كي تبقى ذكراك حية في قلوب رفاقك و كل من شاركوك أحلام و هموم هذا الوطن – رضى حداد
لا تسلها فلن تجيب الطلول المغاوير مثخن أو قتيل
موحشات يطوف في صمتها الدهر فاللدهر وحشة و ذهول
بهذه الأبيات كان الحزب الشيوعي السوري ( المكتب السياسي) قد استهل إشهار نعيه لشهيده المناضل و الكاتب رضا أحمد حداد، المواطن 61 في سجلات سجون النظام السوري ، و الذي كان يعد بأن يكون كاتباً و أديباً مرموقاً، لولا أن أجهزة القمع السورية اختطفته من وسط شوارع دمشق في أواسط تشرين أول عام 1980 لتلقى به في أقبية القهر و التعذيب في مراكز التحقيق و سجون الشيخ حسن و القلعة و عدرا … طوال خمسة عشر عاماً، خرج بعدها، ليدخل بعد أيام من اطلاق سراحه المستشفى، محروماً من حقوقه المدنية وحتى من السماح له بالخروج للمعاجة و الشفاء في الخارج ، و ليغمض عينيه في مساء العاشر من حزيران عام 1996 على آخر دفقة ضوء ، و ليتوقف عن الخفقان قلبه العامر بحب الدنيا و ناس هذه الدنيا.
وفاءً لذكراه ولكي تبقى حية و تنتقل إلى وعي و وجدان المعاصرين و القادمين من أبناء هذا الوطن الكبير، أنقل فيما يلي » شهادته » التي سطرها و هو على سريره في المشفى الفرنسي بدمشق قبل أن يفارق الحياة ، و التي فضلاً عن كونها شهادة دامغة تهز المشاعر بحرارة صدقها، هي صك اتهام وتجريم لنظام حافظ الأسد وأجهزته الملطخة أيديها بالدماء، و التي سوف لا يذكرها التاريخ إلا كحقبة سوداء في تاريخ سوريا، و كرمز للإستبداد، و يكتسب نشرها أهمية مضاعفة في تعرية الأجهزة المستمرة و المسؤولين فيها الذين كوفئوا و رفعوا في مواقعهم في عهد الوريث بشار الأسد. وربما كي تكون حافزاً لشهادات أخرى تفيد و تثري مكتبننا الفقيرة بمثل هذه الشهادات رغم وفرة شهدائنا و مساجيننا.
الشـهـادة
عندما تفتح عينيك على ضجيج دائم في نفس اللحظة من فجر كل يوم. ضجيج محبب إلى قلبك. شغب مئات من عصافير الدوري اللاجئة إلى نوافذ مهاجع السجن المرتفعة. هرباً من الأمكنة المكتظة بالبشر الأقوياء. فهي تعلم بالتجربة أن قاطني السجن بشر مسالمون، بعيدون عن الأذى؛ السبب بسيط قد يعتبره من لم يعش في السجن، مزحة أو طرفة لكنها الحقيقة… التي لمستها خلال خمسة عشر عاماً عند الغالبية العظمى من السجناء » هي تقديرهم بل تقديسهم لكل مظاهر الحياة الطبيعية » شغفهم و توقهم إلى كل ما هو طبيعي و حي و متحرك. رغم أن حبي لذلك الضجيج الذي يشعرني أن قوانين الحياة أقوى من قرارات الحكومات و المسؤولين. أن قوانين الحياة و ناموسها يتغلب لفطرة نمائه و استمراره على كل محاولات تعطيل هذا النماء و هذا الاستمرار.
تمتد يدي إلى شعري المشعث لأحك فروة رأسي من أثر خدر النوم… أنظر عبر الشبك المعدني الناعم الموضوع فوق نوافذ المهجع الضيقة و المرتفعة حتى تكاد تلامس السقف، حرصاً من إدارة السجن على فصل السجناء عن بعضهم .. أبحث عن الشبك عن تلك الكائنات الطائرة الصغيرة. و هذا يخرجني من دائرة السكون و التكرار و لو لدقائق معدودة .. حتى العصافير المسالمة لا أستطيع رؤيتها كما هي كلما نظرتها أتصور و كأنها قطعت إلى مربعات شبكية.
أبحث عن ضوء الفجر. غصة في حلقي .. لأني حرمت من ممارسة طقسي الذي اعتدته في حياتي العادية. عادة كنت أمارسها بين فترة و أخرى.. التأمل الطويل و الصامت لمغيب الشمس و لتفتحها و إبتسامها اليومي. أمارسها لعدة أيام متتالية فأشعر بخدر لذيذ ناعم يتسلل من أطرافي و يمتد إلى قلبي، المضطرب بالمتعة و رأسي السادر في سكينة تجمع بين روعة مشاهد الخلق و خيالات تولدها اللحظة. فتصفو نفسي و أستعيد توازني.
أول مرة رأيت فيها الفجر بعد أربعة شهور و عدة أيام. لم أتمالك نفسي. بكيت بحرقة و بسعادة، شعرت بأمواج الغبطة و الفرح تجتاح كياني. كنت أحدق فيه و قشعريرة تهز جسدي لفرط جماله.. حدثته.. ناجيته.. و قالت له عيناي.. .سأراك.. سأراك مرة أخرى.. هذا ما حصل معي فعلاً في إحدى ليالي شباط عام 1981 بعد أربعة أشهر من إعتقالي قد يحتار البعض في ذلك .. و يعتبرها البعض الآخر مبالغة في الحساسية .. و أنا أقول ببساطة، إنها شفافية المحبة للحياة التي تطفو في روح و وجدان السجين..تصاعد الفطرة الانسانية .. و الابتعاد عن كل ما يلحق الأذى بكرامة الناس و حيواتهم.. و حيوات الكائنات الحية و ألوان الحياة .. حتى أن زميلاً سجيناً كان يعترض على قتل الفئران رغم الأضرار التي كانت تلحقها بنا.. و آخر وضع خطة نفذها بدأب و مثابرة عجيبتين لتحويل متر من الإسمنت في باحة التنفس إلى حديقة غناء. . . بعد أن عمل على نكشها بمسمار صغير، وضع تربة من فضلات الأطعمة و أقنع المساجين بتسريب بعض بذور الورد له.. و نجح في مشروعه بعد خمسة أشهر من العمل المتواصل.. و أصبح اسم هذا المتر طول / بعرض 40 سم » بستان يوسف « . آخرون قالوا حلم يوسف، أما يوسف فقال » بستان الحرية و الأمل » و أصدقكم القول إن قلت، كنا نشعر كلما خرجنا إلى باحة التنفس كأننا في حديقة غناء من أجمل حدائق العالم.
