ما بعد مذبحة الحولة -عيسى الشعيبي
ما بعد مذبحة الحولة -عيسى الشعيبي
ليست مذبحة الحولة التي هزت الضمائر هزاً عنيفاً، وأثارت الجزع لدى الرأي العام الدولي، أول الارتكابات البشعة لحكم آل الأسد، ولا هي أكثر جرائم تلك السلالة هولاً ودموية، قياساً بما جرى في مجزرة هذا العصر في حماة قبل ثلاثة عقود خلت، أو ما حدث تباعاً في جسر الشغور وغيرها من أعمال إدلب وحلب وحمص ودرعا مؤخراً. إلا أن هذه المذبحة التي بدت وكأنها منقولة عبر البث الفضائي المباشر، سوف تحتل المكانة التاريخية الأبرز بين مثيلاتها، كوصمة عار أبدية في سجل الأب والابن معاً، وكحلقة أخرى في سلسلة المذابح الشهيرة.فنحن هنا أمام جريمة تم توثيقها بصور الضحايا الأطفال قبل أن تبرد أجسادهم الغضة، وبشهادات الأمهات الناجيات من الذبح؛ سجلها هذه المرة فريق من المراقبين الدوليين، وليس نشطاء أو شهود عيان يمكن الطعن بمصداقيتهم. أي إننا أمام جريمة كاملة الأوصاف، مكتملة الأركان، حيث القرائن لا يمكن دحضها، والأدلة الدامغة لا يستطيع نفيها قاتل ذو أسبقيات جرمية عديدة، كان يفلت من العقاب دائماً، ليس بفضل إتقانه فن المراوغات فقط، وإنما أيضاً بفعل إسكات الضحايا وتخويفهم، وإخفاء الشهود قسراً، والعبث بالأدلة الجرمية دائماً.وعليه، فإن مجزرة الحولة التي فتحت العيون على اتساعها، ونهرت الضمائر من سباتها، تختلف عن سابقاتها وتتفرد بوصفها مذبحة ضد الطفولة البريئة، وترقى في حيثياتها المفزعة إلى رتبة جريمة ضد الإنسانية، على غرار ما قارفه مناحيم بيغن في دير ياسين، وأرئيل شارون في صبرا وشاتيلا، وسلوفودان ميلوزوفيتش في سيبرينيتشا، وغيرهم من برابرة القرون الوسطى وجنرالات عصر الاستعمار والحروب القومية الحديثة.إذ قبل انكشاف هول ما جرى في البلدة السورية المتآخية مع حمص عاصمة الثورة، كاد الضمير الإنساني والرأي العام العربي والدولي، أن يتعودا على رؤية الدم المسفوح ومشاهد القتل والترويع المتدفقة عبر الفضاء الإلكتروني من عموم الديار الشامية، وأن يتطبعا من حقيقة أن في سورية موتاً يومياً بالجملة والمفرّق، وأن هذه الأزمة الطويلة من المقدر لها أن تطول أكثر؛ وذلك إلى أن وقعت الواقعة، ووصلت الرسالة جلية كاشفة، ليس عما جرى في الحولة فقط، وإنما عما سيحدث في غيرها من المدن والبلدات السورية.وهكذا وضعت الحولة نقطة في نهاية سطر التغافل الدولي الشائن عن جرائم الطغمة المتشبثة بسلطة الخوف وإرهاب الدولة، وجعلت من نفسها علامة فارقة في مسار الأزمة التي عبرت نقطة انعطاف حاسمة، الأمر الذي يمكن معه القول، بحد أدنى من التحفظ، إن مجريات هذه الأزمة المستفحلة بعد مذبحة الحولة لن تكون كما كانت قبلها، وإن ما كان مسكوتاً عنه لجملة من الاعتبارات قد انتهى إلى غير رجعة. وقد لا يكون من قبيل المبالغة في شيء الاستنتاج بأن العد العكسي الذي كان بطيئاً في حكم بشار الأسد قد بدأ الآن على نحو أسرع.ومع أن عواقب هذه الجريمة الموصوفة لم تكتمل بعد، وأن ردود الأفعال الأولية عليها لم تتوقف إلى اليوم، بما في ذلك بيان مجلس الأمن وعمليات طرد سفراء الأسد، إلا أن التداعيات السياسية والانفعالات الضميرية إزاء مشاهد ذبح الطفولة، تحملنا على القول إن التحول في مسار الأزمة سوف يحفر مجرى عريضاً، يتسع من الآن فصاعداً إلى سيل من المبادرات التي ظلت إلى الآن مجرد حبر على ورق، وإن التدخلات التي كانت محكومة بالمخاوف، المشروعة منها والمفبركة، تهافتت بشدة وتداعت من تلقاء نفسها، إثر انكشاف هول هذه المجزرة.إزاء ذلك كله، فإن لنا، ونحن نشاهد النظام المتوحش يغرق أكثر فأكثر في دماء شعبه، ويتخبط بشدة في دفوعه من روايته الكاذبة، أن نرى في التحولات الطفيفة لدى ما تبقى من حلفائه، بمن في ذلك الروس والصينيون، وحتى حزب الله، وغيرهم من القلة القليلة النائمة في عسل معسكر الممانعة، مؤشرات إضافية على أن سلطة الأسد قد انتهت وإن لم تسقط بعد، وأن خاتمة النفق المظلم قد باتت ترى بالعين المجردة، وأن ما كان حتى الأمس القريب مجرد أمنية تداعب خيالات الثورة السورية المجيدة، قد بات أقرب ما يكون إلى الحقيقة المتجلية.