذي قاد دولتهم الموحدة (الجمهورية العربية المتحدة).. وكان يسمي سورية (الإقليم الشمالي)، ويقول في خطاباته النارية:
يجب أن يعرف (العدو) أن أي مساس، أو عدوان، على (الإقليم الشمالي)، إنما هو عدوان الجمهورية العربية المتحدة، وعلى الأمة العربية جمعاء.
قبل أيام.. تذكر السوريون الزعيمَ الأسمر عبد الناصر، عندما رأوا السيد ‘علي أكبر صالحي’ وزير خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يقف أمام مراسلي الفضائيات العالمية ويقول:
لن نسمح لـ (العدو) بأن يهاجمنا انطلاقاً من الأراضي السورية!
يا ترى (الإقليم السوري).. أيش اتجاهه بالنسبة لإيران؟ شرقي، شمالي، غربي جنوبي؟
استقلالية
في الكلمة التي وجهها بشار الأسد إلى القوات المسلحة السورية الباسلة، بوصفه القائد العامة لهذه القوات، لم يعلق على تصريحات ‘علي أكبر صالحي’ التي تعتبر سوريا جزءاً لا يتجزأ من السيادة الإيرانية، ولكنه، بعدما هنأ الجيش بانتصاراته الساحقة الماحقة على الشعب الإرهابي، قال:
إن (العدو) يدخل علينا من خلال عملاء الداخل!
فذكرنا كلامُه بسؤال وجهه أحد الصحفيين لصدام حسين، أثناء حصار العراق، حول المعارضين السياسيين (المنقوعين) في سجونه منذ عشرات السنين، وعما إذا كان ينوي إطلاق سراحهم، عسى أن تتحسن صورة العراق في عيون العالم، فقال:
ماكو عندنا معارضين سياسيين.. أكو شوية عملاء يلاقون جزاءهم العادل نتيجة عمالتهم!
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\13qpt997.htm&arc=data\2012\08\08-13\13qpt997.htm