رغم مرور عدة سنوات على اعتقالي، كنت كل صباح، حتى و لو بدا صباحي هذا في الساعة الثانية عشر ظهراً .. أغمض عيني و ألقي تحية الصباح على صغيرتي التي لم أرها مذ كان عمرها سبع أسابيع. أقبل وجنتيها .. جبينها، يديها، قدميها و أداعبها .. و من ثم ألثم خد زوجتي. في كثير من الأحيان كنت أحاول الاستيقاظ مبكراً في نفس الموعد الذي أعلم فيه أن حركة الحياة تنشط في بيتي لأتخيل ما الذي يفعلونه في تلك اللحظات كل من زوجتي و طفلتي.
نعم لقد مارست هذا الطقس في السجن لعدة سنوات.. ذلك أننا حرمنا من زيارة الأهل لثلاث سنوات متتالية في بداية الاعتقال. .. و كنا مهددين دوماً بانقطاع الزيارات .. و لا يتمكن الأهل من رؤيتنا بعد طول عناء و تعب سوى مرتين أو ثلاث مرات في السنة و لمدة ثلاثين دقيقة في أحسن الظروف في كل زيارة.. خلال الخمس سنوات الأولى كانت الزيارة تتم في غرفة يعزل فيها أهلنا عنا بحاجز شبكي معدني، و يفصل بين السجين و الزوار وجود عنصر الأمن و لا يسمح للسجين بملامسة أهله أو زوجته و حتى أطفاله. ثم بعد انتقالنا إلى سجن عدرا المدني و إلحاقنا بمجموعات أخرى من السجناء، أصبحت الزيارة جماعية، و بقي محظوراً علينا ملامسة الأهل أو تقبيل أطفالنا. أحياناً كنا نضطر لأجل أطفالنا و بإحساس عميق و جيشان العاطفة، في أيام الأعياد، فنرغم أنفسنا على الطلب من مدير السجن السماح لنا بتقبيل أطفالنا، تتم الموافقة و مرة أخرى ترفض.. الأمر الذي يجرح كبرياء الانسان و يشعره بمذلة و غبن .. لذا فضل العديد من الآباء عدم تكرار السؤال و عشرات منهم لم يلمسوا أولادهم طيلة فترة السجن.
لم تكن السجون الثلاثة التي انتقلنا إليها خلال خمسة عشر عاماً سوى مراحل متدرجة من البؤس القاتل إلى الوضع الأقل بؤساً ثم الاستقرار النسبي.. و ذلك بعد خروجنا من الأرض السابعة، أو ما إصطلح السجناء على تسميتهم بـ « العالم السفلي » تيمناً بالأسطورة اليونانية في فصل يصف فيه عالم الموتى .. و سأحدثكم عن العالم السفلي بعد وصفي للسجون التي قدرت سلطات بلادنا أن علينا أن نحيا بها ـ أو نموت ـ إلى ما شاء . لأننا رفعنا أصواتنا لنتحدث عن أهمية سيادة القانون، و الفصل بين السلطات الثلاثة ، و إلغاء حالة الطوارىء و القوانين الاستثنائية و الحجر على الحريات المدنية، و جرية التعبير و التفكير و النشر. . هذا كل ما فكرنا به تقريباً و ما قلناه بنشرات بسيطة غير مسموح بتداولها لأن أجهزة الأمن لا تسمح لهذا التداول ببساطة و دون الاستناد إلى أية قوانين، بل الأنكى من ذلك أنها تخالف روح الدستور في بلادي المصاغ من قبل لجنة تمثل السلطات الحاكمة ينص على » أن الحزب الحاكم هو الوحيد المؤهل لقيادة البلاد ». هل يمكن لحزب أن يصادر مسبقاً إرادة الأمة و يصر على تمثيله لها إلى الأبد.
و اعلم يا عزيزي القارىء أننا لم نقم بأي تجمع عام حتى و لو اعتصام بسيط في ساحة عامة و هذا ما استحقبنا عليه عقوبة » خمسة عشر عاماً في السجن أنا و زملائي » .
في السنوات الأربع الأولى حشرونا في سجن القلعة، و هو سجن يقع وسط المدينة تقريباً على طرفها الشرقي، و هي قلعة تاريخية تعود إلى أكثر من ألف عام، مبنية من أحجار ضخمة. وضعنا في برج من أبراج القلعة، عددنا تراوح بين 56 و 66 سجين .. في هذا البرج يتهيأ لك أنك تعيش في العصر الأيوبي أو المملوكي. لا أعرف لماذا انتابني هذا الاحساس، أو كأني أعيش في بطن التاريخ .. أروقة و قناطر، مقصورات، قصراً من قلعة تستخدم كحامية للجيش المحلي خلال مئات السنين .. شوهت لتتحول إلى سجن يفتك بأبناء البلد .. فالمهاجع جميعها لا تعرف ضوء الشمس طيلة ساعات النهار. أما الأبراج و منها البرج الذي تواجدنا فيه فإنها خالية حتى من نوافذ التهوية، و لا يوجد في هذا البرج الذي تبلغ مساحته مئات الأمتار المربعة سوى أربعة دوائر في الجدار قطر الواحد منها لا يتجاوز الثلاثين سنتم . و الرطوبة تمتد من من الجذر التاريخي العتيق لتعشعش في لحمنا و عظامنا. إذا انقطعت الكهرباء في عز النهار .. كنا نشعل الشمع لنتمكن من التنقل عبر ممرات البرج الذي يغلق علينا بابه قبل مغيب الشمس بنصف ساعة في الشتاء و بثلاث ساعات في الصيف.. و يفتح لنا من الثامنة صباحاً .. ليغلق فيما بين الحادية عشر و الثالثة بعد الظهر… كنت أنتظر بلهفة لحظة فتح الباب الوحيد العريض المصنوع من قضبان غليظة و خشنة، لأخرج إلى الباحة مستنشقاً هواءً نقياً صافياً .. لأن رائحة البرج خلال الليل و في عدد لا بأس به من ساعات النهار كانت تشبه رائحة الإسطبل، فالتهوية معدومة و أشعة الشمس هناك عداوة كبيرة بينها و بين هندسة أبراج هذه القلعة.. رائحة البول، و رائحة غسيل الثياب و رائحة الطعام المطهي لأكثر من ستين رجلا في هذا المكان المعتم.. و الذي أطلق عليه سجناء أقدم منا إسم » البراد » أو » الكهف » نسبة إلى حكاية أهل الكهف الذين أصيبوا ثلاثمائة عام في غيبوبة تامة عن الدنيا ثم عادوا إليها مرة أخرى .. إذ أيقظهم ملاك الله ليروا ما تغير .. و المقصود بالأمر أن من يدخل هذا البرج لن يخرج أبداً.
