لا وصاية على حرية التعبير- أمجد ناصر
لم تكن مشكلة الشعوب العربية مع أنظمة الاستبداد التي ثارت عليها والتي لا تزال تستجمع قواها للثورة عليها، هي رغيف الخبز فقط، ولا خيانة القضايا الوطنية وادعاء عكس ذلك، ولا حتى نقل كرسي الحكم من سلف بائس إلى خلف أكثر بؤسا، بل كانت -إلى جانب كل ذلك- مشكلة الحرية.
من البداهة القول إنه في غياب الحرية لا يوجد إبداع، وبلا إبداع ستكون حياة الناس أقرب إلى حياة الأنعام منها إلى حياة البشر الذين يتوجب عليهم جعل هذه الأرض مكانا أفضل لعيشهم.. ولن تكون هذه الأرض مكانا أفضل لبشرها من دون حرية تكفل لهم التعبير والإبداع، أي تحقيق شرط آدميتهم.
من يريد أن يعرف لِمَ لا نزال نرسف في التخلف على غير صعيد، فليراجع تاريخ الثقافة العربية المعاصرة. هي التي ستقول لنا -بما سطّرته وما صمتت عليه- لماذا لم ينجح مشروع النهضة العربية الذي ترافق تقريبا مع مشروع النهضة اليابانية. هي التي ستخبرنا أننا نعيش ما يشبه « استئناف البدء »، حيث تتم العودة -قسرا- كل مرة إلى نقطة الانطلاق الأولى، بلا تراكم من شأنه أن يصنع تحولا.
سيقول لنا الذين يعلقون كل شيء على مشجب المؤامرة الأجنبية إنه « الآخر » الذي أعاق نهوضنا وأغرقنا في حروب وصراعات لم تنته فصولها، وبنى في قلب عالمنا قلعة حربية متقدمة له تسمى إسرائيل. وهذا صحيح فعلا، غير أنه وجه واحد من العملة. أما الوجه الثاني فيحاولون التغاضي عنه.. إنه نحن.
إنه فشلنا في خلق « التحدي الحضاري ».. إنه دورنا في « توطين » الاستبداد الذي اتخذ على مدار خمسة أو ستة عقود أسماء شتى، لكن محصلتها واحدة هي ما كنا عليه قبل النيران التي طارت من جسد البوعزيزي إلى فضاء قابل للاشتعال في طول وعرض العالم العربي.
هذا ما تحاول أن تتصدى له الثورات والانتفاضات العربية الراهنة رغم الدم الذي يغرقونها فيه.. هذا ما تستهدفه من قيمٍ في مقدمتها قيمة الحرية التي تتقدم على أي شيء آخر، باعتبارها الشرط الذي تتحقق فيه آدمية الإنسان ومن ثم إبداعه وتحضّره.
وفي سبيل هذه الحرية بذلت أفواج متلاحقة من العرب أرواحها على مذبحها، أنفقت عقودا من أعمارها في غياهب السجون، صرمت أفضل سني حياتها خارج بلادها. لذلك مثَّلت الانتفاضات العربية المتواصلة -بما بذلته من تضحيات كبرى- فرصة لإعادة « إطلاق سراح » التاريخ من عقاله.
ستكون كارثة حقيقية أن يخرج العالم العربي من استبداد إلى استبداد، ومن وكالات حصرية رسمية باسم المقدّس والقيم إلى وكالات حصرية رسمية وشعبية -هذه المرة- باسم المقدّس والقيم. حينها لن نكون فعلنا شيئا سوى التضحية بهذا العدد الهائل من الشهداء والجرحى والمعتقلين والمفقودين والمهجرين.. سوى هذا الدمار العظيم للبنى التحتية والفوقية معا، من أجل « سيد » جديد، بصرف النظر عن الدعاوى التي يتخفى وراءها.
مثل هذا الخطر ماثل وبوارقه موجودة، وها هي تتوالى بدءا من تونس وليس انتهاء في سوريا مرورا بمصر. من الاعتداء على الشاعر التونسي الصغير أولاد أحمد، واقتحام معرض تشكيلي في « ربيع الفنون » بتهمة « انتهاك المقدسات »، وما رافق ذلك من أعمال شغب (أين نضع اغتيال شكري بلعيد يا ترى؟)، إلى توجيه تهمة « ازدراء الأديان » للروائي والباحث المصري يوسف زيدان.
وبين الصغير أولاد أحمد ويوسف زيدان، صودرت كتب واقتحمت مؤسسات إعلامية وطاحت رؤوس تماثيل لطه حسين وأبي العلاء المعري و »نُقَّب » تمثال أم كلثوم، في حملة مزدوجة ترمي إلى احتقار الفن وتحريمه من جهة، ومحاولة قتل الرموز الثاوية في تلك التماثيل من جهة أخرى.
ما يجمع بين هذه الأحداث -وغيرها الكثير، إذ لست في معرض الحصر- هو نسق واحد: استقواء قوى وجماعات دينية بالسلطة التي أنتجتها ثورة لم تكن هذه القوى سببا في تفجيرها ولا طرفا فيها، أو بانفرادها بوكالة حصرية لتفسير المقدّس وتطبيق « أحكامه » من دون أي حق ديني أو وضعي (كما تبدَّى في حملتها على التماثيل والمزارات والزوايا الصوفية والمقابر في مصر وتونس وليبيا وسوريا).
ما يجمع بين هذه الأحداث غير المتفرقة وغير الفردية، هو بالنسبة للبعض محاولة وضع الحياة العربية بعد سقوط الدولة الأمنية، على سكة واحدة. فها هي « طريق الحق » في مقابل « طريق الباطل ».. « طريق الإيمان » إزاء « طريق الكفر »، وها هو « الحلال بيِّن » و »الحرام بيِّن » وليس بينهما أمور مشتبهات.
فهؤلاء الذين أعطوا أنفسهم حق النطق باسم المقدَّس، غير متضلعين على الأغلب في علومه الغزيرة والمركّبة، يرون الحياة بالأبيض والأسود رغم أنها أكثر تعقيدا من ذلك، ورغم أن نصوص المقدس التأسيسية تخضع لأكثر من تأويل وحمّالة لأوجه متعددة.
هذا جدل ثيولوجي أتركه عند هذا الحد لأربابه، وأعود للقول إن الشعوب العربية لم تثر من أجل هذا. لقد ثارت لأنها اختنقت تحت حكم بن علي والقذافي ومبارك والأسد وعلي صالح وغيرهم من رموز الاستبداد واستنقعت حياتها، وكادت تفقد الأمل في تنسّم هواء الحرية، دع عنك اللحاق بركب الشعوب والأمم المنتجة الحاضرة في المشهد العالمي اليوم.
ولتتذكر تلك القوى التي تستل سيف المنع والتكفير والتحريم، أنها كانت الأكثر عرضة للإقصاء والتهميش والزج في السجون، فلا تمارس اليومَ الظلامة التي وقعت عليها بالأمس، ولتتذكر -أكثر من ذلك- أن شعوبنا مكونة من طوائف وأديان ومذاهب وإثنيات وفئات مختلفة المشارب السياسية والفكرية.. هكذا كانت على مدار نحو 14 قرنا، ولن تكون إلا على النحو الذي تريد وترضى، خصوصا في هذا الزمن الذي صنعت -باللحم والدم والأرواح- ثوراته وانتفاضاته.
عن « الجزيرة.نت »