كيف يمكنك تصور أن أكثر من ستين رجلاً يستخدمون مرحاضاً واحداً .. كان الواحد منا قد يضطر للإنتظار أمام المرحاض بعد إستيقاظه الصباحي أكثر من ساعة و أحياناً ساعتين … و الحمام إضطررنا إلى تنظيمه مرتين في الأسبوع لكل سجين لمدة خمس دقائق في كل مرة، لأنه لا يتسع لأكثر من شخص واحد .. و هذه نعمة استفدنا منها لأنها كانت حق مكتسب للسجناء السياسيين المحكومين في عام 1970 ، منهم من حكم مؤبد، و منهم خمسة عشر عاماً.. أما نحن فكنا مجرد موقوفين .. و بالتالي حرمونا كما سبق و ذكرت من الزيارات ثلاث سنوات و حاولوا تطبيق العزل بيننا و بين القدماء، و فشلوا لأن باحة التنفس واحدة و المهجع واحد.. و طلبوا منا ولم نستجب لطلبهم و مر الأمر بسلام.
لم يسمحوا لنا بإدخال حتى الصحف المحلية الرسمية لعدة شهور، أما الكتب فحرمنا منها حرماناً كاملاً لأكثر من خمس سنوات .. و حين كنا نطالبهم بإحضار كتب من مكتبة السجن .. يرفضون رفضاً قاطعاً.. لكنا كنا نستفيد من امتيازات السجناء القدماء فنستعير جرائدهم .. واضطرت إدارة السجن لعدم السماح لهم بالكتب أيضاً تشديداً علينا..
في مثل هذه الضغوط .. عيشك في مكان لا تنتمي إليه .. غريب من طراز بنائه، سواء كان قلعة أيوبية أو سجناً حديثاً ذا ممرات طويلة و باحة واسعة نسبياً .. إلا أنه مكان يضغط على أعصابك بتركيبته الغريبة لهندسته الغير قابلة للإلفة. أنت في السجن تفقد خصوصيتك، فرديتك تضمحل .. تصبح نهباً و عصبياً ليس للوائح نظامية دائمة تحدد حقوقك و واجباتك. بل أنت خاضع خضوعاً مطلقاً لمزاج و أهواء، ليس مدير السجن و حسب، بل لمزاج أصغر عنصر أمن من حراس جناحنا أو قسمنا في مختلف السجون التي تنقلنا فيها. معظم ضباط الأمن كانوا يقولون لنا و بالحرف الواحد » حقوق عن أية حقوق تتحدثون » ( بسخرية و هزء) » ليس لكم حقوق رغبتنا فقط و ما نريده نحن هي الحق الوحيد « . كان يحصل هذا حين نعترض على قساوة المعاملة و على الشتم و الاهانة و الضرب الذي يتعرض له بعض الزملاء، خاصة في سجن » الشيخ حسن » و سجن عدرا حتى عام 1988 بين وقت و آخر. حتى أن أحد الزملاء اغتاظ يوماً و قال » إذا كان لا يوجد لنا حقوق، لماذا تكون علينا واجبات، لماذا القوانين السورية، حتى القوانين الناظمة للسجون تتكلم عن حقوق السجين، و أنتم لا تتقيدون بشيء، صرخ الضابط في وجهه و كان برتبة مقدم: » هذا القانون الذي تتحدث عنه أصبح في قفاي وحذائي ».
معظم عناصر أجهزة الأمن و ضباطه من الريف، من النادر أن تجد عنصراً أو ضابطاً من المدينة، أية مدينة في اللاد .. و ريف البلاد عاش فترة لا بأس بها شبه معزول عن المدينة و المدنية. و التعبئة المنظمة من قبل مسؤولي الجهاز الأمني للعناصر كانت تجعلهم في بعض الأحيان شرسين جداً و لؤماء في التعامل معنا كسجناء سياسيين، بعضهم بسبب انتمائهم لمناطق معينة، أو لمذهب معين، و البعض الآخر خوفاً من السلطة و العقاب، كان يفتعل العقاب لسجين ما ليثبت ولاءه للجهاز الذي يعمل فيه. اكتشفنا مع تقدم الزمن و اتساع خبرتنا في حياة السجن أننا مشدودين إلى دولاب القدر بعدة حبال، دولاب العذاب الجهنمي هذا.
انتماؤنا السياسي وحده لا يشكل سوى عاملاً واحداً من عوامل الضغط علينا.. المسألة ببساطة خارطة عشوائية من العوامل، شبيهة بالأحياء الضخمة العشوائية التي حبلت بها أطراف عاصمتنا دمشق في ظل غياب أي نظام إداري و لائحة نظام في السجن، فيسيطر التسلط و الارهاب و المزاج الفردي، و السجانون ينتمون إلى طوائف مختلفة و كذلك السجناء و تتدخل مسألة الانتماء السياسي مع الانتماء الطائفي و يحصل حتى نوع من الانقسام الضمني بين السجانين في التعامل مع السجناء، فترى سجاناً يتعامل بلطف مع إبن طائفته ويستمري و يتشدد في الاعتداء أحياناً على سجين من طائفة أخرى.. . تلك كانت مشكلة حقيقية عانينا منها: أن نكون بشراً مباحين للشتم وكذلك الاهانة و الضرب في كل لحظة و لأتفه الأسباب. و كما قلت استمر ذلك حتى عام 1989 حين تم تغيير مسؤول سجننا، و كأن أنعمت علينا الأقدار بضابط مستجد، لم يخشى رأسه أو ربما هو محب للنظام والادارة و وجود قواعد واضحة في التعامل. بالاضافة إلى الأوامر التي أخذت تصدر في قيادات الأجهزة الأمنية بتخفيف الضغط عن السجناء السياسيين.
عندما نقلنا في شهر آب عام 1984 إلى سجن » الشيخ حسن » و هو عبارة عن مركز من أسوأ مراكز تحقيق الأمن السياسي في البلد. بناء صغير يحاذي حائط مقبرة المدينة يحتوي على طابقين في كل منهما غرفة تسمى » جماعية » و أربعة عشر زنزانة، و مكاتب الإدارة تتقدم المبنى .. عدنا إلى الصفر، و كأننا في الأشهر الأولى لاعتقالنا، فبعد أن كنا قد حصلنا على موافقة بامتلاك جهاز راديو صغير، و الجرائد و بعض المجلات الأدبية المحلية قبيل أربعة أشهر من إنتقالنا. سحبت كافة هذه الامتيازات، و لم يسمح لنا حتى بشراء أي طعام، سوى طعام السجن، و رغم وجود عدد كبير من المرضى فيما بيننا، مع أن عملية الشراء تتم على نفقة السجين. و حرمنا من الخروج إلى باحة الراحة أو التنفس، لأنه ببساطة لا يوجد في هذا السجن باحة للتنفس. هناك ممر ضيق يبلغ عرضه متر و عدة سنتيمترات تقريباً يفصل بناء السجن عن سوره و هو مستطيل الشكل، و بعد أخذ و رد و طلبات متكررة و تهديد بالاضراب، سمحوا لنا بالخروج إلى ذلك الممر مدة » خمسين دقيقة صباحاً و مثلهابعد الظهر » و استمر الوضع على هذا الحال بالنسبة لنا مدة سنة كاملة مع العلم أن زملاء لنا كانوا موجودين في مثل هذا الوضع منذ ثلاث سنوات.
المرعب و الشيء الذي يضغط على أعصابك و يجعل كل حواسك و مخاوفك و هواجسك المتبقية و المترسبة في أعماقك تستيقظ مجدداً .. حتى أنك تلهث أحياناً لدرجة الشعور بالاختناق و تشعر بالغيظ و القهر .. عندما تتناهى إلى مسامعنا خاصة في ساعات الليل أصوات التعذيب في غرفة التحقيق، أصوات العصي و الكابلات و هي ترتطم باللحم الآدمي .. تتلوها صرخات وحشية .. شيء ما يتحطم داخلك .. أحياناً كثيرة كنت لا أستطيع احتمال وتيرة الصوت المشحون بالألم و العذاب، فأرتجف و تنهمر دموعي قهراً و ذلاً .. مع أن الأمر كان يتم بشكل أسبوعي أكثر من مرة، و كان أكثر ما يشق علي أن تكون المعذبة إمرأة. كنا جميعاً نصمت لعدة ساعات، ننظر في وجوه بعضنا صامتين.. و أحياناً نتحاشى النظر إلى وجوه بعضنا، فكل منا يريد أن يجنب صاحبه في تلك اللحظة إحراج قراءة الألم و الخوف و تعابير الذل و القهر المرتسمة على وجهه. اعترضنا في إحدى المرات أمام ضبط مناوب على تعريضنا مرة أخرى و لفترة طويلة لمشاعر قاسية و على تعذيب الآخرين… استغرب طلبنا و اعتراضنا و قال: » تفضلوا امسكوا البلد عنا. و قولوا لنا شو لازم نعمل و لك شو نحن في السويد و لا بسويسرا. » و لن أقول أكثر من ذلك.
الجماعية : غرف خمسة أمتار طول و أربعة أمتار عرض هذا حجمها و قد خصص قسم منها لخزن الطعام في صناديق خشبية و قسم اعتبرناه نحن مطبخ و مكاناً لغسل الثياب و هو عبارة عن متر و نصف أو مترين مربعين حيث نسخن طعامنا على بوابير كاز قديمة في قلب هذه الغرفة التي يقطنها أربعون شخصاً.
كنا نقضي كل يوم في الغرفة إثنتان و عشرون ساعة و ثلث. و عند النوم تكون حصة الواحد ما عرضه 30 سم فقط. ضاق بنا الأمر و كثرت الضغوط علينا، و كلما كبرت الضغوط يسود التوتر بيننا و تنشب الخلافات بين السجناء. لكنها غالباً ما تكون خلافات بسيطة لا تتعدى الشتائم و الصياح و نادراً ما يتم التحام جسدي أو تضارب بالأيدي. كانت فعلاً نادرة تلك الحوادث في السنين السبع أو الخمس الأولى.. لكنها بالتدرج كانت تتصاعد كلما امتدت بنا السنون، أو كلما سرت إشاعات لعدة أسابيع حول إفراجات محتملة، ثم تمر الأيام الموعودة المحملة بالأمل دون حصول أية إفراجات .. تشعر حينها أن ثقلاً ما يحوم في أجواء السجن. إن كلام السجناء مع بعضهم يتضاءل، و شرودهم و ذهولهم قد كبر و أصبحوا يتصادمون صدامات صغيرة لأتفه الأسباب و أحقرها.. لكن سرعان ما تصفو النفوس ليتحول العراك إلى صمت متبادل و تستعيد العلاقة عافيتها.. إن قدرة الناس على الاحتمال مختلفة و مخاوفهم مختلفة و شروطهم مختلفة لذلك تولد ضغوط السجن الطويل احياناً ظواهر مدمرة مثل » هوس الريبة و الشك » و حدثت حالات كثيرة من انفصام الشخصية. كما تتولد امراض بسيطة قابلة للعلاج مع الزمن، مثل تركيز سجين لوساوسه و مشاعره المكبوته و مخاوفه على شخص آخر، غالباً ما يكون أحد زملائه في غرفته، و نادراً ما يكون أحد السجانين. فيبدأ الاحساس بمشاعر الكراهية نحوه و بانتقاده سراً و علناً و تحميله كل رذائل و آفات ممكنه… هذه الحالة كانت تتولد بين الحين و الآخر بين عددلا بأس به من السجناء. و أعتقد بأنها نوع من التفريغ لطاقة العدوان المتولدة عن القهر و الكبت.
لم ننتقل من سجن الشيخ حسن إلا بعد أن قمنا بإضراب نطالب بنقلنا إلى سجن دمشق المركزي عدرا. إضراب شامل عن الطعام. أعددنا من أجل نجاح الإضراب خمسة اشهر كاملة، اشترك فيه كل من كان في السجن »110″ سجناء. و بعد أن تعرضنا لضغوط التهديد بالنقل إلى سجن تدمر الرهيب و بالتهديد بالضرب و تم عزل البعض منا في زنازين فردية فلم نتراجع و اصرينا أن بقاءنا في سجن الشيخ حسن لسنة أخرى يعني موتنا صحياً، أو إصابة بأمراض لا شفاء منها طيلة العمر و أن السجن كزريبة البهائم الضيقة و كثرتنا و حرماننا من شراء غذاء و أطعمة مناسبة و على نفقتنا بسببالعددالكبير من المرضى بيننا، و السماح لنا بإدخال كتب و مجلات و جرائد محلية ريثما يتم نقلنا غلى سجن آخر.. بعد يومين وعدوا بالبحث عن حل للمشكلة، لقناعتهم بأن ما نقوله صحيح كما قال الضابط المفاوض و كان برتبة رائد و تم نقلنا إلى سجن عدرا المركزي بعد شهرين و نصف من الإضراب.
في هذا السجن بدأت رحلة جديدة .. فقد استفدنا من بعض الإمتيازات التي يتمتع بها السجناء اللاسياسيون، بوجود وحدة طبابة دائمة في السجن للصحة العامة، و عيادة سنية، كما سمح لنا بإحضار جهاز تلفزيون لكل غرفة و بالحصول على أجهزة راديو ولأول مرة منذ خمس سنوات سمح لنا بالحصول على أقلام و دفاتر .. كانت فرحتنا عظيمة بذلك. كدنا ننسى أننا آدميون و أن من حقنا الطبيعي أن نحصل على أكثر بكثير من هذه الأشياء الصغيرة.. أن نحصل على حريتنا و أن نسترد كرامتنا بالإعتراف بحقوقنا كبشر. المثل يقول عندنا » الذي لم يذق المغراية لا يعرف الحكاية ». عندما يسحق الانسان إلى درجة حرمانه من أشيائه الصغيرة و العادية في حياته اليومية، عندما يوضع في أمكنة لا تنتمي إليها روح الانسان و يجرد من كل شيء حتى من إسمه و يتحول إلى مجرد رقم ؛ فيما بعد يشعر لحظة استعادته لأبسط الأشياء أن الأقدار عادت لتبتسم له و تدب في خلاياه دماء الحياة. هذا ما حصل معنا في الأسابيع الأولى لوصولنا إلى الجناح السياسي المعزول عزلاً كاملاً عن بقية السجن. و من ثم أخذنا نكتشف بالتدريج أن إدارة الجناح تعمدت ان تمارس ضغوطاً متتالية نفسية علينا، بافتعال حراس السجن المشكلات معنا بين الفترة و الأخرى من أجل إيقاع العقاب بالزملاء لأتفه الأسباب منها مثلاً رفض بعض الزملاء القيام بخدمة حراس السجن بأن يقوموا بإحضار الطعام لهم مثلاً و تقديمه إليهم، أو رفضناغسيل ممرات و غرف الادارة .. و لسبب تافه جداً حصل ذات يوم و رفض أحدنا إخراج قمامة الإدارة و السجانين إلى مكان التجميع فما كان من عناصر حراسة السجن إلا أن انهالوا بالضرب عليه و أخذوا يصفعونه و يلكمونه و يركلونه في رأسه و وجهه و كافة أنحاء جسده : » ما بدك تخدمنا يا إبن الكلب، يا إبن الشرموطة و لك بدك تخدم حذاءنا و تلمعه بوجهك » و أجلسه العناصر في دولاب السيارة المطاطي و اخذ أحد العناصر يضربه بوحشية على قدميه العاريتين بكابل من النحاس و يركله و يشتمه و يصفعه في وجهه و مختلف أنحاء جسده و يأمره بمسح طاولة مكتبه من الغبار. رفض زميلنا رفضاً قاطعاً و أصر على رفضه : » أنا لست خادماً لكم و لا يمكن أن أجبر على القيام بعمل لا أرتضيه » . فدفع ثمن عناده أسبوعاً من التعذيب اليومي لمدة ساعتين كل يوم رفس و لكم و ركل و صفع و ضرب بالعصي و الكابلات النحاسية بالاضافة إلى بل جسمه بالمياه قبل الضرب و أثنائه و سكب الماء البارد عليه لفترات طويلة دون أن يفوزوا بمرادهم. إنه الزميل الذي لا زال حتى الآن في السجن » محي الدين ». بعد تلك الحادثة أدركنا كلياً أنهم لا يريدونا أن نفرح بنشوة ما حصلنا عليه نتيجة الاضراب. يريدون أن يهزموا في داخلنا روح التفاؤل و التحدي و الاحساس بالكرامة الإنسانية. ساد الجناح وجوم و حزن شديدين .. لسماعنا أصوات التعذيب و إلام زميلنا .. كان يستنجد بنا، لكنا تأخرنا في نجدته لأن معظم السجناء كان يعيش تحت كابوس انتقام الإدارة منا، و نقلنا إلى سجن تدمر الرهيب. و لأن ذكرى مذبحة سجن تدمر التي و قعت في صيف عام 1980 و أسفرت عن قتل أكثر من ألف سجين أعزل، لا زالت تعيش و ربما حتى اللحظة في ذهن كل سجين، و كثيراً ما كان ضباط الأمن يلجأون إلى هذا التهديد » سننقلكم إلى سجن تدمر » كلما شعروا بأننا نسعى للمطالبة بتحسين شروط وجودنا و استعادة جزء بسيط من حقوقنا كبشر.
لا يمكنني في هذه العجالة أن أتحدث عن شروط الوجود في سجن تدمر. فقد كتب آخرون عن الموضوع و سمعت عدداً هائلاً من الأمور الغريبة .. التي كان عقلي و وجداني يرفضان تصديقها حتى بعد مروري لسنوات بتجارب مريرة في السجن.. لأنها ببساطة أشياء مذهلة، لا تصدق .. فهل يمكن ان يتحول الناس إلى مجرد موضوعات تمارس عليهم أشد أساليب التعذيب الجسدي و المعنوي و التجويع و قتل عدة اشخاص يومياً بشكل عبثي دون أي سبب مباشر ؟ هذا ما كان يحصل في تدمر. ما رواه لنا عشرات بل مئات الأشخاص الذين عادوا من هناك بعد عام 1985 بالتدريج . كانت لدى معظم السجناء صورة واضحة عن ذلك السجن. لذا كان يكفي ذكر إسمه من قبل ضابط الأمن ليشكل ضاغطاً نفسياً هائلاً و رادعاً مخيفاً.. العديد من الزملاء الذين تعرضوا لضغط الضرب و الاذلال و الشتيمة خلال فترة السجن كانوا يصابون بأعراض كابوسية أثناء نومهم، و بعضهم كان يستيقظ هلعاً و هو يصرخ و يتفجر بالبكاء و تستولي عليه نوبة من الهستيريا لعدة دقائق قيصاب بتشنج و تصلب في جسده، و يبدأ جسده بالإهتزاز كأنما تياراً كهربائياً قوياً يسري فيه، حدثت هذه الحالة لعدد لا بأس به من الزملاء .. بعضهم أصيب بأمراض نفسية حادة كالزميل و الأخ » مصطفى الحسين » و رغم قرار لجنة طبية لم يفرج عنه.
بين الفترة و الأخرى كانت تحدث هذه الانهيارات العصبية و نوبات الهستيريا المؤقتة .. أما الكوابيس الليلية اليومية فكانت تلازم بعض الأفراد و البعض الآخر بشكل متناوب.. إنه الحصر.. إنه الرعب و الهلع من أن تقضي بقية حياتك في السجن لأن السلطة كلية القدرة و تفعل ما يحلو لها. كيف يمكن لروح الانسان أن تتحمل كل هذه العذابات دون أن تئن أو تختلج شاكية؟
في عام 1986 ـ 1987 تعرضنا لخفض كبير في مخصصاتنا الغذائية، ثلاث وجبات شحيحة ـ لا يمكنك أن تتخيل إفطارك هو 50 غ مربى و بيضة أو عدة حبات زيتون فقط ـ الغذاء يفتقد إلى النظافة و افتقدنا اللحم. ربما قد تبلغ حصة الفرد في ثلاث وجبات و في الأسبوع 60 غراماً و على العشاء حبتي بطاطا مسلوقة، أو بيضة أو 50 غرام حلاوة، أو عدة حبات من الحمص أو الفول. و نحصل على ثلاثة أرغفة من الخبز يومياً وزنها الاجمالي لا يتعدى 350 ـ 400 غرام. هذا الوضع الذي استمر عامين أدى إلى انهيار مناعة أجسادنا، فتفشت مختلف أنواع الإلتهابات في السجن. فأكدنا عدة مرات على المطالبة بالسماح لنا بشراء الأطعمة من خارج السجن و أن يسمح لأهلنا بإحضار بعض المواد الغذائية .. و لم تتم الإستجابة الكاملة حتى أواخر 1987 .. بعد تدهور الوضع الصحي إلى حد كبير لمرضى الجهاز الهضمي الذين لا يتوافق نوع الغذاء المقدم في السجن مع حالاتهم الصحية. كثيراً ما كنت و كنا في بعض أشهر الشتاء نقضي أياماً و نحن نجلس في أسرتنا ملتحفين بالأغطية درءاً لشدة البرد .. نعم الغرف مجهزة بأجهزة تدفئة إلا أنها أحياناً لا تعمل بسبب نفص الوقود .. و في مثل هذه الحالات المتكررة كانت تجتاح السجن موجة من الإنفلونزا الحادة.
تجنبت التعرض إلى نقطة هامة، في عدة مرات و لكسر معنوياتنا و ممارسة ضغوط علينا. كان يحضر ضابط أو أكثر من الفرع الإداري ليطرح علينا إمكانية إطلاق سراحنا شريطة أن نقدم بياناً بالانسحاب من الحزب و التخلي عن ممارسة أي نشاط سياسي، و إعلان القبول بالتعاون مع الأجهزة الأمنية و وضع أنفسنا تحت خدمتها. البعض يرفض و آخرون يستجيبون. هكذا كانت تسير الأمور، و يحدث أن تتم إفراجات فعلية حصل ذلك عام 1984 حين أفرج عن خمسة منا وافقوا على الشروط و في عام 1991 حين أفرج عن عدد كبير تجاوز في سجن عدرا نسبة 70 بالمائة . حين لا تحدث إفراجات بعد مثل تلك المساومة، و هذا ما حصل عدة مرات، تشحن حياة السجن بالتوتر و الترقب .. و تنشأ عداوات ضمنية بين السجناء و كنتيجة للإحباط تتفشى الروح العدوانية و تحدث المشكلات الصغيرة بين الناس.
السجن بيتنا.. هكذا كان علينا أن نعترف نحن الذين , بعد مضي عدة سنوات أخذنا نشعر بأننا لن نخرج إلا إذا حدثت تغييرات كبرى إقليمية ، محلية أو دولية. لكنا منذ البداية، في الأشهر الأولى سعينا لتنظيم هذا البيت .. إلى إدارة شؤونه بحرص كي نخفف من التصادمات اليومية، التي يمكن أن تقع حول شؤون النوم و كيف نشغل المكان و نوزع إستخدامه ؟ و كيف نحصل حاجاتنا المشتركة من أدوات لتنظيف المراحض و أحواض الجلي و أرض الغرفة و ممر الجناح و الباحة. و كان ثمن ذلك كله و ثمن مصابيح الكهرباء و الشرائط و البرايز و السخانات الكهربائية المخصصة للشاي و القهوة و المياه الساخنة و كلها للإستخدام الجماعي .. و علينا نحن أن ندفع ثمنها لا إدارة السجن بالإضافة فيما بعد إلى المكانس و مساحات الماء و غسيل الأرض. كيف نشتل الممر و نستخدمه؟ كيف نستخدم الباحة و نقسم الوقت بين الرياضيين أو من يحبون ممارسة الرياضة ( ركض تمارين سويدية) و بين من يريد أن يتمشى فقط. كل ذلك يحتاج إلى تشكيل لجان للنقاش و ضبط الأمور و المراقبة. كنا نعقد إجتماعاً دورياً على مستوى كل غرفة و في غرف سجن عدرا ( 11 متر طول و 6 متر عرض) لم يتجاوز عددنا الأربعون في الغرفة الواحدة و لمدة شهور فقط و في معظم الأحيان 25 شخصاً، لتنظيم شؤون الحياة في الغرفة من إستيقاظ و نوم و تحديد أوقات للصمت و الهدوء في النهار، و توزيع الخدمات، من تنظيف و توزيع طعام، و تكليف بمتابعة شراء الحاجات العامة و محاسبة مالية.. إلخ . و هذا ما يحصل على مستوى الجناح أيضاً كما أننا خصصنا صندوقاً مشتركاً لتغطية النفقات العامة. هذا الشكل من التنظيم للعلاقة و الحياة .. كان يحافظ على أقل قدر ممكن من التوتر أو تولد صدامات، و خلافات نتيجة إختلاف الأمزجة، كما كان يحافظ على حد لا بأس به من التضامن فيما بيننا.
لا يمكن أن أنسى من ماتوا معنا في السجن قهراً .. أو نتيجة للتعذيب الذي تعرضوا له . الأخ عبد الرزاق أبازيد نتيجة إصابة بإلتهاب رئوي حاد .. إثر تعرضه في فترة التحقيق للضرب الشديد و تعريضه للماء البارد جداً، بأن يوضع في بركة من الماء شبه المثلج ثم يوضع في زنزانة دون أغطية و لعدة أيام ، قضى نحبه بعد شهرين أو ثلاثة.
الشيخ » أبوسليم المصري » قضى نحبه بعد قضائه سبع سنوات في السجن و هو رجل طاعن في السن تجاوز السابعة و الستين من العمر، تهمته الوحيده هو و أولاده الإثنين و أخيه و أزواج بناته الإثنين وإبن أخيه أنهم من عائلة المصري ، و هم موقوفون كرهائن حتى يسلم إبن الشيخ المطارد و المطلوب نفسه للأجهزة الأمنية. توفي هذا الشيخ بصمت و جلال إثر نوبة قلبية تعرض لها بعد منتصف ليل أحد أيام عام 1990 .
» عبد المجيد أبو شالة » مهندس كهرباء، حلبي اعتقل عام 1980 إثر بيان النقابات المهنية ، أصيب بسرطان الأمعاء عام 1989 و قضى نحبه بعد أن تأكدوا من إصابته بالمرض و أن لا أمل من شفائه، توفي بعد شهرين من خروجه من السجن.
و أخ لنا، أحد قياديي التنظيم الشعبي الناصري » أحمد رجب » و الذي توفي إثر نوبة قلبية أصيب بها بسبب الإجهاد الذي تعرض له بنقله من سجن إدلب إلى فرع تحقيق الأمن في دمشق، حيث قضى عدة ساعات وهو يأمل بإطلاق سراحه ، بعد أن أفرج عن زملاء له في دمشق و حلب و إدلب. و كانت المفاجأة، إخبار العقيد له بأنه سيتم تحويله إلى محكمة أمن الدولة العليا، و هذا ما كان يخشاه ، لأنه بذلك سيفقد وظيفته و عمله و هو أب لخمسة أطفال يعانون من الحاجة و الحرمان منذ دخوله إلى السجن في عام 1986، بعد نقله بساعات إلى سجن عدرا توفي ليلاً … لم نتمكن جميعاً من رؤيته .. لأنه طبق علينا في تلك الفترة ـ نحن الذين بقينا في سجن عدرا بعد إفراجات شهر كانون الأول 1991 ـ نظام عزل قاسي. حرمنا من التنفس، أوقفت زياراتنا لأكثر من شهرين، و منع الاتصال معنا منعاً قاطعاً حتى بين غرفة و أخرى .
تجنبت طوال الحديث السابق الكلام عن مرحلة الإعتقال الأولى، و فترة التحقيق لأن ذكراها تؤلمني، تشوشني، تحيي في داخلي كل مشاعر الذل و المهانة و الألم النفسي .. عندما تصبح لا شيء و هم يؤكدون لك بوسائلهم في كل لحظة انك مجرد رقم يمكن أن تمحى ليس من سجلاتهم بل من الوجود متى شاؤوا وببساطة.. رقمي أنا كان » 61 » .. هذا ما علمته بعد عودتي من المشفى إلى فرع التحقيق، قضيت في المستشفى سبعة أيام، إثنين منها في غرفة العناية المشددة و أنا بحالة غياب كامل عن الوعي. و السبب ببساطة طلبوا مني بعد اعتقالي بدقائق و أنا معصب العينين و مغلول اليدين و القدمين. طلب مني هشام بختيار ، و هو عميد حالياً كما طلب فيما بعد » علي دوبا » رئيس شعبة الإستخبارات العسكرية تزويده بمعلومات لا أملك منها شيئاً. قال : » قل ما نريد و ستعود إلى عملك و بيتك، أنت صحفي و مثقف و نحن لا نريد إيذاءك ». رغم شعوري بالخوف ابتسمت في سري، خمسة عناصر مسلحين بالرشاشات » الكلاشينكوف » يسوقونني في منتصف الشارع و يخطفوني من الطريق، يعصبون عيني و يكبلون يدي بالأصفاد، و يقول » لا نريد إصابتك بأي أذى ». أكدت لهما عدة مرات أني لا أملك معاومات عن الموضوع الذي يحققون به .. نعم أنا صديق و مؤيد لخط الحزب الشيوعي السوري ( المكتب السياسي)، لكن هذا لا يعني إمتلاكي المعلومات التي تطلب، أجبت السيد علي دوبا.
و بدأت دورة العذاب الجهنمية التي تركت آثارها في أيامي و طيلة حياتي المتبقية .. آثارها جسدية تمثلت بأعطال شبه دائمة و أخرى مؤقته، و آثار نفسية لن تمحيها السنوات.
علقت على سلم حديدي مرتفع، يدي مشدودة إلى عارضة حديدية و جسمي يلوح في الهواء مرتفعاً عن الأرض بقدر متر تقريباً، بعد أن جردت من كافة ملابسي .. كل هذا و عيني معصوبتين بعصابة سوداء .. مع عدة لكمات في البطن و أسفل الظهر.. لم أستطع تحديد الوقت الذي بقيت فيه معلقاً أتأرجح في الهواء كل ما أذكره الألم الفظيع في عضلات البطن .. ثم تشنج و صبيب من العرق .. و غياب عن الوعي .. صحوني لتيدأ مرحلة أخرى من العذاب .. الضرب بالكابلات على القدمين حتى تورمتا تورماً كاملاً .. و كلا الضابطين يعيدان نفس الأسئلة أثناء عملية الضرب .. و أنا أؤكد أني لا أملك أية معلومات تفيدهم في الموضوع المطروق، إغماء مرة أخرى.. وجدت نفسي بعدها مربوطاً إلى كرسي و ركبتي تبرزان إلى الأمام و تسبب في ثني ساقي و ربطهما بطريقة لا أعرف كيف تتم حتى هذه اللحظة، لأني كنت في حالة تشوش عالية .. و لا تزال العصابة على عيني و فخذي في وضعية الفسخ..
تناول العميد هشام جسماً صلباً مفلطحاً و أخذ يضربني بشدة و لؤم على ركبتي و يكيل لي السباب و الشتائم بلغة فاحشة مليئة بالبذاءة و الرذيلة : » ياكلب، يا حيوان، أنت حشرة سأمعسك بقدمي .. يا إبن الشرموطة سأفعل و أترك بأخواتك و أمك » و يعيد الضرب .. و أنا أكرر الإجابة ذاتها. كان اللواء علي دوبا أمهر منه بكثير في السباب و الشتائم … و لا غرابة في ذلك فهو رئيسه .. و بعد أن ثار غضبه، اخذ علي دوبا يكلمني و يركلني بقدميه .. و قال : » و الله يا كلب، يا إبن الشرموطة ، إذا ما إعترفت، لأحضر زوجتك، هالشرموطة و أعريها قدامك هون و أفعل فيها … » أصبت بدوار شديد و شعرت برغبة شديدة في تقيؤ كل محتوياتي في وجه هذا الوحش. غبت عن الوعي مرة أخرى .. و صحوت لأجد نفسي ممدداً على الأرض .. و قد ربطوا بأصابع يدي و رجلي سلكين كهربائيين .. و بدأ التيار يسري في جسدي و أنا ممدد على أرض مبللة بالماء.. العميد بختيار يقف عند رأسي .. و اللواء علي دوبا يجلس على كرسي. للحظات قليلة استطعت مشاهدته من خلال فرجة تحت عصبة العينين السوداء لأني كنت في وضعية استلقاء كاملة. كان يرتدي بنطالاً سكرياً حريرياً .. يضع رجلاً على رجل و في فمه سيكار ضخم .. و يحمل في يده كأساً من الويسكي هذا ما شاهدته حقاً و أنا أرتعد من سريان التيار الكهربائي في جسدي و الألم يمزق كل خلية في جسمي و بشكل خاص دماغي، كانوا يقفون للحظات يعيدون السؤال .. ثم يسكبون الماء على جسدي، و يعودون لتمرير التيار الكهربائي .. لم أستطع معرفة مقدار المدة الزمنية التي قضيتها تحت التعذيب، في المرحلة الأخيرة لم أعد أقدر على إحتمال الألم، رأسي كرة تلتهب، أشعر بأني أتمزق و أتلاشى، دماغي تكاد تنفجر من شدة الألم و التيار لا يتوقف عن السريان في عروقي. بيأس كامل أخذت ألطم رأسي بشدة بالأرض بكامل القوة التي بقيت في جسدي كنت أرفع رأسي لأخبطها و أضرب الأرض بشدة .. أخذوا يشتمونني أمسكوا برأسي .. وقف علي دوبا مغتاظاً من عدم وصوله على أية نتائج مرجوة لمعلومات لا أملك منها شيئاً، و أخذ يركل رأسي بحذائه بقسوة و يدوس على رقبتي و يدخل مقدمة حذائه في حلقي و هو يقول غاضباً : » بدي موتك يا عرص يا إبن الشرموطة، تريد أن تموت بطلاً سألبي لك رغبتك، موت يا شرموط يا إبن العاهرة « . و سمعت شتائم لم أسمعها طيلة حياتي من بشر . ثم تناول خيزرانة و إخذ يضربني بها على مختلف أنحاء جسدي.. و هشام يشاركه الضرب بكابل نحاسي.. لقد فقد صوابه ، تكسرت عصاه ، تناول الكابل من يد هشام و أخذ يتابع ضربي بشكل هستيري. لم أعد أشعر غبت عن الوعي تماماً .. بعد مضي ساعات وجدت نفسي في مشفى لا أعرفه، علمت فيما بعد أنه مشفى المزة، حيث قضيت سبعة أيام .. أعدت بعدها إلى فرع تحقيق المنطقة حيث قضينا خمسة عشر يوماً ملقيين على أرضية غرفة تقع تحت الأرض، خمسة و خمسون رجلاً في أربعة أمتار مربعة لا نعرف ليلاً من نهار، عيوننا معصوبة في الليل و النهار و أيدينا مكبلة بالأصفاد طيلة أربعة و عشرين ساعة، و السجان مقيم معنا في الغرفة، كل عدة ساعات يغيرون السجان الذي يحمل في يده كابلاً نحاسياً لمعاقبة كل من يحاول الكلام مع جاره .. العقوبة ضربات و ركلات و شتائم لكل من يهفو بحرف إلى جاره الذي يلتصق جسده بجسده .. أو حاول التخفيف من أثر العصابة التي على عينيه بأن يحك عينه من فوق العصابة الجلدية الضاغطة على العينين .
أنا شخصياً كنت في شبه حالة انفصال عما يحدث، لأني أعاني من آلام حادة في كافة أنحاء جسدي لم أكن أستطيع الوقوف أو المشي دون مساعدة أحد للسير عدة أمتار خارج الغرفة لقضاء حاجتي في التبول . أما التغوط فلم يحدث، فقد أصبت بإمساك حاد، طيلة أسبوعين لم أستطع التغوط مما أدى إلى إصابتي بتشققات شرجية توسعت مع سني السجن الطويلة الخمسة عشر، و عانيت بسببها آلاماً مبرحة. اكتشفت بعد استعادتي لوعيي بالتدرج أني مصاب بشلل نسبي في يدي فأنا لا أستطيع حمل السندويشة بأصابعي، بل بجماع كفي و كذلك كأس الماء. و بقيت حالة الشلل هذه مدة عشرة أشهر تقريباً ثم أخذت تتلاشى بالتدرج . .. كما أصبت بتمزق في غضروف ركبتي اليمنى .. أجري لي عمل جراحي في بداية عام 1993 و تم استئصال الغضروف الممزق في مشفى حكومي. و ها أنا أكتشف بعد أربعين يوماً من إطلاق سراحي أني مصاب باللوكيميا » ابيضاض الدم » . رغم أني غادرت السجن إلا أنه لم يغادرني. فآثار آلامه تغلغلت في دمي، لكن روحي ما زالت تهفو إلى الحرية و الكرامة و العدالة.
رضا حـداد *
• ولد رضا حداد عام 1954 لأب دمشقي و أم لبنانية جنوبية درس في بيروت و نشط في صفوف فتح وفيما بعد في حزب العمل الشيوعي في لبنان . و شارك في النضال إلى جانب المقاومة الفلسطينية و الحركة الوطنية اللبنانية . درس اللغة الفرنسية و آدابها في جامعة دمشق و عمل في الصحافة . انضم إلى صفوف الحزب الشيوعي السوري ( م س ) عام 1979 ، توفي مساء الاثنين 10 / 6 / 1996 .
المصدر: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=8376